محاولة جادة تفضح تاريخ آل سعود الدموي ضد اليمنيين
“مجزرة الحجاج الكبرى”.. الكشف الذي جعلها عصية على النسيان
الباحث الأهنومي ينتصر على محاولة العدو طمس معالم الجريمة ويؤكد على أنها لا تزال ملفاً مفتوحاً لم تحسمه معاهدة الطائف
لم يكن من باب الصدفة، ولم يكن في الأمر ضربة حظ أن يلقى كتاب (مجزرة الحجاج الكبرى) للباحث الدكتور حمود عبدالله الأهنومي كل هذا الاهتمام والإقبال لتصدر منه ثلاث طبعات، فهو الكتاب الذي قام على واحدة من أهم الأحداث التاريخية ذات العلاقة بالعداء السعودي لليمن والتي عمدت بعض الأيادي لطمر تفاصيلها وملابساتها هي جريمة (تنومة وساق الغراب).
نجح الباحث الأهنومي أيما نجاح في إماطة اللثام ونفض الغبار عن هذا الحدث الذي كشف عن النهج الدعائي الذي اختارته الجارة السعودية في تعاملها مع الشعب اليمني ونواياها بل واستماتتها في التحكم بواقعه ومصيره.
في لحظة من اشتغال الباحث بقضية بلاده، الموجوع بآلامه، تهتزّ مدينة صنعاء بأكملها على وقع ضربات عنيفة شنتها مقاتلات التحالف السعودي.
الثورة/ وديع العبسي
هنا تتوارد إلى خواطر الباحث تلك الصورة القاتمة لحدث الأمس المتمثل بمجزرة الحجيج اليمنيين وهي الصورة التي ظلت عالقة في ذهنيته بعد حديث والده الحاج عبدالله الأهنومي له عنها لمرات.
طرح الباحث وتأكيده أكثر من مرة في ثنايا الكتاب رغبته الجامحة في تسجيل الحضور الذي يستحقه الحدث في الذاكرة اليمنية، لم يكن ذلك فقط هو القرين الدال على صدقيته في مسعاه، فقد أكد على ذلك بالعمل، فحين نفدت نسخ الطبعة الأولى من الكتاب في وقت قياسي أعطى الإذن لــدور النــشر بطباعتــه من غير حقــوق.
حفز الكتاب على إنتاج عدد من الأعمال الإعلامية إسهاما في نشر الوعي حول المجزرة التاريخية فقد أذيع فيلم وثائقي عـن المجـزرة بعنـوان (تنومـة دمـاء منـسية)، بثته قنواتنـا المحليـة، وقنـوات إقليميـة تتبـع محــور المقاومــة، ثم تلى ذلك مسلـسلٌ إذاعـي بعنـوان (تنومـة الحقـد الدفين)، وقد جرى بثه العام الماضي وهذا العام خلال شهر رمضان، ويجري تحويل مادة الكتاب إلى فيلم وثائقي درامي، وكلها أشكال عمل من شأنها الإسهام في تحويـل قـضية المجـزرة البـشعة إلى رأي عـام محلي وعـربي وإسـلامي، وتكـوين وعـي عميـق عـن طبيعـة هـذا العـدوان القـائم، وأن يكـون هـذا الـوعي جـزءاً مـن المواجهـة الاستراتيجية لهذا الكيان المتوحش.
“في الأشـهر الأولى مـن العـدوان الـسعودي الأمـريكي عـلى اليمن استشعرت ضرورة إنجاز بحث تاريخي عن هذه المجـزرة الموؤدة، تأصيلا لفظاعة ووحـشية المعتـدين تاريخيـا” الكلام هنا للباحث.
مسؤولية تاريخية
انطلق الباحث من حادثة اليوم المشؤوم الذي تمثلت بانطلاق شرارة العدوان منتصف ليلة الـ26 من مارس 2015م، ليعود بذاكرته إلى حادثة تنومة التي شهدت اكبر مجزرة تاريخية يتعرض لها الحجيج للإبادة الجماعية عرفت بمــجــزرة (تـنـومـة وساق الغراب).
مــجــزرة يكاد أن ينساها التاريخ ولا تجد لها إلا ذكراً يتيما” حسب الباحث، الأمر الذي جعله أمام مسؤولية استعادة صفحة تلك الحادثة بصورة منهجية واستحضار تفاصيلها من خلال بحث تاريخي منهجي.. لم تكن المهمة بالأمر الهين فقد تطلب الكثير من الوقت والجهد في البحث والتوثيق والتأكد من مصداقية الوثائق الشفوية والمادية، ناهيك عن العمل في أجواء مشبعة بأسباب الخوف وانعدام الظروف الآمنة التي تساعد على الخروج بانجاز قائم على إنجاز المنهجية البحثية الأكاديمية ومرد هذا الوضع، هو ما خلقته غارات التحالف السعودي من ذعر بين الأوساط خاصة مع انتهاج العدوان مبدأ القصف العشوائي ترويع الآمنين نساءً وأطفالاً مع ما رافق ذلك من انعدام للكهرباء وخدمات الحياة.
