الحاجة إلى إرادة سياسية عليا لحماية الآثار
فتحي أبو النصر –
يتفق علماء آثار على أن أهم حلقات التاريخ اليمني مفقودة بسبب إجراءات اللامبالاة وعدم الاهتمام فضلاٍ عن صيغ الاختلال والعشوائية والارتجالية التي يتم التعامل بها مع الكنوز الحضارية اليمنية.
ومن العجيب أنه لا توجد استراتيجية أمنية للمتاحف والمواقع الأثرية حتى اليوم فيما على مرأى ومسمع كانت ولا تزال المواقع الأثرية عرضة للتدمير وللسرقة .
ثم من يصدق أن السفيرة الألمانية هي من اكتشفت حادثة سرقة متحف الآثار الأخيرة بصنعاء بعد أيام من حدوثها .
قال للثورة مسئول كبير سابق في وزارة الثقافة على اطلاع بالقضية إن السفيرة حال زيارتها للمتحف بعد إجازة عيد الأضحى لاحظت قمرية مكسورة وآثارا لم تعد موجودة في مواضعها ثم سرعان ما خرجت القضية إلى العلن عبر الصحافة!
حدثت السرقة في الدور الثالث للمبنى وخلال إجازة عيد الأضحى لكن المرجح أن كسر القمرية تم للتمويه بحيث تظهر الحادثة كسرقة.
المصدر الموثوق كشف أن موظفي المتحف منذ عامين وهم يدخلون بسيارتهم ويخرجون بلا تفتيش وهذا لا يحدث في أي دولة تحترم نفسها.
وقال أيضا أن دفاتر الوارد كانت تكتب بالقلم الرصاص فيما مضى قبل أن نتدارك هذا التسيب الرهيب حد تعليقه.
الحاصل أن التوريدات المتحفية الجديدة ستظل تعاني الخطر إضافة إلى تلك التوريدات القديمة التي تم شراؤها من المواطنين في حال استمرار التدهور الأمني للمتحف. وأما بحسب المعلومات المتسربة من محاضر التحقيق في القضية فإن ساحة المتحف كانت شهدت حدثا غير معقول فترة الحادثة: احتضنت عرساٍ لابن الحارس بموافقة المسؤولين وحضورهم وهو فعل إهمالي غير متصور على الإطلاق في مكان يعرف بأهميته القصوى.
الأمر يشير إلى مشهد من تجليات روح اللامسئولية غير المبررة التي تتصف بها إدارة المتحف.
غير أن السؤال المهم الذي يطرح نفسه بعد حصول هذه الحادثة: ماذا لو تم التواطؤ لتغيير معروضات أصلية بمعروضات مزيفة هل سيلاحظ الأمر بسهولة¿
بالتأكيد فإن مثل هذه العمليات إن تمت في ظل حالة أمنية وإدارية مهملة ومتردية للمتحف لن يكتشفها أحد ما يتطلب كشفاٍ للقطع المعروضة في المتحف بشكل دوري!
والثابت أنها المصادفة البحتة لاكتشاف سرقة ثلاث مخطوطات قيمة وسبعة سيوف أثرية ذات أهمية تاريخية من المتحف الأول للبلاد.
والشاهد أنه في السنوات السابقة تعرضت الآثار اليمنية لغارات منظمة في مواقع غير مصانة بأكثر من محافظة.
وإذ تبرز قيمة الأثر من كونه تاريخا وحضارة وهوية وذاكرة وجزءاٍ أصيلا من وجدان الأمة الثقافي فإن مختلف الدلائل والوقائع الجرائمية الفظيعة ضد الأثر اليمني العريق ظلت تؤكد أن عصابات سرقة الآثار وتهريبها في اليمن تعد من أنشط العصابات المسنودة والمتجذرة.
وأما بحسب معلومات موثوقة فإن كبار مسئولين يحوزون على قطع آثارية ذات أهمية قصوى بل إن العديد من هؤلاء للأسف يتاجرون بصفاقة مندفعة بالآثار كما يجرون عمليات التسهيل اللازمة لتهريبها.
