وحدة اليمن أكبر من “نصف ورقة” وبديلها الهوان
قامت دولة اليمن الأولى قبل آلاف السنين نتاج اتحاد قبائل اليمن المنحدرة من الجد نفسه
ظل انقسام اليمن وتشطره نتاج تدخلات خارجية بفعل أطماع متجددة بموقعه الاستراتيجي
“22 مايو” ليس إنجاز “صالح والبيض” بل 10 رؤساء لليمن الجمهوري شمالا وجنوبا
اتفاق الوحدة نتاج 40 عاما من مباحثات توحيد نظامي شطري اليمن سياسيا واقتصاديا
مرت مباحثات إعادة توحيد شطري اليمن بـ 70 محطة اتفاق وحدوي توجت بـ22مايو
اتفاق الوحدة أقره نواب الشعب في صنعاء وعدن واستفتاء الشعب على دستور اليمن الموحد
تاريخياً، عُرف جنوب شبه الجزيرة العربية كاملا من الخليج العربي وحتى البحر الأحمر ومن بحر العرب حتى خليج عدن ومضيق باب المندب، باسم اليمن، وتنسب كل ما فيه من بشر وشجر، وحجر ومدر، إلى اليمن، بصفة يمان أو يماني أو يمني. وسواء كانت التسمية “يمن” نسبة إلى يمين الكعبة –كما يشاع- أو إلى ملك يمني يعربي سبئي يدعى “يمن” أو “أيمن”، فإن اليمن تظل شاهد وحدة وجود هذا المكان على كوكب الأرض.
الثورة / إبراهيم الحكيم
كذلك إنسان هذا المكان المدعو منذ الأزل “يمن” و”يمان”، تتفق آثار التاريخ من كتابات بقلم المسند اليمني الجنوبي العربي ونقوش سبئية وحميرية وريدانية ومعينية وقتبانية وحضرمية وأوسانية وتهامية، وكذا مؤلفات المؤرخين اليمنيين بما فيهم “جنوبيون” وعرب وغرب، أن “سكان اليمن ساميون عرب عاربة”، ينحدرون من “يعرب بن يشجب”، ويلتقون في الجدود قحطان وعدنان، اللذين ينحدران من سام بن نوح، وجدهم الأكبر نبي الله هود عليه السلام.
وحدة جدود
هذا ما يؤكده علماء الأنساب والإنسان العرب والغرب، ومنهم المؤرخون اليمنيون بامطرف وبامخرمة والكاف والهمداني، ومن المعاصرين بافقيه ومحيرز وباصرة، وغيرهم الكثير من المؤرخين اليمنيين والعرب والغرب، من علماء الإنسان والأجناس والأعراق، الذين لا يتسع المقام لذكرهم جميعهم، إنما نكتفي بالإشارة إلى ما اتفق عليهم غالبيتهم، وما هو محل إجماع ينفي الاستثناء، مما قد يحتج به البعض ممن يسوقون لما يسمى “شعب الجنوب ليسوا يمنيين”.
ويأتي إجماع المؤرخين وعلماء الأجناس، مصداقا لحديث عن خاتم أنبياء الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حين سُئل: وما سَبأٌ، أرضٌ أو امرأةٌ؟ قالَ: “ليسَ بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولَكِنَّهُ رجلٌ ولدَ عشرةً منَ العربِ فتيامنَ منهم ستَّةٌ، وتشاءمَ منهم أربعةٌ. فأمَّا الَّذينَ تشاءموا فلَخمٌ، وجُذامُ، وغسَّانُ، وعامِلةُ، وأمَّا الَّذينَ تيامنوا: فالأزدُ، والأشعرون، وحِميرٌ، وَكِندةُ، ومَذحِجٌ، وأنمارٌ، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، ما أنمارٌ؟ قالَ: الَّذينَ منهم خثعَمُ، وبَجيلةُ”.
ما سلف، يعني بإجماع المؤرخين، أن “اليمن أصل العرب”، وأن كل عربي يمني بالضرورة، وتبعا فأن الموقع المسمى “اليمن” وهو جنوب شبه الجزيرة العربية وجنوب ما يسمى “منطقة الشرق الأوسط”، وجنوب قارة آسيا، يجعل كل يمني عربياً وكل عربي يمنياً، وكل جنوبي يمنياً عربياً، وكل يمني عربياً جنوبياً، بالضرورة، وتؤكد هذا أبحاث الحمض النووي (DNA) المنفذة إقليميا ودوليا، في تتبع الخارطة الجينية للبشر، وأعراق شعوب العالم في القارات الخمس.
