لا تزال تستيقظ مع الإنسان اليمني في غبش الفجر لتعبر معه طقوس حياته اليومية (1-3)
القهوة اليمنية..التي لا تغيب عنها الشمس
رغم تراجع زراعة محصول (البن) محلياً إلا أنه لا يزال مشروب البدو والحضر ورمز الضيافة والكرم
السوداء «البن الصافي»، القشر «المر»، الحضرمية، الصنعانية، البيضانية «بالعسل والذرة» أنواع حساء القهوة العابرة للجغرافيا اليمنية
لك أنْ تشرب قهوتكَ الليليّة في أي مكان، في روما أو باريس وأن تشربها بالقرفة أو بالهيل وباللَّبن الطازج أو بالعسل الجبلي لك أن تختار مكانك في مقهى مغمور بالضوء الباذخ أو مطلي بالعتمة لكنك لن تتذوق فنجاناً أشهى من فنجان صنعانيٍّ يأخذ شكل بخار الغيمة، وهي تبلل جفن صباحٍ يفتح عينيه الخضراوين على جبل تكسو عُرْيَ حجارته أشجارُ البُنّ.
من باب اليمن، دلفت مع الصباح الباكر إلى حنايا قلب صنعاء القديمة، ولا شيء يجوب مخيلتي سوى هذا التكثيف الشعري التصويري الهاطل من عوالم شاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح في قصيدته، “الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة” التي جاءت ضمن نصوص – حداثية المعنى والمبنى – احتواها ديوانه الحامل اسم القصيدة (صادر عن دار العودة بيروت 2017م).. إنها كلمات تعانق شجن الليل القَمَرِي، وتصافح الشروق البرتقالي الذي يشافه منازل صنعاء المرصع بياضها بالياجور، وألوان النوافذ وقمرياتها نصف الدائرية، محتفياً بالقهوة التي لم تزل تستيقظ مع الإنسان اليمني في غبش الفجر وتعبر معه كظله طقوس يوم كامل بمواقيته ومناسباته، ومآتمه وأفراحه.
في هذه المادة التي ستنشر على ثلاث حلقات متتالية نتتبع قصة (البذرة والفنجان) التي طافت العالم معانقة خارطة الشمس، وسيرة المحصول الذي أوقد صراع التجارة العالمية، وتاثيره في الحياة الفكرية عربيا وعالميا، ومنحدر التراجع وأسبابه، ثم جهود الدولة واستراتيجياتها الوطنية لاستعادة مجد زراعة محصول البن، وحضور هذه القضية في المحور الاقتصادي للرؤية الوطنية لبناء الدولة اليمنية.. لنحاول في الحلقة الأولى الإحاطة بحاضر القهوة اليمنية كمشروب، أصنافا وألوانا وعادات وتقاليد، عابرة للجغرافيا اليمنية.. إلى التفاصيل:
الثورة / محمد محمد إبراهيم
على إحدى طاولات مقهى “حاتم الخاوي” الذي يقع في صف المحال الأمامية المقابلة للوالجين من “باب اليمن” العتيق، جلست إلى الطاولة. كان أثير إذاعة صنعاء الصباحي، يطرب مسامع الحضور بأغان يمنية ومحطات موسيقية فيروزية الإيقاع. طلبت من الخاوي كوب قهوة. رد مبتسماً: (حاضر.. تريد بُنّاً صافياً بالحليب والسكر ؟ بُنّ صافي بدون سكر؟ أو قهوة قشر بالسكر ؟ أو بدون سكر؟).. طلبت بن صافي بالحليب والسكر، وانتظمت مع الآخرين على الطاولة في نقاش مفتوح. كانت الساعة تقترب من الثامنة صباحاً، لحظة قيامي للتطواف في جميع صنعاء القديمة، وأسواقها التي لم تزدحم بعد: كـ( سوق القشر – البن والتوابل – وسوق الملح – والجنابي – والحَبّ –والبَزّ – والزبيب والمكسرات) وسماسرها الشهيرة كـ(سمسرة الفضة – والنحاس – والنجارة – والعقيق اليماني) لكن تركيزي ظلّ على محال القهوة – وما أكثرها حياة وحركة عبر تلك الأزقة والأسواق – فهي تصحو باكراً من كل يوم، لتنتظم على طاولاتها وجوه مختلفة الأعمار والمهن، لتناول مشروب القهوة – صباحا وظهيرة ومساء.