خلال عملية جمع المعلومات يكتشف الباحث الأهنومي أن قضية مجزرة تنومة تعرضت للوأد وهي حسب وصفه “قضية موءودة، وذات مظلومية عظيمة، ليس من جهة المعتدين الذين أبادوا الشهداء بدم بارد ظلما وعدوانا، ولكن منا نحن الــيــمــنيين الذين شاركنا في دفن القضية أيضا ثقافيا وتاريخيا وتربويا بقصدٍ وبغير قصد.”
بعد عدد من الكتابات الصحفية المتفرقة أدرك الباحث حاجة هذه القضية لأن تكون أكثر حضوراً في الذهنية والذاكرة اليمنية إسهاما برفع مستوى الوعي بشأنها.
يُصَحِّح البحث الوعيَ بخطورة العدو السعودي، “وطريقةِ تكفيره، ويؤصِّل لهذا القبح والإفحاش في الظلم والتعدي الذي نعايشه اليوم، ومن ثم سيهيِّئ النفوس والعقول للتعامُل مع هذا الخطر بما يلزم من المواجهة.” والاقتباس هنا للباحث الذي يرى بأنه “إذا كنا بحاجة إلى انــتــصــار واستقلالٍ عسكري وأمني وسياسي، فإنه لا بد أن يرافق هذا انــتــصــار ثقافي وتربوي وتوعوي يهيِّئ للاستقلال ويعززه، ولا يسمح بوجود قوى ناعمة ثقافية أو تربوية أو أكاديمية في أوساطنا تدين بالولاء لهذا الكيان التدميري، أو تنخدع به، أو تمارس دورَ التزيين و(المكيَجة) لوجه الشيطان القبيح.”
اشتمل البحث على سبعة فصول استعرضت الأوضاع السياسية في الــيــمــن ونجد والــحــجاز عشية المــجــزرة، المــجــزرة من حيث الزمان والمكان والأسباب، وفصَّلت القول عن وقائع المــجــزرة، وناقشت الرواية النجدية بالتفنيد والتبيين، ورصدت المواقف المختلفة إزاء المــجــزرة من كل من ابن سعود والإمــام يــحــيـى والبلدان العربية والإســـلامية، كما تناولت الحديث عن الـشــهــداء والنـاجــين وتراجم من ظفِر الباحث بتراجمهم منهم، ومن ثم النتائج والآثار المترتِّبة على المــجــزرة، وكيف ساهمت في صنع بعض المتغيِّرات والتطورات السياسية والاجتماعية والأدبية، ونماذج من الأدب في مواجهة المــجــزرة بنوعيه الفصيح والحميني، عكست الوجدان الــيــمــني تجاه تلك المــجــزرة واختزلت تفسيرات الــيــمــنيين لها، واقترحت الطرق العملية لمواجهة مرتكبيها.
اتسم البــحــث بشحة المصادر، لا سيما في الوثائق الرسمية الــيــمــنية، وهي ظاهرة خطيرة جدا حسب وصف الباحث لها دلالاتها العميقة لما مورس على الخلفية التاريخية لهذه المجزرة من تغييب وطمر حتى لا يعرفها الكثير.. مع ذلك يستفيد الباحث من الروايات والشهادات الشفهية عن عدد من شهود العيان النـاجــين من المــجــزرة، ومن مخطوط (نزهة النظر) للمؤرخ السيد العلامة محمد زبارة، في وقائع المــجــزرة، وتراجم الـشــهــداء، وأمير الــحــج، بخلاف مطبوعة الذي تداولت عليه أيدي الحذف والتمزيق، وغيَّبَتِ الكثيرَ مما يفيدُ في هذا الصدد، هذا إلى جانب استفادته من تراجمِ العلماء الشعراء الإرياني، والذاري، والــحــجري، في كتاب هجر العلم ومعاقله في الــيــمــن للقاضي إسماعيل الأكوع، ونُبَذٍ وردت فيه عن مــجــزرة تـنـومـة، ومن كتابه الآخر (دروب الحج) الذي تضمن عدد من قصائد أولئك الشعراء، ومن مقدمة الرئيس الأسبق عبدالرحمن الإرياني لكتاب والده (هداية المستبصرين) وفيها معلومات ذات قيمة تسلط الضوء على دوافع القتلة، وصدرت عن أحد أهم رجالات ذلك العهد.
استهلالية تاريخية
يستهل الكتاب الحديث عن المجزرة بتقديم وصفا للمشهد السياسي العام الذي كان عليه الــيــمــن ونجد والــحــجاز لما لها من علاقة بالحدث المراد بــحــثه، ثم يستعرض المظاهر التي مثلت الخلفية “لانحراف النجديين الوهابيين عن الإســـلام ومفاهيمه العادلة؛ لنعرف مدى الخطورة التي يمكن أن يشكِّلوها ضد الإســـلام والــمــســلــمين، ومن ثم يجبُ العمل بناءً على هذا المُعْطَى الخطير، وليس هناك خيرٌ من النصوص الإســـلامية المتّفَق عليها تحلل لنا ظاهرة هؤلاء التكفيريين النجديين، وطبيعة دورهم، ونوعية سلوكهم.”
ترتبط في هذا السياق مظاهر هذا الانحراف مع التأسيس لحضور قوي للوهابية التي تكونت منذ ظهور محمد عبدالوهاب.