اتحاد أزلي
وعلى صعيد الدولة، الكيان السياسي المعني بحكم وإدارة شؤون الشعب، ثبت تاريخيا وفق معطيات الآثار المكتشفة والكتابات المسندية وغيرها من أبجديات العالم، أن اليمن من أقدم مواطن السكان التي عُرفت نشأة الدول والنظم السياسية المدنية الشوروية المجارية لما يعرف اليوم الديمقراطية، وأن أول دولة تأسست في اليمن، يقدر عمرها ما بين (10-6) آلاف عام، وكانت نتاج اتحاد كبير بين كبرى قبائل اليمن، عُرف باسم “اتحاد سبأ”.
يؤكد هذا، وعظم هذا الاتحاد وتعاظم دولته وحضارته وامتلاكها أسباب القوة والريادة والسيادة والحضارة، ذكر دولة “مملكة سبأ” أو “شيبا” في الكتب السماوية كافة، من الزبور والتوراة والإنجيل، وصولا إلى القرآن، الذي خصص سورة كاملة باسم “سبأ” وسورة أخرى أورد فيها قصة ملكة سبأ مع نبي الله سليمان، هي سورة “النمل”، وقصص أنبياء اليمن الأربعة: “هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر” كما جاء في الحديث النبوي عن أبي ذر الغفاري.
وهناك كتابات مسندية ونقوش أثرية في اليمن، وفي الحضارات المعاصرة للحضارة اليمنية، ذات المنشأ اليمني الأصل كالبابلية والأكادية والأرامية والفرعونية، تتحدث عن اتحاد دولة سبأ، وعن حقب تضعضع الدولة اليمنية ووحدتها بفعل تدخلات خارجية في سياق التنافس بين قوى وممالك العالم القديم، مع مملكة اليمن، وموقع الأخيرة المحوري في التحكم بالتجارة العالمية، وخطوطها البرية والبحرية، وسلعها النفيسة (البخور واللبان) المعادلة للنفط في عالم اليوم.
شهد اليمن على مر التاريخ اتفاقات اتحادات وتحالفات عدة، بين ممالكه القديمة، في حقب الانقسام، وتروي الكتابات والنقوش الأثرية عن اتفاقات اتحادات وتحالفات أبرمت تارة بين مملكة سبأ وحضرموت ضد مملكة قتبان، وتارة بين مملكة سبأ وقتبان وأوسان ضد مملكة حضرموت، وتارة بين مملكة سبأ وحمير وقتبان وحضرموت ضد مملكة أوسان، وبين مملكة حمير وذي ريدان، وغيرها الكثير من الاتفاقات كان عنوانها وحدة اليمن، سبيلا للقوة والعزة.
التاريخ المعاصر
كذلك الحال في التاريخ الحديث والمعاصر، شهد اليمن انقسامات لكيانه ووحدة دولته، في حقب متعاقبة، ظل الفاعل الرئيس فيها، قوى العالم الكبرى، ونفوذها إلى الداخل اليمني عبر أحداث خلافات وانشقاقات وفتن داخلية، ودعم الأطراف الأضعف، من طامحي السلطة والرياسة، على قاعدة تبادل الاعتراف بالشرعية، بين هذه القوى الخارجية وتدخلها المباشر وغير المباشر في اليمن، وبين القوى المحلية الموالية لها والطامحة لحكم اليمن أو أجزاء منه.
تكرر هذا المشهد، المحاكي حرفيا لما يشهده اليمن منذ خمس سنوات، مرات عدة، واقترن بخضوع اليمن أو أجزاء منه للاحتلال الخارجي، ولعل ابرز هذه الوقائع، نجاح الغزو الحبشي الثاني على اليمن في اجتياح سواحله الغربية والانتشار منها نحو مرتفعاته الغربية والوسطى وصولا إلى صنعاء، بمعاونة أطراف داخلية تصدرها ابرهة بن صباح الذي تشي تسميته في نقش ترميم سد مارب بلقب ملكي حميري بأن له أصول يمنية، يقال من “ذي معاهر”.
