تناقض الطرح المفاهيمي للتنمية مع طبيعة المشاريع المنفذة (1)
المنظمات الدولية ومشاريع التنمية .. من الخطاب الرأسمالي إلى رؤية الشهيد القائد
إبراهيم الهمداني
طالما روَّج الخطاب الرأسمالي لمشاريع التنمية وللمنظمات الإغاثية ومشاريعها التي تتبناها مؤسساته الثلاث (صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية)، بوصفها طوق النجاة، وطريق الخلاص الوحيد أمام الشعوب النامية، لكي تتجاوز حالات الفقر والتخلف والاستهلاك، وتتحول إلى مجتمعات صناعية حضارية منتجة، لكن كان هناك فجوة كبيرة بين مفهوم التنمية في الخطاب الإعلامي، وطبيعة التنمية في المشاريع القائمة على الأرض التي تتبناها تلك المنظمات، حيث كانت النتيجة المتحصلة من تلك المشاريع إغراق الشعوب النامية بالقروض، وارتهان إرادة الشعوب والحكومات للهيمنة الرأسمالية، والاستلاب المطلق لها، وهذا بدوره أدى إلى ظهور الكثير من الأصوات المنددة بتلك السياسة الإمبريالية الرأسمالية، في مختلف بلدان العالم، غير أن تلك الأصوات كانت توجه نقدها أو تعلن رفضها من خلال منظور جزئي يعرض جزءاً من المشكلة ويوضح المخاطر القائمة والمحتملة، ولا يكلف نفسه عناء البحث عن الحلول لإيقاف تلك الهيمنة وتبعاتها..
كان موقف الشهيد القائد (رضوان الله عليه) الموقف الوحيد الذي تناول تلك المشكلة بمنهجية علمية وصفية واستقرائية استنباطية دقيقة، انطلاقاً من المنهج القرآني الذي يحدد طبيعة الأعداء ونفسياتهم ومواقفهم وحقيقتهم في قوله تعالى” مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْـمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ”، وبناء على هذا الأساس استطاع الشهيد القائد الإلمام بالموضوع، وتناول أبعاده وجوانبه المختلفة، فشخَّص المشكلة ورسم مآلاتها ووضع الحلول الناجعة لمواجهتها، وتحقيق نموذج الاستقلال السياسي والاقتصادي، من خلال معالجة جذر المشكلة نفسها بتبني مشاريع تنموية حقيقية تسير بالمجتمع وصولاً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي.
إن ما طرحه الشهيد القائد في محاضراته بشكل عام يمثل فلسفة حياتية شاملة تتفرع منها نظريات في مختلف مجالات الحياة، ذلك لأنه استند إلى المنهج القرآني الذي تضمن الرؤية الإلهية الشاملة لسعادة الناس في الدنيا والآخرة، ولأنه أيضاً استند إلى منهجية علمية بحثية وصفية دقيقة في قراءته للنص القرآني خاصة، والموروث التاريخي والفكري عامة، وقدَّم في دروسه قراءة مغايرة عللت وفسَّرت وشرحت وربطت الأسباب بالنتائج، وأوضحت على أتم ما يكون الإيضاح، بعيداً عن القراءات الفقهية المقولبة المستندة على إلى النقل أكثر من العقل..