كانت قد ظهرت الوهابية بظهور الشيخ محمد بن عبدالوهاب التميمي (1115 – 1206هـ) (1703م – 1791م) في نجد، وتحالف مع نجدي آخر هو الأمير محمد بن سعود (ت1179هـ/1765م) ومع أبنائه من بعده، لينشئوا أول سلطة وهابية ارتكبت كثيرا من الفظائع والشناعات بحق الــمــســلــمين في الــحــجاز والــيــمــن والعراق، وكان إنشاء هذه الدولة المتطرفة التكفيرية برعاية استعمارية بريطانية.
وفي عهد الملك عبدالعزيز ابن سعود بذلت قصارى جهدها لرعاية دولته، حتى إذا أملى لهم الـلـه عز وجل في العصر الحديث بالنفط، جنّدوا كثيرا من إمكاناتهم المادية لدعم الوهابية، وخلَفَ الأمريكيون البريطانيين في رعاية هذا الكيان الوهابي منذ لقاء عبدالعزيز ابن سعود بالرئيس الأمريكي روزفلت على ظهر السفينة الحربية كوينسي عام 1945م في قناة السويس؛ وبعدها دأبوا على العمل سويا؛ الأمر الذي أنتج هذه الحركات التدميرية التي تنتشر على طول العالم الإســـلامي وعرضه، والذي من أهم خصائصها أنها تتصالح مع الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية، وتتَّسم بالعدائية المفرطة ضِدَّ كلِّ ما هو إسلامي.
بعد ذلك ظهرت هذه الوهابية في أشكالٍ متوحِّشة وهمجية حيث ظهرت القاعدة وداعش في أفغانستان وباكستان والــيــمــن والشام ومصر والصومال والعراق، وأنصار الشريعة في ليبيا، وبوكو حرام في نيجيريا، وجبهة الإنقاذ في الجزائر، ومن المعروف أن كلا من هذه الحركات قد مارست وتمارس أشكالا قبيحة ووحشية همجية ضد الــمــســلــمين ذبحا وحرقا وسحلا جماعات وفرادى، وهو ما ينسجم مع تاريخ هذه الجماعة النجدية.
وكما أصبح معلوما ضرورة لكل متابع في العالم، في ما يسمى (عاصفة الحزم) فقد أظهرت السعودية في مجازرها ضد الــيــمــنيين أنها لا تزال تحمل ذلك الفيروس الشيطاني الإغوائي التدميري المضل والضال، وارتكبت مجازر إبادة جماعية، في كل منطقة في الــيــمــن، وأغوت الكثير بأموالها للوقوف في صفها أو الصمت على جرائمها، فكشفت عن وجهها الشيطاني الحقيقي والوحشي، وبينت أنها داعشية السلوك وهابية الجذور، شيطانية الإغواء.. والاستعراض هنا هو مما تضمنه كتاب (مجزرة الحجاج الكبرى)
شيء من خلفية التآمر
في تبيانه للأسباب السياسية والاقتصادية والعسكرية لارتكاب آل سعود مجزرة تنومة.. يذكر الباحث ان الملك عبد العزيز ابن سعود كان قد أخضعَ معظم عسير لحكمه وعلى رأسها (أبها)، وقد قدِم ولدُه فيصل بجيش من الإخوان التكفيريين، وخاض عددا من المعارك مع ابن عائض العسيري انتهت بهزيمته وتثبيت حكم النجديين على هذا الجزء من الــيــمــن الكبرى؛ وعلى إثرها عاد فيصل إلى الرياض في أوائل سنة 1341هـ، لكن قبائلَ من بني شهر في عسير لم تشأ الاستسلام، حيث ثار الشبيلي وجماعة من بني شهر ضد ابن سعود خلال عام 1341هـ، واشتبك مع جيش ابن سعود بقيادة عبد العزيز بن إبراهيم.
في المقابل كان الإمــام يــحــيـى والــيــمــنيون يعتبرون منطقة عسير جزءًا لا يتجزأ من الــيــمــن وكانوا يجاهرون بذلك؛ ولهذا كان الخلاف والاصطدام متوقعاً ، وكان تأجيله ناتجاً عن انشغال الإمــام يــحــيـى في ترتيب أوضاعه الداخلية التي منعته من التعامل بما ينبغي تجاه ملف عسير، بينما كان ملك الرمال ينتظر الفرصة لإيصال رسالةِ تهديدٍ وإجبارٍ للإمام يحيى بإقرار الوضع الحالي كما هو عليه وبدون ادعاءات.
كان الإمام يتمسَّك بالحق التاريخي في عسير جبالِها وسهلها وأنها جزء لا يتجزّأ من الــيــمــن منذ قرون طويلة، بل ولأنه كان الوريثَ الوحيدَ للأتراك العثمانيين في كل ما كانوا يسيطرون عليه في الــيــمــن، بما في ذلك عسير، التي كانوا يعتبِرونها اللواء الرابع من ألوية الــيــمــن، وكان ينظر إلى الأدارسة بأنهم دخلاء.