دام هذا الاحتلال الحبشي، بمعاونة وولاء قوى محلية موالية لنجاشي الحبشة وتبعا لإمبراطورية روما، القوة المنافسة لإمبراطورية فارس حينها، وانتهى -كما هي العادة- باتحاد أيدي اليمنيين ضد التدخل الخارجي ووصايته، بقيادة الملك اليمني الحميري التبع سيف بن ذي يزن، الذي غادر قصره في “عبدان” بشبوة على رأس جيش يمني لتحرير صنعاء من هيمنة ووصاية الأحباش في صنعاء، واستعان بالفرس غطاء سياسيا في مواجهة أي تدخل روماني.
استغل الفرس إعانتهم الملك سيف بستمائة وقيل 800 جندي من المحكومين في سجون كسرى، واغتيال العبيد من بقايا الأحباش الملك معدي كرب بن سيف بن ذي يزن (591-594م)، وسيطروا على حكم صنعاء بتعيين وهزر ثم خرحسرو بن النوشجان، ثم باذان بن ساسان، واستقل أذواء وأقيال اليمن كل واحد بحكم مخلافه ومنطقته ولم يُملك اليمنيون أحدا على اليمن، ولم ينضووا تحت سلطة الحكم الفارسي، الذي انحصر في صنعاء وعدن وبعض المراكز.
يتفق المؤرخون على أن “أذواء وأقيال اليمن حكموا مخاليفهم ومناطقهم وكانت أغلب أرجاء اليمن فكانوا مثل ملوك الطوائف حتى أتى الله بالإسلام”، حتى كانت ثورة اليمن الثانية على الفرس، وتحديدا قبائل مذحج ببطونها التي تضم مراد وعنس وزُبيد وجلد وبني الحارث وكندة وسعد العشيرة، وهي الثورة الثانية المتزامنة مع وفاة رسول الله، بعد فشل الأولى التي عُرفت معركتها باسم “يوم الردم” 610 م سنة 2 هجرية.
وعقب قيام الدولة الإسلامية، وانضواء اليمنيين “أفواجا في دين الله” تحت لوائها، نشأت دويلات عدة في اليمن، يتجاوز عددها حسب المصادر الثلاثين دولة ظلت جميعها تنشد توحيد اليمن كاملا، وحدث أن استطاعت عدد منها تحقيق هذا الهدف في حقب تاريخية تطول وتنقص، بفعل استمرار التدخلات الخارجية للإمبراطوريات المتنافسة على خطوط التجارة العالمية، فشهد اليمن انقسامات جلبت معها الاحتلال الخارجي الأيوبي، والتركي (العثماني) وصولا إلى البريطاني.
وكان الانقسام التشطيري لليمن الأطول، هو ما أحدثه الاحتلالان التركي (العثماني) لشمال اليمن، والبريطاني (الانجليزي) لجنوبه، وتوقعيهما معاهدة حدود لما تحت يديهما من اليمن سنة 1915م، وإرغام بريطانيا قائد جلاء الأتراك عن اليمن، الإمام يحيى بن حميد الدين، عبر فتح جبهات حربية في الغرب (الأدارسة) والشمال (ابن سعود) بجانب الجبهة الجنوبية التي تقودها، على توقيع معاهدة صداقة مع بريطانيا تقر بالحدود التركية البريطانية لتقاسم اليمن.
مسيرة توحيد
بخلاف ما يردده البعض في تبرير ما يسمونه “فشل الوحدة اليمنية”، بأنها كانت “خطوة متسرعة” أقدم عليها رئيسا نظامي الشمال والجنوب في “لحظة عاطفية طائشة” بتوقيعهما اتفاقية “في نصف ورقة”؛ يجد المتتبع لمسار الأحداث، أن توحيد شطري اليمن، مر بأكثر من 70 محطة مباحثات ولقاءات وحدوية على المستويات الرئاسية والحكومية والسياسية، طوال أربعة عقود، انتهت بتوقيع اتفاقية ذوبان الكيانين السياسيين للنظامين في دولة “الجمهورية اليمنية”.
هذا ما تؤكده مجريات الأحداث منذ ارهاصات الثورة في شمال اليمن (26 سبتمبر 1962م) ثم في الجنوب (14 أكتوبر 1963م)، وقبل حتى انتهاء حرب الثماني سنوات في شمال اليمن بين معسكري الملكية والجمهورية وانتصار الأخير، وانتزاع جنوب اليمن الاستقلال عن الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، وبصورة “رسمية” منذ بدايات تأسيس “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل”، عام 1960م في صنعاء ومؤتمرها التأسيسي في تعز 1965م.