تذكيراٍ كان رؤساء البعثات الأجنبية للآثار في اليمن وجهوا رسالة إلى رئيس الجمهورية اليمنية في العام 2003 يطلبون منه التدخل لحماية المواقع الأثرية في الجوف. وفي 2004 قدمت منظمة اليونيسكو للتربية والثقافة والعلوم مشروع دعم للحكومة اليمنية لحماية هذه المواقع إلا أن الفريق العلمي حينها لم يتمكن من الذهاب إلى المواقع لتنفيذ المشروع بالتعاون مع الصندوق الاجتماعي للتنمية والهيئة العامة للآثار والمتاحف.
ويقول أخصائي إن المشروع اكتفى بدراسة القطع التي تم جلبها من أهالي الجوف والموجودة الآن في المتحف الوطني بصنعاء وعددها 2000 قطعة.
كذلك في 2009 وجه 150 باحثاٍ يمنياٍ وأجنبياٍ شاركوا في مؤتمر الدراسات السبئية بباريس نداء جديدا لرئيس الجمهورية تم نشره في الصحف اليمنية يطالبون فيه بالتدخل الفوري لإنقاذ ما تبقى.
غير أن من يتساهل في إجراءات كهذه هم رجال دولة متسيبون ومفرطون وغير محترمين ولا يلتزمون بالقوانين.
والواقع أن عمليات التخريب والنهب مازالت مستمرة حتى الآن بينما يبدو مؤسفا كل هذا الحقد الحاصل على التاريخ اليمني من قبل يمنيين في المقام الأول .
وإذ تحتاج آثار وشواهد الحضارات اليمنية العظيمة إلى سياسية جديدة أكثر حمائية فإنه يجب تحويل المناطق الأثرية قبل أي شيء إلى محميات محروسة بدلا من استمرارها نهباٍ لمافيا الحضارات .
يحكي المصدر للثورة أنهم في وزارة الثقافة فيما مضى كانوا عملوا على تنشيط استراتيجية شراء آثار من المواطنين وتشجيعهم بنداءات وطرق مختلفة ما منحهم الثقة بحيث كان يتم أخذ الآثار منهم حين يأتون بها ولا يتم الالتزام بتسليم مكافآت لهم.
وفي الحقيقة كنا نعاني من الموازنة الشحيحة لذلك وهم يريدون أموالاٍ كثيرة وليس مجرد مكافآت يستدرك ويتابع: المشكلة الإضافية أن هؤلاء المواطنين يضطرون للانتظار لمدة شهور حتى يحصلوا على الأموال المقدرة نظير جلبهم للآثار ما يجعلهم يفضلون البيع للتجار لا للدولة بالضرورة.
و يزيد: أرى من الأفضل أن تشتري الدولة آثارها بدلا من تهريبها خارج البلد. لكن على الرغم من أننا حينها حصلنا على قطع عظيمة تحكي تاريخا حضاريا مشرفا لهذا البلد وسلمناها للمتحف إلا أن المواطنين يتم إغراؤهم بأسعار أفضل ولذا يفضلون بيعها للعصابات التي غالباٍ ما تقوم بتهريبها على نحو منظم خصوصاٍ أن المهتمين بالحضارات اليمنية القديمة يقدرون آثارها جداٍ ولذا يبذلون في سبيل الحصول عليها مالاٍ وفيراٍ مدركين قيمتها المعنوية و الرمزية العالية.
المصدر الذي رفض ذكر اسمه شدد بقوة على أن “استمرار افتقادنا لإرادة سياسية عليا لحماية الآثار يفاقم من هذه الجرائم والمعنى أنه ينبغي تخصيص ميزانية رسمية لشرائها بل ومدعومة دولياٍ من قبل الشركاء الثقافيين لليمن إذ إن الغاية هي الحفاظ على هذا التراث الإنساني بشكل رسمي وليس استمرار عبث الفوضى القائمة”.