في جانبٍ آخر، ظلَّ الإمــام يــحــيـى عصيا على بريطانيا على خلافِ جميعِ حكام الجزيرة العربية، لم يقبل التطويع، وأنِف من التحالف معهم والمهادنة لهم، باعتبارهم أعداءً للأمة، ويسعون لاحتلال بلدانها واستغلالها، وباعتبارهم محتلين لجنوب الــيــمــن، وكانت بريطانيا تتحين الفرص إلى الدفع بالحاكِمَيْنِ الأقوَيَيْنِ في الجزيرة العربية إلى حافَّة المواجهة، لحَرْفِ نظر الإمــام يــحــيـى إلى الحدود الشمالية لليمن، وصرفه عن النظر نهائيا إلى عدن والمناطق المحتلة في الجنوب، والتي دوما يكرِّر الإمــام يــحــيـى ضرورة تحريرها من دنس الاحتلال البريطاني. وهذا ما تجلَّى بوضوح في دفعها للإدريسي للاحتماء بالسعوديين ليدفَعَهم نحو التصادم مع الإمــام يــحــيـى مباشرة.
وفي المقابل كانت الخصومة التاريخية بين أشراف الــحــجاز والنجديين قائمة، وكانت مسألة حدود نجد والــحــجاز هي القاصمة لظهر العلاقات الودية بين الحاكمَيْنِ المواليَيْنِ للإنجليز، بالإضافة إلى الاختلاف المذهبي والخصومة التاريخية بين أسلافهما؛ لهذا تميَّزت علاقات الطرفين بالسوء، وقد رأينا كيف أمدَّ الشريف حسين ثوارَ عسير بالرجال والمال في مواجهتهم لابن سعود.
بيدَ أن الشريف حسين ملك الــحــجاز أخطأ في تقدير قوة خصمه النجدي عبد العزيز ابن سعود؛ ولهذا تعرَّض جيشه للتمزيق والتبديد في وقعة (تُرَبة)، وبدأ منذئذ العدُّ العكسي لحكمه على الــحــجاز.
مرتزقة آل سعود
ويذكر الباحث في الخلفية السياسية القريبة زمنيا من المجزرة والتي ربما كانت الباعث للتسريع من اعتماد آل سعود مبدأ الدموية ضد اليمنيين للحيلولة دون تحقيقهم لطموحهم في الاستبقاء على حقوقهم على مستوى الخارطة الجغرافية التي عبث بها آل سعود وتحكموا بمصيرها.
يقول الباحث الأهنومي بحسب الرواية النجدية: كان قد تسرَّب خبرُ مشروعِ اتفاقيةٍ بين الإمــام يــحــيـى والشريف حسين ملك الــحــجاز بالتصدي لابن سعود، ومن بنود تلك الاتفاقية “التعاون والتناصر” بين الجانبين، ولكنه تعاونٌ مشروط بكونه “موقوفا على الطلب من أيِّ الجانبين عند الاحتياج واللزوم، وفي دائرة النصوص الشرعية”، كما هو النص المقتَرح للاتفاقية التي لم تكن قد وُقِّعَتْ بعد، وكانت لا تزال مجردَ حِبر على ورق.
وصل ابنَ سعود نبأُ هذه الاتفاقية المزمع توقيعُها، فكان بحاجة ماسّة إلى فضِّ هذا الاتفاق الذي يلوح في الأفق بين الــيــمــن والــحــجاز، بل وكان بحاجة إلى ضربه في الصميم نفسيا وواقعيا، وإيصال رسائلَ متعدِّدة الأهداف لكيِّ دماغِ حكام الــيــمــن والــحــجاز في هذا الصدد.
وهنا يتساءل الباحث: من الذي سرَّب مشروع هذه الاتفاقية، وهي التي ظلَّت طيَّ الكتمان، والتي أوصى الإمــام يــحــيـى بإبقائها سرية، ومن هو المستفيد من تسريب هذا الخبر، وما الذي يريد تحقيقه من أهداف؟
ويرجح الباحث أنه أحد جهتين: إما الإنجليز هم من تولَّى إبلاغ ابن سعود ببنود هذه الاتفاقية المزمع توقيعها، وهو ما لمَّح إليه عرّاب هذه الاتفاقية أمين الريحاني عند لقائه بكاتبة أسرار المندوب السامي في الأمور الشرقية في العراق (جر ترود بل) كما مر ذكره، أو الرحالة أمين الريحاني نفسه، والذي تدل على ذلك مؤشراتُ أنه أعجبه المقام في حضرة ابن سعود، وأنه أخلص له، وطالما أنشأ معلقات النثر في الثناء عليه.
الإنجليز وقد عانوا من الإمــام يــحــيـى وتهديداته المتكرِّرة بطردهم من عدن ومحمياتها التسع في الجنوب، وكونه الحاكم العربي الوحيد في الجزيرة العربية العصي على التطويع لسياساتهم الاستعمارية في المنطقة؛ كان لا بد أن يهيئوا الظرف الملائم لمعاقبة الإمــام يــحــيـى من خلال إقحامه في مشاكلَ مع جيرانه، وحرْفِ نظرِه بعيدا عن محمياتهم في ما سموه بـ(الجنوب العربي)، وكان المرشَّح للقيام بهذا الدور في تلك الفترة هو رجلهم المفضل عبد العزيز ابن سعود.