بداية ثورية
البدايات السياسية الرسمية لمباحثات إعادة توحيد اليمن، ترجع إلى المخاضات الثورية ضد الاحتلال البريطاني للجنوب ونظام الملكي في الشمال، وتأسيس رواد الحركة الوطنية ما عرف باسم “الاتحاد اليمني” في عدن، ككيان سياسي يمني وطني يرفع شعار تحرير اليمن وتوحيده، وصاحبه تأسيس أول ناد يمني وأقدم الأندية في شبه الجزيرة العربية، باسم “الاتحاد” وعرف لاحقا باسم “التلال”.
ثم رفدت الحركة الوطنية بتأسيس فرع حركة القوميين العرب في اليمن عام 1956م، ثم “رابطة أبناء اليمن” قبل أن يستقيل منها عام 1960م قحطان الشعبي وسيف الضالعي وعلي أحمد السلامي وطه مقبل وسالم زين محمد وعلي محمد الشعبي واحمد عبده جبلي وعبدالكريم السروري وغيرهم، اعتراضا على “انحراف الرابطة عن المبادئ والأهداف القومية وإحيائها الدعوة الانفصالية القديمة لإقامة دولة مستقلة في عدن والمحميات ليست يمنية الهوية”.
وأصدر قحطان وفيصل الشعبي في أكتوبر 1959م كتيباً باسم حركة القوميين العرب عنوناه بـ “اتحاد الإمارات (ما كان يسمى المحميات الشرقية والغربية جنوب اليمن) المزيف مؤامرة على الوحدة العربية” ويعد أهم وثيقة سياسية وطنية خلال مرحلة الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، إذ “ظهرت في الكتيب أول دعوة لانتهاج الكفاح المسلح وسيلة لتحرير جنوب اليمن” حسب مؤرخي مسار النضال ضد الاحتلال البريطاني.
وقبيل ثورة 26 سبتمبر 1962م بأربعة أشهر أصدر قحطان في مايو كتابه الشهير “الاستعمار البريطاني ومعركتنا العربية في جنوب اليمن”، كرر فيه دعوته القديمة إلى “إقامة الجبهة القومية على مستوى جنوب اليمن وشماله لتعمل على إقامة نظام جمهوري في الشمال اليمني ومن ثم الانطلاق لتحرير الجنوب اليمني من الاستعمار البريطاني”، وهو ما كان بالفعل، عقب قيام ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن.
ثورة يمنية
في أعقاب قيام النظام الجمهوري في شمال اليمن، في 26 سبتمبر 1962م، انتقل قحطان الشعبي إلى صنعاء، وعينه أول رئيس جمهوري في شمال اليمن الرئيس عبدالله السلال مستشاراً له لشؤون الجنوب المحتل، ثم بدفع أبناء الجنوب المتواجدين في الشمال لدعم النظام الجمهوري الوليد، عُين قحطان رئيساً لما عُرف “مكتب الجنوب في صنعاء” ومنح سلطات تنفيذية لإدارة شؤون وقضايا أبناء جنوب اليمن.
لم تكد تنقضي خمسة أشهر، حتى ترأس قحطان الشعبي اجتماعاً لعدد كبير من أبناء جنوب اليمن الأحرار المتواجدين في شمال اليمن، عقد في فبراير 1963م، وصدر عنه بيان إعلان قيام “جبهة لتحرير جنوب اليمن المحتل” التي صارت تعرف باسم “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل”، وظل قحطان الشعبي أمينها العام حتى انتزاع استقلال جنوب اليمن وجلاء القوات البريطانية في 30 نوفمبر 1967م.
أثناء حرب تحرير جنوب اليمن، التالية لاندلاع ثورة 14 أكتوبر 1963م ضد الاحتلال البريطاني من ردفان في لحج بقيادة المناضل راجح لبوزة عقب عودته ورفاقه من معارك الدفاع عن الجمهورية في شمال اليمن، وبدعم سلاح ومعسكرات الشمال؛ اضطلع قحطان الشعبي بتمثيل الجبهة القومية في مؤتمرات وزيارات عدة لدول عربية وغير عربية مؤيدة لحركات التحرر الوطني، ومفاوضات انسحاب بريطانيا وتوقيع اتفاقية الجلاء.
كان قحطان الشعبي أول رئيس جمهوري لدولة الاستقلال في جنوب اليمن (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) التي كانت رايتها هي علم دولة الجمهورية اليمنية لاحقا، وظل رئيسا حتى إرغامه على الاستقالة في 22 يونيو 1969م، بعد انقلاب الجناح اليساري المتشدد في الجبهة، ووضعه تحت الإقامة الجبرية في كوخ بمنطقة دار الرئاسة دون محاكمة أو حتى تهمة حتى وفاته في 7 يوليو 1981م.