هذا الحضور في قلب العاصمة اليمنية ليس سوى مشهد يختزل ما هو قائم في كل مدن اليمن وأسواقها وقراها وخيام بدوها ومجـــالس حضرها، فلا توجد مدينة صغيــــرة أو كبـــيرة إلا وجــدت على الطُّرق والمداخـل المؤديـــة إليها محطات متعددة تسمى المقاهي، أما في القُرَى فلا يخلو مجلس أي بيت من موقد القهوة الراسخة والجاهزة على مدى النهار، بل يتعهد أرباب الأسر خصوصاً كبار السن بأنفسهم إعداد أي نوع من أنواع القهوة اليمنية، وحسب عرف كل منطقة، لإكرام كل من يحل عليهم ضيفاً، بكؤوس القهوة كأول شراب يتناوله الضيف ولقبوله أو رفضه دلالات اجتماعية تختلف باختلاف ثقافات المناطق اليمنية التي لا يتسع المقام هنا لتناولها.. فالأهم هنا التطرق لأهم أنواع هذه القهوة:
1 – القهوة العربية السوداء (البن الصافي)
يحضر هذا النوع من القهوة في أغلب مناطق اليمن، وفق مكونات ترتكز جلها على البن الصافي المطحون بعد التقشير والتحميص – ويحبذ أنواع البن التي تزرع في المناطق الجبلية، لجودتها العالية، ويسمى هذا النوع قهوة البن الصافي، ويكون لونها أسود لتركيز مسحوق البن المحمص، ونادراً ما تكون بلا سكر.
2 – قهوة القشر (القهوة المر)
لقهوة القشر حضورها في حياة المجتمع اليمني، ولا تزال حتى اليوم مشروب المجالس الأول خصوصا في الأرياف، بل يعد القشر أهم سلعة تجلب من الأسواق المحلية حتى لأبسط الأسر وأقلها دخلاً وقد وردت في أجناس الأدب الشعبي شعراً ونثراً وغُناءً وأمثالاً، ولها قهاوجة (طهاة) مَهّرَة، وكيراً ما يتعهد كبار السن بأنفسهم اعداد هذه القهوة التي تحضر عبر نقع قشور البن لوقت طويل، وتظل القهوة المر في دِلالِها وجمانِها، على نار تعد في المواقد المصنوعة من الفخار، ونادراً ما تضاف إليها توابل أخرى كالزنجبيل أو القرفة أو الهيل.
3 – القهوة الحضرمية
تُقَدّم القهوة الحضرمية في الأفراح والمآتم كأبرز مشروب يتناوله الخاصة والعامة على مدار السنة، وتزداد أهميتها، في فصل الشتاء، فهي دافئة تقاوم نزلات البرد والتهاب اللوزتين. كما تفيد المرأة النفاس والحائض. وتحضر من: (نصف لتر من الماء، و نصف ملعقة من الزنجبيل، وملعقة قرفة مطحون، ونصف ملعقة هيل مطحون، ونصف كوب سُكَّر بُنِّي، ونصف كوب سُكّر أبيض، ونصف كوب زبيب اسود، وأحيانا كوب عسل طبيعي بدلاً من السكر والزبيب). ثم يتم غلي الماء على نار هادئة مدة نصف ساعة، إلى أن تنحسر كمية الماء ويتحوَّل لون القهوة إلى بُنِّي غامق، ثم تُصفّى إلى الفناجين، عبر مصفاة تصنع كغطاء “للدلة” أو “الجمنة” من عذق النخل، لامساك الشوائب والقشور.
4 – القهوة الصنعانية
وهي أنواع كثيرة، فإلى جانب الأنواع التي ذكرها الخاوي، هناك قهوة الوالدة (النِّفَاس) وهي قهوة تعتني النساء بتحضيرها من: “سُكَّرْ نَبَاتْ” (قطع تشبه الأحجار صلبة لكنها من السكر)، شراب “عِنَّابْ”، “برير” “قِشْر”، و”ينسون”، و”شمّار”، و”قرفة”. وقد خَبرت نساء المجتمع الصنعاني جدوى هذا النوع من القهوة في شد جسم المرأة النفاس ومنحه الدفء والطاقة على التئام الجروح، وطرد الأوساخ من الرحم، وتحفيزه على الانقباض، كما تفيد آلام الدورة الشهرية.