ويورد الباحث من جملة ما توصل إليه في حلحلة بعض مخفيات أسباب ارتكاب هذه المجزرة محاول الرحالة نزيه مؤيد العظم أحدُ رجال العرب آنذاك التحريَ والبــحــث الدقيق في سبب هذا العدوان على حــجــاج الــيــمــن، مع “أناس مسئولين” “في الــيــمــن، والــحــجاز، ونجد، ومصر، ممن “يتتبَّعون حوادثَ البلاد العربية باهتمامٍ كبير”، فبــحــث معهم “عن الأسباب الحقيقية التي حدَتْ بالإخوان الوهابيين لاغتيال هذا العدد العظيم من الناس وهم ذاهبون إلى بيت الـلـه الحرام”.
وبعد هذه الرحلة الشاقة توصَّل إلى نتيجةٍ مفادُها “أن لبعض الأجانب ضلعا في هذه المؤامرة، وقد كانوا يتوخَّون منها إثارة الفتنة بين الملك عبد العزيز والإمــام يــحــيـى وامتداد الحرب من الــحــجاز إلى الــيــمــن”، واستنتج أنهم ذكروا لابن سعود بأساليبَ شتى، وعن طرقٍ عديدة، وبواسطة أناسٍ كثيرين أن الملك حسين قد استنجد بالإمــام يــحــيـى للقتال معه ضده، فاعتذر الإمامُ عن الدخولِ في الحرب معه بشكلٍ علَني، ولكنه أوفد هذا الجمعَ الغفيرَ بصورةِ حــجــاج للتطوع في الجيش الــحــجازي، ويبدو أن ابن سعود قد “أخذ بهذه الدعاية الباطلة، وأمرَ جُندَه من الإخوان بأن يبيدوا هؤلاء الناس عن بكرة أبيهم”.
من جهته يرجح الدكتور محمد عيسى صالحية الباحث المتخصص في تاريخ العرب الحديث: “أن خبر المعاهدة التي تولى صياغتها أمين الريحاني مع الإمــام يــحــيـى ومستشاريه والتي لم توقَّع بعدُ قد وصلت أخبارُها إلى بلاد الملك عبدالعزيز ابن سعود، إما من قبل عيونه، أو سرِّبت من قبل البريطانيين”.
الصورة البشعة
وقعَتِ المجزرةُ في ظهر يوم الأحد 17 ذي القعدة 1341هـ الموافق 1 يوليو 1923م، وكان الحجاج قد نزلوا على ثلاث فرق، الفرقة الأولى في تـنـومـة، والثانية والثالثة في سدوان، وأن جملة من الأسباب السياسية والعقائدية والاقتصادية كانت وراء الحادث، وأنها مــجــزرة دُبِّر أمرُها بليلٍ شيطانيٍّ مشؤوم، وأن ابن سعود وحده هو الشخص الذي يمكنه اتخاذُ قرار بذلك الحجم وتلك الخطورة، وأن هناك دلائلَ وأماراتٍ ترجِّح أنه العقل المدبِّر لتلك المجزرة، وأن تظاهره بالبراءة منها كان مشهدا من مشاهد مسرحية قرن الشيطان.. يزيد الدكتور الأهنومي القول: اقتضت الخِطة الشيطانية النجدية إيجادَ طرف ثالث يتولَّى المجزرة في كمينٍ ينقض على الحجاج يتحمل في الظاهر وِزْرَ قتلهم، وتبين أن سلوكيات داعش والقاعدة كانت حاضرة فيها، فعدد مَنْ ذبحتهم سكاكين الإخوان الوهابيين كانوا حوالي 900 شهيد، وقتلوا النساء والكهول، وأن عدد الشهداء أكثر من 3000 شهيد، ينتمون لمختلف فئات وأماكن اليمن، وأنه لم ينج منهم إلا من تظاهر بالموت وانغمس بين الدماء، أو أمكنه الفرار عند بداية الهجوم، وهم حوالي 500 شخص، 150 شخصا منهم بقيادة أمير الحج صمموا على مواصلة السفر للحج في ذلك العام عن طريق تهامة، وعاد البقية إلى اليمن.
تحرَّك الــحــجيج مجتازين مناطق كثيرة وصولا إلى أطراف بني الأسمر (سدوان)، وإلى حدود بني شهر في (تـنـومـة)، فحطَّت القافلة الأولى والكبيرة في تـنـومـة، والتي تبعد عن أبها حوالي 125 كيلو متراً، وحطَّت قافلتان في سدوان الأعلى وسدوان الأسفل، واللتين تبعُدان عن تـنـومـة بحوالي 10 إلى 15 كيلو متراً، إلى الجنوب الشرقي منها، وكان أميرُ الــحــاج في الفرقة الأخيرة التي نزلت في سدوان الأسفل.