رياح لاهبة
ولسنوات سبع وثلاثين، تلت الثورة اليمنية بجناحيها (26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م)؛ تعذر على اليمنيين إنهاء تشطير الاحتلالين التركي والبريطاني لليمن بمعاهدة تقاسمهما اليمن وترسيم حدود بينهما عام 1915م، وتعذر على اليمنيين تحقيق هدفهم الثوري المشترك المتمثل في توحيد شطري اليمن، بفعل تأثيرات الحرب الباردة بين قطبي العالم حينها، المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي.
أعاقت توحيد شطري اليمن، رياح الحرب الباردة بين قطبي العالم حينها “الشرقي” الاشتراكي و”الغربي” الليبرالي، وتدخلات مراكزهما الإقليمية (السعودية وممالك الخليج والجمهوريات العربية الاشتراكية) إيديولوجيا وبالمال والسلاح في سياق سباق النفوذ والهيمنة على مضايق العالم البحرية وطرق الملاحة ومنابع الثروة، وظلت تمثل عقبة رئيسية حيث كانت تغذي التشطير وتؤجج الصراع بين نظامي شطري اليمن حد الاحتراب فيما بينهما.
شهد شطرا اليمن اندلاع حروب عسكرية نظامية وأخرى ميليشاوية غير نظامية، قادت نظامي الشطرين في صنعاء وعدن، إلى عشرات اللقاءات الرئاسية والوزارية، واستطاعت برعاية كل من مصر وليبيا والجزائر والكويت، نزع فتيل الحرب نهاية 1972م وبداية 1979م، وتوقيع اتفاقيات أسست لمباحثات وخطوات توحيد شطري اليمن، في ظل بروز نزعات فرض الوحدة بالقوة من جانب نظام عدن، بفعل تفوقه العسكري.
كان نظام عدن، المدعوم من المعسكر الشرقي السوفيتي، يسعى إلى توحيد اليمن بالقوة تحت راية الاشتراكية، ويغذي تنظيمات يسارية مسلحة فيما عُرف بحروب المناطق الوسطى، وكان شمال الوطن يضج بصراعات قوى اليسار واليمين والوسط، ما استدعى توحيدها في رؤية وشراكة وطنية لقوى الشمال، تحققت بقيام المؤتمر الشعبي العام في 24 أغسطس 1982م، ليغدو موازيا للحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب.
محطات وحدوية
أسفر قيام المؤتمر الشعبي العام الذي ضم مختلف التيارات والقوى السياسية السرية حينها، عن صياغة وثيقته السياسية “الميثاق الوطني” للعمل المشترك بين مختلف القوى، ما نزع فتيل الصراع فيما بينها، ووفر استقرارا سياسيا وأمنيا كان يفتقده الشمال، وهيأ له الانطلاق بثقة ووتيرة جادة لتحقيق هدف الثورة الوحدوي وعمل على وضع آليات تنفيذ اتفاق القاهرة وبيان طرابلس واتفاق قمة الكويت.
شهدت الفترة التالية لتأسيس المؤتمر الشعبي العام، انعقاد 60 محطة من أصل سبعين محطة في مسار المباحثات الوحدوية مع نظرائهم الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جنوب الوطن، لتوحيد رؤى ونظم شطري اليمن، باتجاه إعادة توحيد اليمن في كيان سياسي واحد، تنوعت ما بين لقاءات قمة بين رئيسي نظامي الشطرين، ولقاءات قمة المجلس اليمني الأعلى الذي مثل ما يشبه “وحدة كونفدرالية”، وما بين لقاءات قمة رئيسي مجلسي الوزراء، ولقاءات لجان وزارية.
وتوزعت هذه المحطات الوحدوية، التي أفضت كل منها إلى توقيع اتفاق وحدوي جديد، عربيا بين الكويت وطرابلس ليبيا، ومحليا بين صنعاء وتعز وعدن والبيضاء أبين، وكرست جميعها لإقرار آليات إحلال الأمن والاستقرار وتسهيل حركة تنقل المواطنين والتبادل التجاري بين الشطرين بعدما ظلت مقيدة بإجراءات أمنية مشددة وصلت إلى وضع ضمانة مالية ورهينة للالتزام بالعودة؛ ووضع صيغ النظم السياسية والاقتصادية، وإنجاز مشروع دستور الوحدة.
