يصدُر عن تاريخ ثقافي عريق ليحمل بجدارة القضية اليمنية العادلة في زمن العدوان والحصار "الحلقة الثانية "
الزامل..من الأسطورة إلى فلكلور معارك الذود عن السِّيادَة
بارق (النصر) من (جيزان) لاح
واقبل (الفتح) بعد (الفاتحهْ)..
دَنّت(العاصفة).. لـ(أمّ الرياح
والمشاهد جلية واضحهْ..
وين جيش الدعي (سلمان) راح
من هجوم الصقور الجارحهْ ؟!
أخفق ا(ترمب) وتحالف (سجاح)
كفّة المؤمنين الراجحهْ..!!
راعي (الحزم) مكسور الجناح
ما تهنّى بصفقهْ رابحهْ..!!
في أي من ضروب الشعر (فصيحا أو عاميا) قد يكون شيطان الشعر في عالم الخيال الزمني والمكاني مُغِيّبَاً للعقل (المعقول)، كأن يكون ضرباً من التهاويم، فيكون المعنى في بطن الشاعر -كما يقال- لكنه في زامل (بشارة نهاية العاصفة) المميز بنسق الشعر التصويري الموغل في بيان الحال بفصيح المقال، كان كفيلاً بجعل العقل حاضراً والإرادة محوراً والواقع بديلاً لافتراضية المعاني والدلالات، من خلال تركيز أبيات الزامل على بؤرة قضيته الحقوقية، وموقعها من حياته، ومصير تحالف الظالمين، ومآلات المستكبرين..
في هذه الحلقة -من مادة تأصيل تاريخ وخلفيات الزامل الاجتماعية والثقافية- سنقف أمام مشاهد المعارك الحقيقية ولكن بأفواه بدّاعين وزمّالة خطت خواطرهم وهواجسهم منظومة فلكلورية ثقافية لمجريات المعارك، ليشكلوا جبهة معنوية تسبق وقائع الحرب في كل الجبهات، وفي كل الانتصارات والتحولات، وتجتاز التحصينات المعنوية والذهنية لجيوش العدوان، مدمرة خططهم وتصوراتهم الزائفة عن اليمن أرضا وانسانا… إلى التفاصيل:محمد إبراهيم
وبالعودة الى ما ذكرناه من أبيات زامل (بشارة نهاية العاصفة) المشار إليها في مقدمة هذه الحلقة، يجد القارئ نفسه أمام مشهد تصويري يختزل مآلات عاصفة الحزم، ولك أن تتخيل وأنت تقرأ أو تستمع وتشاهد مقاطع هذ الزامل بصوت المؤدي المجاهد عيسى الليث، صادحا بهذه الكلمات – للشاعر ضيف الله سلمان- وفق أداء زواملي فردي وجمعي، بخلفية صوتية من القصف والانفجارات وتهاوي المعسكرات والتباب، وكيف تنجلي مدلهمات الجيوش القادمة جوا وبحرا وبرا، متلاشية أمام عزيمة هذا الأداء قبل قدوم فيالق الجيش واللجان الشعبية.. حيث يواصل الشاعر كلماته المستدير صداها بأداء عيسى الليث حيث يقول على سبيل الحكمة:
من تمسّك بقرن ابليس طاح
والطواغيت جَمْعَه طايحة..
بالسيوف الصوارم والرماح
امتطينا الخيول الجامحة..!
يا أُولو البأس حان الاجتياح
والتجارة مع الله رابحة..!!
بعد ذلك يطلق الشاعر في زامله سياقا شاعريا رصينا مؤصلا عوامل النصر التي أساسه القوة الإيمانية بقضية اليمن العادلة، وفق سرد شعري متوج بالأداء الفريد لعيسى الليث بالصوت والصورة ونقل مشاهد المعارك، عاكسا مشهد الخسران الذي مني به التحالف الذي كان ينظر للقضية من هذه الزاوية : إن شعباً فقيراً مدمراً بالصراعات الممولة خليجيا، وتشهد مؤسسات دولته وجيشه انهيار وهيكلة وتدمير مقوماته الدفاعية، من الاستحالة بمكان أن يقف أمام التحالف أكثر من ثلاثة أيام، خصوصا والتحالف قد ضم أدوات الداخل ومرتزقة العالم من بلاك ووتر والجنجويد الأفارقة، وانفقت أموال باهظة لشراء وسائل الإعلام الكبرى عربيا وعالمياً.. فكان السطو عليه في تصور التحالف مسألة معركة خاطفة ستجرى بين عشية وضحاها، ليكون مكسب (عاصفة الحزم) المحتفى بها في البيت الأبيض الأمريكي – لحظة انطلاقها- صبيحة 26 مارس 2015م والمخطط لها عبر سنوات وعبر كبار المستشارين في تل أبيب والبيت الأبيض، هو ضم شعب استهلاكي فقط، ودولة بسيادتها على طريقة دعاة الضم والإلحاق (نظام آل سعود التوسعي) الذي ضم شعوب ودويلات وسلطنات والحجاز.. حيث قال الشاعر ملخصا النتيجة:
من هُدى الله طوّرنا السلاح
في (بِقيق)التجارب ناجحة..
حلف (سلمان) تذروه الرياح
والخسارات كبرى? فادحة..
في الجهاد السلامة والفلاح
والفرج للشعوب النازحة..
ما نسينا المآسي والجراح
والعدو مستحيل انسامحهْ..!!