كان اليوم هو الأحد 17 من ذي القعدة 1341هـ / 1 يوليو 1923م، في وقت الظهيرة، وقد حطَّت الفرق الثلاث لصناعةِ طعامِ الغداء ظهرا، وهم آمنون لا يدرون عما قد دُبِّرَ لهم بليلِ الشياطين، وما قد حيك لهم من مؤامرةِ إبادةٍ شاملةِ، وهم بلا سلاح، ولا تأهُّب، ولا شعورٍ لهم بشيء، ولما شدَّ بعضُهم أثقالَه بعد الغداء، وبعضهم كان لا يزال في حال الغداء، وبعضهم في حال الشد، إذا بجيشِ ابنِ سعود الكامن لهم قد أحاط بهم من كل الجهات، وإذا به يصليهم نارا، ويباشر بإطلاق النار في جباههم ورؤوسهم وصدورهم بشكل كثيف.
لقد أحاطوا بمن في تـنـومـة وهي الفرقة الأكبر، وطلعوا عليهم من أعلى الوادي وأسفله وهم على خيولهم وإبلهم، وهجم المشاة عليهم من رؤوس الجبال، فتابعوا الرمي عليهم ببنادقهم من كل جهة، فاستُشْهِد معظمُ من كان بهذا الوادي من الــحــجــاج، وقتِل أكثر دوابهم، وأُخِذَتْ أموالُهم، ولم يفِرَّ منهم إلا القليل.
حاول بعضُهم المدافعة بما أمكن، وكانت قلة قليلة جدا منهم لديها سلاحٌ ناري وذخيرة فقاتلوا به حتى كمُل ما معهم، فقُتلوا، وكان بعض الــحــجــاج ينتظر الموت لحظة بلحظة، وكانوا يقرأون سورة ياسين، ولكن كان رصاص جنود ابن سعود أسرع إلى أرواحهم منهم إلى إكمال تلاوة سورة ياسين.
بدأوا هجومهم عليهم برميهم بالبنادق من رؤوس الإكام، ثم نزلوا إليهم يقتلون من عرفوا أنه لا يزال حيا، فكانوا يمرون من بين جثثهم، فمن أصابه عيارٌ ناري وبه رمَقٌ من حياة جاؤوا ليذبحوه أو يطعنوه بحادٍّ للتأكد من فراقه للحياة، وإجماعُ حديث النـاجــين بأنهم جميعا ممن غاصوا بين الدماء تظاهرا بالموت يدل على بشاعة سلوكِ هؤلاء مع الجرحى إجهازا وفتكا؛ فهذا السيد ضيف الـلـه المهدي على سبيل المثال من محل العرينة عمار محافظة إب، أحد النـاجــين من هذه المــذبــحــة، نجا؛ لأنه رمى بنفسه في مكان فيه دماءٌ كثيرة، وامتدَّ بينها كالميت.
رئيس الــيــمــن الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني ذكر أن مقاتلي ابن سعود كانوا يتنادون فيما بينهم بقولهم: (اجتلوا المشرج)، أي اقتلوا المشرك، وسمع أحدُ النـاجــين من آل الذويد من مدينة صعدة وكان قد تظاهر بالموت بين الجثث، سمع أولئك النجديين وهم يطوفون بين القتلى، وأحد قادتهم يسأل جنوده: كم قتلتَ؟ فإذا قال: واحد، قال له: لك قصر في الجنة، وإذا قال له: اثنين، قال له: لك قصران، وهكذا كان يبشرهم بقصورٍ في الجنة بعددِ من قَتَلوا من حــجــاج بيت الـلـه الحرام.
طوافُهم بين جثث القتلى ليس مستبعدا؛ بل كان ضروريا لقومٍ يتهافتون على القتل ثم الغنيمة التي كان بعضُها مخبوءا في أكمام وجيوب الــحــجــاج، وعليه فلا بد من تفتيش الــحــجــاج، فمن وجدوه جريحا قتلوه، ثم سلبوه، وبهذا يُمْكِنهم الجمع بين فضيلتي قتلِ أولئك الجرحى المشركين الآمِّين بيتَ الـلـه الحرام!!، وأخْذِ ما بحوزتهم من غنائمَ حلالٍ!! براحة بال، وطمأنينة نفس.
كان قائدهم (خالدُ بن جامع) أحدُ زعماء عتيبة بحسب جريدة القبلة وبحسب روايات الوهابيين أنفسهم، وعليه فقد اشتبه على الأكوع حين قال: إنه (خالد بن لؤي)، وكذلك على الرئيس الإرياني حين سماه (خالد بن محمد).
وبعد أن أبادوا الفرقة الكبيرة في تـنـومـة عطفوا على الفرقتين في سدوان واللتين كانتا تبعدان عن الأولى بحوالي 10 إلى 15 كيلومتراً، وفعلوا بهما كما فعلوا بالأولى، إلا أن القتل في الأولى كان أوسع وأعظم، وهذا يشير إلى أن النـاجــين كان أكثرهم من فرقتي سدوان، الفرقتين الأخريين، وأن عامل الوقت كان سببا من أسباب نجاة الكثير منهم.
بيد أن الوهابيين النجديين لم يكفِهم ذلك، بل انطلقوا لمطاردة الهاربين فمن أدركوه قتلوه صبرا، ثم بعد ذلك استولوا على غنائم أولئك المشركين!! الــحــجــاج!!، فاستولوا على كل ما كان في أيديهم وأثقالهم ودوابِّهم، من المال و(القُراش) والبضاعة، وأخذوا جميع أمتعة أولئك الـشــهــداء.