محطة الوصول
أسهم انهيار الاتحاد السوفيتي في زوال عوائق كثيرة، وانشغال العالم بتداعيات انتهاء الحرب الباردة وبدء عهد القطب الواحد (الغربي)، وتوجت هذه المسيرة الوحدوية وجهودها الوطنية المخلصة بتوقيع اتفاق اندماج شمال اليمن وجنوبه في 30 من نوفمبر 1989م، ثم اتفاق إعلان ذوبانهما في كيان اليمن الواحد في 22 من ابريل عام 1990م، والمصادقة عليهما وعلى دستور الوحدة من نواب الشعب اليمني في شطري اليمن.
تجسد حلم اليمنيين طوال 129 عاما في شمال اليمن والجنوب، واتت دماء وأرواح ثوار سبتمبر وأكتوبر أكلها، وتحقق أحد ابرز أهداف الثورتين، واقعا ظهر يوم 22 مايو 1990م، بإعلان قيام الجمهورية اليمنية دولة مستقلة ذات سيادة، صدح نشيدها الوطني الذي كان معتمدا في الجنوب، ورفرف علمها الذي رفعته دولة استقلال الجنوب، من القصر الجمهوري في عدن، في غفلة من المتربصين باليمن.
تلك كان الخلاصة، لمسيرة توحيد اليمن، النضالية والسياسية في التاريخ الحديث، خلال أربعة عقود ونيف، لجميع القيادات الوطنية السياسية والفكرية والأدبية والمجتمعية، وغيرهم على درب تحقيق هدف ثورتي 26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م، وما تلاها .. الهدف الذي أكدت الأحداث أنه “طوق نجاة” لليمنيين، وسدا لثغرة التدخلات الخارجية، وشرطا للاستقرار والازدهار.
خطأ التأطير
خلاصة، تؤكد في ثناياها أن إعادة توحيد شمال اليمن وجنوبه سياسيا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا، لم يكن نتاج اتفاقية “في نصف ورقة”، بل آلاف وربما عشرات الآلاف من الوثائق والتصورات والبرامج والاجتماعات والاتفاقيات، السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، ..إلخ، وتبعا لم تكن الوحدة اليمنية، نزوة عاطفية، بقدر ما كانت حاجة وجودية، لنزع فتيل الاقتتال، وتوفير سبل الاستقرار وتبعا فرص ومقومات البناء والنماء.
ورغم كل ما تلى تحقيق هذا الإنجاز، من تحديات وصعوبات، ومنعطفات وعثرات، يظل الثابت والماثلة شواهده اليوم، أن وحدة اليمن، مصدر قوة وعزة، وصمام أمان واستقرار، وفسحة بناء ونماء، وأن بديل وحدة اليمن، هو التقسيم والتشظي، والاقتتال والاحتراب، والتدخل الخارجي، والغزو والاحتلال الأجنبي، والدمار والخراب، والوهن والهوان، وكل أسباب الضياع والتيه، والارتهان التام للهيمنة والوصاية الخارجية، على حساب الامتهان الدام لليمن واليمنيين.
كما يبرز من استعراض هذه المسيرة الوحدوية، خطأ تأطير وحدة اليمن في نظام أو أنظمة سياسية تسقط وتنفصم عراها بسقوط أو جور وأخطاء هذا النظام أو الأنظمة السياسية، وإغفال أو تغافل حقيقة أن وحدة اليمن ليست نظاما سياسيا ولا نتاج نظام أو أنظمة سياسية حاكمة توافقية أو غالبة، بل قاعدة تتحرك فيها وحولها مجموعة المتغيرات الزمانية وسياقاتها المكانية ومؤثراتها الداخلية والخارجية.
حقيقة تؤكدها معطيات الأحداث ووقائع الزمان الموثقة وشواهدها المعاصرة ومتغيرات النظم السياسية الحاكمة، أن وحدة اليمن ظلت قائمة جغرافيا وهوية، ومطلبا أو هدفا لمختلف النظم السياسية الحاكمة على اختلاف مسمياتها وخلفياتها الفكرية، لأنها واقع وجودي جغرافي متداخل وسكاني مترابط ومصالح متشابكة على نحو سابق ومرافق ولاحق للأنظمة السياسية ومتغيراتها وما تفرزه سلطات حكمها من حدود.