من ناحية أخرى وبخلاف الرؤية الشرائية التشجيعية أعلاه ثمة من يرى أنه لا يجب التهاون أبدا مع مالكي الآثار وعلى اعتبار ضرورة أن يكون كل أثر تاريخي ملكاٍ للدولة إذ لا ينبغي أن يحدد المواطنون سعر الأثر للدولة فهذا يعد ابتزازا وعلى الأقل يمنح هؤلاء مبلغاٍ تشجيعياٍ فقط وليس ما يريدون.
على أن يعارضون هذه الرؤية يرون أن أسلوبها سيكون فاشلاٍ وسيجعل المواطنين ينأوون عن التفاعل الإيجابي كما لكوننا أصلا مانزال نفتقد للدولة القوية التي تفرض هيبتها على الجميع.
والمعروف أنه لطالما تمكن الخطر من أهم المقتنيات السيادية الآثارية المكتشفة. كما أن العالم صار وطناٍ فعلياٍ لأهم آثارنا بحيث توجد في أهم متاحف العالم اليوم أو تعرض في المزادات على نحو سافر.
ثم من يصدق أن الدولة لا تستطيع الدخول لحماية مواقع آثارية غاية في الأهمية خصوصا في الجوف وشبوة ومأرب والمحويت وذمار وأن الحفريات العشوائية تتفاقم في عدة مواقع آثارية من قبل عصابات التهريب وأن آلاف من القطع والعروش والنقوش والحلي القديمة والمومياوات بمتناول هؤلاء.
في هذا السياق لعلنا نتذكر تلك الصرخة المقلقة التي أطلقها قبل سنوات قليلة منير عربش – مسؤول مشروع اليونسكو لحماية آثار الجوف-: أن اليمن هي المصدر الأول للآثار في العالم.
كان عربش يتحدث لصحيفة النداء المستقلة مؤكدا أن عصابات تهريب الآثار تسيطر على بعض أهم المدن الأثرية وشبكة تهريب كبيرة تقوم بعقد صفقات مقاولات حفر مع الأهالي.
في العام 2010 وجه عربش بصفته يعمل باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي معهد الدراسات السامية القديمة بباريس وكان قضى في اليمن أكثر من عشرين عاماٍ في هذا المجال نداء قوياٍ للحكومة اليمنية ومثقفي اليمن ومؤرخيه: جاء فيه “تغذي حملات التنقيب العشوائية المنظمة الأسواق المحلية والعربية والدولية لتجارة الآثار والتحف وذلك دون أي رادع قانوني أو قبلي أو ديني. وتخرج بشكل منتظم من أراضي اليمن قطع أثرية مهمة ونادرة معروضة للبيع في صالات العرض الدولية في دبي وبيروت وعمان ونيويورك وواشنطن ولندن وباريس وسويسرا. والجدير بالذكر هنا أن اليمن لا يمكنه المطالبة بهذه القطع لأنها خرجت من المواقع الأثرية ومن أراضيه بشكل غير قانوني من قبل مواطنين يمنيين ومن الصعب اللجوء إلى إنتربول لأن اليمن لم يوقع حتى الآن على معاهدات اليونيسكو وجنيف وخاصة البنود المتعلقة بملاحقة المخربين ومحاكمتهم مهما كانت هويتهم وأينما كانوا وحلوا”.
بحسب نداء هذا المتخصص الذي لم يلقِ ردودا رسمية ومجتمعية إيجابية فإن “تجارة الآثار لا تمس فقط الآثار اليمنية القديمة بل الآثار الإسلامية فقد تم بيع مئات المخطوطات الإسلامية النادرة وهي الآن موجودة في دول الخليج العربي عند مجمعي التحف الإسلامية وفي بعض متاحف هذه الدول دون ذكر مصدرها… اليمن”.