كثير من النـاجــين تظاهروا بالموت بين الدماء، ويحكي السيد زبارة كيفية نجاة أمير الــحــج في المخطوط من كتابه (نزهة النظر)، بأنه أظهر أنه مقتول، فلما جاء الليل مشى على رجليه، وترك جميعَ أدواته، إلا الثوب الذي فوقه، وواصل سفره إلى مــكــة. ويبدو أن ذلك الثوب لم يسلم من النهب كما هو مقتضى رواية السيد ضيف الـلـه المهدي الآتية.
ومع ذلك كله فإن مَنْ نجا منهم بعد تلك الأهوال تلقاهم أهل القرى القريبة من محل المــجــزرة، كما تقول سيرة الإمــام يــحــيـى، فسلبوهم ما بقي معهم من أموالٍ محمولة، “وسلبوا ما عليهم من الثياب”، وبحسب رواية السيد ضيف الـلـه المهدي أحد النـاجــين من المــذبــحــة فإنهم لم يتركوا عليهم سوى السراويل، وأن جمعا من الــحــجــاج من بينهم أميرُ الــحــج وصلوا إلى أحد المراكز الحكومية وليس عليهم إلا السراويل، وقد ترجَّح للباحث أن ذلك المركز هو مركز بارق في تهامة المحاذية لبني شهر من جهة الغرب، وهو مركزٌ كان حينها يخضع لحكم الشريف حسين ملك الــحــجاز، ومنه أبرق أمير الــحــج إلى شريف مــكــة.
وحين نتأمل القرى القريبة من محل الوقعة وبمراعاة أن الــحــجــاج سيهربون في الاتجاهِ المعاكس لعدوهم المطارد لهم، فإنه يتضح أنها قرى تابعة لقبائل بني الأسمر والذين كانوا قد دخلوا تحت حكم ابن سعود.
ونهبُ الثياب بتلك الصورة المشينة سلوكٌ مفاجئ ومنافٍ لما كان يُفْتَرَض بأولئك القبائل من احترام الــحــجــاج، وهو يشير إلى أن استباحة أموال وأعراض وأرواح الــحــجــاج على ذلك النحو كان خلقا نجديا وسمة بدوية وهابية، ولهذا فقد كانت وِجهة الــحــجــاج النزولَ إلى تهامة التي كانت لا تزال خارجَ سيطرة النجديين.
جدير بالذكر أن رجلَ خيرٍ – كما يروي السيد ضيف الـلـه المهدي – في إحدى تلك القرى كان قد تكفل بستر بعض الــحــجــاج الذين صادفوه، ومنهم السيد ضيف الـلـه المهدي، فقطع فراشَه لهم، وصنع لهم عشاء، وأمَّنهم ليلتهم، وفي الصباح أرسلَ أولادَه لحمايتهم وإيصالهم إلى أحد المراكز الحكومية.
أرقام وشهادات
الشهداء يمثلون مختلف ومناطق اليمن.. وقد حرص الباحث على أن يورد ما ذكر عن عدد الناجين ومن الطبعة الأولى للكتاب إلى الطبعة نلحظ تزايدا في عدد الناجين الذين جرى ذكرهم ما يعني إن الباحث لم يتوقف عند الرقم الأول الذي توصل إليه في عملية البحث وإنما لا يزال في عملية بحث وتقصي.
وبحسب ما يورد الباحث فان المصادر اختلفت اختلافا شديدا في عددهم، فالمؤرخ زبارة يقول: “زيادة على ألفي قتيل”، وإحدى الوثائق البريطانية تحدِّدُ عددَهم بـ”قافلة كبيرة”، وفي وثيقة أخرى، تقول: “كانوا 500 حاج”، ويقول صاحب كشف الارتياب إنهم كانوا ألف إنسان، ولم ينج منهم غير رجلين، ويذكر القاضي السياغي بأن عددهم 1800 شهيد.
تذكر جريدة القبلة أن عددهم تجاوز الألفين، منهم تسعمائة فُصِلت رؤوسهم عن أجسادهم، والقاضي الإرياني يقول: إنهم ألفان وستمائة حاج، ويقول القاضي الأكوع: إنهم كانوا 2600 قتيل، لكنه في مكان آخر يقول: إن عددهم 2700، وذكر المؤرخ السيد زبارة: أنهم “نحو ثلاثة آلاف”، ويقول السيد العلامة مجد الدين المؤيدي: إنهم حوالي 3500 شهيد. وذكر القاضي العلامة الجرافي أن عدد الحجاج يقارب 4000 حاج، جميعهم استشهدوا، ما عدا ما يقارب 280 شخصا وقُدِّر عددُ الــحــجــاج لنزيه العظم مرة بثمانية آلاف غير ألفي حضرمي، وأخرى بحوالي ستة آلاف، وثالثة بخمسة آلاف حاج، كلُّهم قتِلوا إلا نفرا قليلا.