يقدم الشهيد القائد في محاضرة “اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً” قراءة متقدمة لمفهوم وطبيعة التنمية، وحقيقة المنظمات الدولية الحاملة لمشاريعها التي يقدمها الخطاب الرأسمالي، وتنفذها منظماته لتعزيز الواقع الاستعماري لتحقق بذلك استراتيجية تدجين الشعوب وإخضاعها، بحيث “تبقى الشعوب مستهلكة، ومتى ما نمت فلتتحول إلى أيدٍ عاملة داخل مصانعهم في بلداننا لإنتاج ماركاتهم داخل بلداننا، ونمنحها عناوين وطنية (إنتاج محلي) والمصنع أمريكي، والمصنع يهودي، والمواد الأولية من عندهم، والأغلفة من عندهم” ص7، وبهذا استطاعوا إدخالنا في دائرة التبعية المطلقة، ولم يعد بمقدور أحد منا الاستغناء عن مساعدات ومشاريع التنمية الغربية الرأسمالية، فقد أصبحت أقوات الناس وملابسهم وكل احتياجاتهم ومتطلبات حياتهم بيد أمريكا الرأسمالية ومنظماتها، وتؤكد هذه الحقيقة طبيعة تلك المشاريع التنموية القائمة على سياسة القروض المقدمة من صندوق النقد والبنك الدوليين، والمساعدات والبرامج الإغاثية التي تنفذها تلك المنظمات وفقا لسياسة الرأسمالية الاستعمارية وخدمة لمصالحها تحت مسمى التنمية القائمة على القروض التي ترهق المجتمعات النامية حاضراً ومستقبلاً، وبذلك تصبح التنمية حلما باهض الثمن .. يقول الشهيد القائد “وإن كانت هناك تنمية، فهي مقابل أحمال ثقيلة، تجعلنا عبيدا للآخرين” ص7، ولأن اليهود بطبيعتهم كاذبون في وعودهم وفي مشاريعهم وفي منظماتهم، فوعودهم بالتنمية مجرد كذبة يفضحها الشهيد القائد بقوله “فالتنمية هذه التي تسمع عنها، هل تعتقد أنها تنمية حقيقية؟ هم يحذرون أن يعطوك تنمية حقيقية، أن يعطوك بنية اقتصادية حقيقية، تقف على قدميك فوق بنيانها أبداً”، لأن ذلك بطبيعة الحال سيحقق للشعوب النامية حالة من الاستقرار والاستقلال والاكتفاء الذاتي، وهو ما يخرجهم عن دائرة التبعية للرأسمالية الأمريكية التي هي الهدف الأساس من وراء عمل المنظمات.
تشخيص الشهيد القائد الوضع الاقتصادي العربي
يقدم الشهيد القائد قراءة نموذجية لواقع الاقتصاد في المجتمعات العربية التي باتت رهينة لمشاريع المنظمات ووعودها بالتنمية، ويأخذ الواقع اليمني كشاهد على تلك التبعية والارتهان الذي نعيشه “وفعلاً نحن هنا في اليمن كمثال، ناهيك عن بقية الدول العربية، والمسألة واحدة، طعامنا ولباسنا وأدويتنا، ومختلف الكماليات التي نستخدمها، الصابون، الشامبو، مختلف المشروبات، مختلف العطور، الأشياء الكثيرة جداً جداً التي نستهلكها، معظمها شركات أجنبية بأيدي اليهود”، لأن هدف اليهود هو تعطيل البلدان الإسلامية من أي حركة تنموية حقيقية، ومن أي مظاهر الاعتماد على الذات، لكي لا نحصل على الاكتفاء الذاتي، أو جزء منه في صنع بعض أغذيتنا أو ملابسنا، وبذلك استطاع اليهود الانتقال بالصراع من مرحلة الصراع العسكري “إلى صراع حضاري، يحتاج إلى أن تنهض الأمة من جديد، وتبني نفسها من جديد، حتى تكون بمستوى مواجهة الغرب، ولربيبة الغرب إسرائيل”، ولكي تكون الشعوب بمستوى المواجهة، عليها أن لا تبقى رهينة لما تقدمه لها المنظمات، وما تفرضه عليها من مشاريع تنموية زائفة يكون ثمنها باهضاً “لن تكون تنمية حقيقية متى ما طلبوا منك أن تنفذ مخططاً لهم مقابل تنمية، فاعلم أنك ممن يحمل النفسية اليهودية، التي تبيع الدين بالمال، وتبيع الوطن بالمال، وتبيع الناس بالمال”.