لاشك أن الخطأ الأكبر سببه الدولة التي لم تستوعب كما ينبغي أهمية الآثار ولم تضرب بيد من حديد كل من يتورط في العبث بها كما بالمقابل لم نشهد على الإطلاق أي مساندة حقيقية من قبل الدولة لتنوير المواطنين في المناطق الآثارية الغنية قبل أن تمتد أياديهم للنبش والسرقات وصولاٍ إلى التنكيل والتفريط بتاريخ وذاكرة وطنهم بسبب الجهل المسيطر والأطماع اللامحدودة وشحة التنمية الإنسانية في تلك المناطق.
وتتطابق المعلومات الواردة في كون المتاحف اليمنية بلا قاعدة معلومات موحدة متكامل حتى الآن حيث كان قد تم البدء بالعملية قبل سنوات ثم تعرضت للعرقلة والبيروقراطية.
وخلافاٍ لعملية سرقة متحف صنعاء كانت عملية سرقة لمتحف آثار عدن تمت في عام 2009 جرى التعامل معها بتكتم شديد رغم وصولها للصحافة ولم يتم الإعلان الرسمي عن مأتم بالضبط أو إجراءات التحقيق المفترض أن تكون شفافة ويعرفها المجتمع. ومن الحوادث المعروفة سرقة متحف زنجبار أثناء احتلال القاعدة للمدينة قبل أشهر بل لم تتم لجنة تحقيق في الحادثة كما ينبغي مع أن مصدر رسمي كان قال إن عديد مقتنيات حافظ عليها بجهود شخصية مدير المتحف في ظل ظروف صعبة كانت تعانيها المدينة.
تفيد المعلومات أيضا أن كثير مقتنيات في متاحف الجمهورية لم توثق أو تعرض بل إنها في المخازن تعاني أسوأ حالات العرضة للتلف أو للسرقة.
ثم أليس من المفترض زيادة الحراسة على المتاحف والمواقع الأثرية بدلا من التهاون في حمايتها وعدم الاكتراث كون الإرث الحضاري والثقافي الموجود بها لا يقدر بثمن.
على أن الجهل والتحريض الذي تعانيه آثارنا منذ زمن طويل إضافة إلى طمع المواطنين وتسيب الدولة أسباب مجتمعة تشكل ظاهرة ممنهجة من أبسط نتائجها عدم إدراك قيمة الأثر الحضارية تقديرا سليماٍ.
لذلك لابد من تنمية الصلة بين المواطنين وأهمية الثار لابد من تعزيزهم بالوعي الوطني والحضاري عبر الإعلام ومن خلال تنظيم زيارات إرشادية للطلاب والموظفين وباقي قطاعات المجتمع لزيارة المتاحف.. لكن قبل أي شيء ينبغي تكريس مناهج التعليم بقيمة الآثار وما تمثله للهوية الحضارية للأمة.
وحيث يوجد في الجمهورية 18 متحفاٍ إلا أنها بلا معايير متحفية حقيقية فيما الكارثة أن قرابة 15 متحفاٍ مغلقا على نحو مبهم الآن إما لأسباب أمنية كما يقال أو لأسباب الصيانة والترميم.
الخشية أن يتم نهب محتوياتها بتواطؤ ولا يدرك أحد خصوصا إذا كانت مقتنياتها لم تشملها عملية التوثيق أو الجرد.
وتتفق المصادر على أن معظم الآثار ذات الأهمية الاستثنائية يتم تهريبها بمساندة من موظفين في شركات أجنبية تعمل في اليمن أو من قبل موظفين أمميين أو دبلوماسيين يستفيدون من ميزات تسهيلية واسعة وهم على صلة بالمتاحف والمزادات العلنية.
باختصار لعلكم لن تصدقوا أيضا أن قانون الآثار تتم المحاكمات فيه بموجب القانون الجنائي بحيث يعاقب المهرب بدفع مبلغ عشرة آلاف ريال فقط .