وبطبيعة الحال فإن السبب في هذا الاختلاف الكبير هو أنه لم تكن هناك سجلات وإحصائيات رسمية توثِّق عدد الــحــجــاج الذين غادروا الــيــمــن في تلك القافلة، بسبب الظروف الإدارية البدائية آنذاك، ولكونِ طريقةِ تجمُّعِ الــحــجــاج بالانضمام العشوائي من الراغبين في الــحــج من القرى الواقعة على طرق القافلة كلما مرَّت عليهم، يَجعل عملية توثيقهم في صنعاء بشكل رسمي صعبا إن لم يكن مستحيلا.
إن العدد 3000 شهيد أو ما يقاربه هو العدد الذي استقرَّ عليه حديث الجانب الرسمي الــيــمــني، فقد كتبت جريدة الإيمان، ونقلت عنها مجلة المنار أن عددهم “يربو على ثلاثة آلاف شهيد، قُتِلوا ظلما، وهم عزَّلٌ من السلاح، آمين بيت الـلـه الحرام”، وتكرَّر هذا في جواب الإمــام يــحــيـى على رسالة محمد رشيد رضا إليه بشأن علاقته مع ابن سعود، بقوله: “من قَتْلِ نحوِ ثلاثةِ آلافِ مسلم…”. ومثله ورد لدى الواسعي وغيره.
أسانيد مفكرين
واستناداً إلى جملة الوقائع والمعطيات التي مثلت خلفية لارتكاب مجزرة تنومة يرجح الباحث أن عبدالعزيز ابن سعود كان العقل المدبِّر لهذه المــذبــحــة، والذي أصدر قرار تصفية أولئك الــحــجــاج، وأنه حقق أهدافه التي كان يسعى لها، وأنه لقبح الجريمة وشناعتها وفظاعتها كان قد رتَّب لنفسه مخرجا، بينما رتَّب بدقة وعناية ليكون هناك ما يشبه الطرف الثالث الذي يمكنه تحمل المسؤولية نيابة عنه، وأنه مع ذلك ومهما كان الأمر فإنه مسؤول مسؤولية كاملة عما ارتكبه جيشه من جرائم ومجازر.
ومما سبق ومن خلال المصادر الــيــمــنية والنجدية فإن الدور العلني الذي اضطلع به هو الظهور بمظهر المنكِر الكاره للجريمة، والمتأسِّف لوقوعها، والاكتفاء بعبارات المجاملة والتنصُّل والاعتذار عن اتخاذ أيِّ موقفٍ عملي لمحاسبة الجناة أو تعويض الضحايا، ما يعني أن هذا الموقف القولي –حسب الباحث- لم يُفْضِ إلى موقفٍ تأديبيٍّ وعمليٍّ عادلٍ بحقِّ المجرمين تجاه أولئك الضحايا، لا بل إنه في آخر المنشور الذي كتب قبل الحرب الــيــمــنية النجدية عام 1934م يكشف بوضوح تنصل ابن سعود عن أية مسؤولية تجاههم، فهو من ناحية يقر بمسؤوليتهم إلى حدٍّ ما ويعتذر عن الجريمة ويتأسف لها، ويقر بأنهم أخطأوا، وأنهم جنوده، ولكنه لا يريد الاعتراف بأي حق للضحايا لا بقصاص ولا بتعويضٍ عادلٍ، ولا بدياتٍ مسلَّمةٍ إلى أهلهم.
روى نزيهُ العظم أن ابنَ سعود “وافق على دفع دية الــحــجــاج المقتولين”، ولكنه استدرك ذلك بقوله: “وبقيت هذه الأمور معلقة إلى أن انفجرت الحرب المعلومة بين العاهلين العظيمين”، فأخذ المؤرِّخ الدكتور سيد مصطفى سالم هذه الرواية المستدرَك عليها على علاتها، وجعل من موافقة ابن سعود القولية فعلا حقيقيا، وأخذ منها أنه بالفعل دفع ابن سعود ديات الــحــجــاج، وإن أوردها بصيغة التمريض، حيث قال: “وقيل: إن ابن سعود دفع ديات القتل”، ليأتيَ مؤرِّخٌ قدير كالأستاذ الأمير أحمد بن محمد بن الحسين حميد الدين فيقع في خطأ جسيم، بقطعه أن ابن سعود دفع ديات الــحــجــاج، معتمدا على استنتاج الدكتور سيد مصطفى سالم، وهو اعتماد في غير محله.
يؤكد الباحث مع نهاية الكتاب على جملة من النتائج والتوصيات الهامة جدا التي تتطلب تعاضد الجهات لتحويلها إلى حقيقة باعتبارها التي تهدف إلى إبراز كيف إن العدوان السعودي على اليمن ليس وليد اللحظة وإنما له امتداده التاريخي، وباعتبارها تظهر حقيقة آل سعود وعدائهم لليمن، كما يؤكد على أهمية إجراء مزيدٍ من الدراسات حول العلاقة بين اليمن والنظام النجدي، وكشف المزيد من الحقائق حول تلك المجزرة، وتداعياتها، من خلال الوثائق، وتوثيق الروايات الشفهية والمتناثرة، وتراجم شهداء المجزرة والناجين منها، وضرورة اشتمال المناهج التربوية على مظلومية تلك المجزرة ومجازر العدوان السعودي الأمريكي القائم، مقرونة بذكر الانتصارات التي حققها اليمنيون من الجيش واللجان الشعبية.