5 – القهوة البيضانية
سميت بذلك نسبة لمدينة البيضاء اليمنية، وللونها الأبيض. ويقتضي تحضيرها دقة في تدرج وضع المكونات: (كأس من السمسم المحمص – ثلاثة إلى أربعة كؤوس ماء – ثلاثة كؤوس حليب مركز – ملعقة هيل – ملعقة قرفة – ملعقة زنجبيل مطحون – كوب أو كوبان سكر، وأحياناً تكون بدون سكر) مع زمن الغليان، الذي يستمر (10) دقائق، على النار حتى يتناقص الماء ويتبخر، ثم تضاف كمية الحليب، وتظل فوق النار خمس دقائق، ثم يضاف ملعقة من البن المحمص، وتترك على النار أقل من دقيقتين، وتُقَدّم ساخنةً للضيوف أو الأهل.
6 – القهوة العربية بالتمر
عرفت شبه الجزيرة العربية ومنها اليمن، قهوة التمر العربية، خصوصاً المناطق الساحلية والسهلية الغنية بزراعة النخيل – وتحضر من؛ (ثلاث حبَّات من التمر المهروس، مع حبة بيض، مع نصف ملعقة فانيليا، مع نصف ملقة باكينج باودر ، مع أربع ملاعق من دقيق البر الناعم، مع ثلاث ملاعق بن متوسط التحميص، وربع ملعقة زنجبيل، و ملعقة قرفة) وتخلط هذه المكونات بماء ساخن (كوب). ثم يصب الخليط في صاج بسطح مصقول زيتي يمنع من التصاق كمية القهوة، ثم يصب لهذه المكونات نصف لتر ماء ساخن، ثم يغلى على النار لمدة نصف ساعة. ثم تصب في (الدلة) التي تكون جاهزة بمكونات: ملعقة قهوة (بن) مطحون، وملعقة هال مطحون.
7 – قهوة العسل والذِّرَة
يسمى هذا النوع من القهوة اليمنية “قهوة علان”، وتحضر – في أول موسم الحصاد في مرتفعات اليمن الغربية والمناطق الوسطى – وتحضر من البن الأحمر القاني بداية نضوجه (أخضر)، مع حبوب الذرة الرفيعة الخضراء، وكوب من العسل الطبيعي، وغالباً ما يحتسيها الكبار من الرجال حيث تمنحهم طاقة جنسية وخصوبة عاليتين.
التصنيف الزراعي لمحصول القهوة
زراعياً.. تقسم القهوة إلى أربعة أنواع وهي السائدة في العالم: (التُفَّاحي، والعُديني، والبرعي، والدوائري) ولكل نوع خصائصه الشكلية، ومميزاته البيئية والإنتاجية. وتتوزع هذه الأنواع الأربعة على مسميات محلية: كــ(الحمَّادي، والحرازي، واليافعي، والآنسي، والحرازي، والحيمي، والخولاني، والبرعي، والريمي، والحواري، وغيرها)” وجميعها تتسم بالجودة العالية الصادرة عن الطبيعة اليمنية البكر التي تعد – بتنوع تضاريسها – الأكثر ملائمة لزراعة أنواع القهوة الأربعة على مستوى العالم، وبفوارق دقيقة يدركها المزارعون اليمنيون، فبعضها يتطلب قدرا معيناً من الارتفاع ووفرة الماء، وبعضها يتحمل الجفاف، وبعضها يفضل الهضاب وبعضها يفضل الأودية الجارية. لكن العامل المشترك في هذه الفوارق هو اعتدال الجو على مدار السنة، فلا شتاء قارس يجمد الشجرة بالثلوج، ولا صيف قايض يُضْعِف جودة المحصول بالرطوبة، ناهيك عن الاتقان الفلاحي لدى المزارع اليمني، وفق مهنيَّة توارثها أباً عن جدَّ، فاستوعب مواقيت الزراعة، بذاراً ورعايةً وحصاداً.. وأصول جني الثمرة مرحلياً لمواكبة التدرج الطبيعي لنضج المحصول، خلال موسم الحصاد حيث يجني المزارع الثمار قانية اللون(الحمراء). وبعضهم ينتظر حتى يصير لونها بين البنفسجي والرمادي الداكن المشارف على الدخول في اللون البُنِّي الغامق، وفي كل مرة تُجنى كميّة لا تخلط بسابقتها، بل تجفف مستقلة، بعد عزل الثمار التي تتساقط من ذاتها، لأنها مشبعة بالرطوبة. هذه الثقافة الزراعية حافظت على قدر عالي من درجات الجودة، التي تتراوح بين (60 – 80) للبن التجاري، ومن (80 – 100) للبن الفاخر (الممتاز)، وتتراوح القيمة النقدية لمحصول القهوة بناء على هذا المقياس بين (85 – 200) دولار لـ (كجم).
تصوير/ فؤاد الحرازي