الإبداع الجمعي
ومثلما أشرنا في الحلقة السابقة من أن الأداء للزامل في الفلكلور الشعبي يشترط في أغلب الأحوال الأداء الجماعي، بدعا (أي قول أبيات الزامل شفاهيا) أو أداء أي ترديدا ملحونا، فقد تجسد في زوامل معركة الصمود المقاوم للطغيان سمات التشاركية في كتابة الكلمات وأداء الزوامل، وفي هذا المقام يتجلى الإبداع في المواكبة الميداني لعملية “البنيان المرصوص” التي حررت تحت وقع ضربات أبطالها مديرية “نهم” وأجزاء واسعة من مفرق الجوف.. حيث تابع العالم زاملاً استثنائياً رباعياً الكتابة الشعرية، إذ استطاع أربعة شعراء هم: (“نشوان الغولي”، “ابو عساف الدهمي”، “ابو حيدر مسعود”، “ضيف الله سلمان”) صياغة أوبريت ميداني تخاطب أصداؤه المحمولة على أداء فني متميز للمجاهد عيسى الليث، الجبال والهضاب والتلال بحقيقة النصر والفوز على العدوان والمرتزقة بعون وتمكين من الله، حيث استهل الزامل الشاعر نشوان الغيلي :
بعون الله يا “نهم” انتصرنا
وسيطرنا على كل المواقع
مع ربي تحزمنا جعبنا
وجهزنا القذايف و المدافع
تمسكنا بحبله و اعتصمنا
وتأييده لنا قوة ودافع
ينتهي مدخل هذا الزامل الشبيه بالموال بما حمله من نَفَسٍ لحني إيقاعي، يتناسب مع واقع الحال والمكان في خط الانتصار في شراسة تلك الجبال والمواقع المحصنة على مدى خمس سنوات، وما فيها من عتاد عسكري حديث، حيث ينقل الشاعر الثاني “ابو عساف الدهمي”، و”ضيف الله سلمان” أجواء المعركة بإيقاع سريع مختلف عن الموال الافتتاحي يوحي بحركة الانتقال الواقعي والميداني إلى مفرق الجوف، مؤكدا العزم على استعادة مارب واسقاط رهانات التحالف، وأن مأرب لن تكون سوى بداية دلالية لانتقال أهداف الردع والثأر المحتوم على جرائم العدون، من تحرير “سد مارب” رمز الحضارة اليمنية، إلى تحرير مديرية الجوبة في محافظة مارب، كما أن اسم الجوبة يطلق على قرية سعودية مشهورة تقع في منطقة مكة وتحديدا في محافظة رابغ، فحمل الاسم أكثر من بعد دلالي في نفس الوقت:
يا مفرق الجوف سلم لي على مأرب
وقـلـها الـوعـد بـيـن الـسد والـجوبة
كـتايب الموت سلت سيفها الضارب
الـوعـد قــدام والـساعات مـحسوبى
أما الشاعر الثالث “ابو حيدر مسعود” فيخاطب المؤرخين خطاباً مباشراً بأن هذه الانتصارات أوجبت عليهم التسجيل بأحرف من نور كونها ملاحم تاريخية واستثنائية بتعدد الانتصارات في أكثر من معركة ومكان، فيقول:
سجلّ على صفحت التاريخ يا كاتب
ملاحم النصر للأنصار مكتوبة
من نهم لا الجوف لا هيلان لا مارب
الى السواحل قوى العدوان مرعوبة
وفيما واصل الشاعر الرابع “ضيف الله سلمان” مشاركته الزواملية المقتضبة في ثلاثة أبيات تفصح عن الإيمان الراسخ بقوة الله وتأييده للجيش واللجان والشعبية في هذه الانتصارات صادرة من ثقافة قرآنية حددت مواقع وعد الله للمجاهدين بنصره وتأييده:
بقوة الله ولى المعتدي خايب
با يندحر من شمال الشعب وجنوبه..
(بنيان مرصوص) في نهج ابن أبي طالب
والتضحية في سبيل الله مطلوبة..
وبالولاء ينتصر حزب الله الغالب
من سورة الصف والأعراف والتوبة..
الصمود الشعبي
رغم تعدد الانتصارات وظهور الزوامل الصادمة منطقا وأداءً، إلا أن الزامل لم يكن في منأىً عن التعبير عن ملحمة الصمود الشعبي والعسكري والأمني، وتوثيق مشاهدها على مدى خمسة أعوام أمام طوفان النيران المعادي والغازي جوا وبرا وبحرا، فكان صفحة أمينة وجديرة بتوثيق اصرار الشعب اليمني على عدم الخضوع والخنوع لأي من مصادر المغريات أو خوف جسامة التضحيات، من جهة، ومن جهة أخرى شكل صدىً متقدما بقوة، في اكتساح معنويات الجيوش الغازية من الجنجويد وبلاك ووتر وأدواتهم اليمنيين المخدوعين بشعارات التحالف السعودي الأمريكي الصهيوني، ففي كلمات الشاعر المجاهد “أبو حيدر الحمزي” المعنون بـ “للبطولة سجلوني يماني” والذي أدّاه فنا زواملياً صاحب الصوت الـمُغِير والـمُهيب عيسى الليث، صادحاً بعهد الصمود الصارم ذي البيان الواضح باستحالة قبول الذل والخنوع :
لن تذلوني ولن تركعوني
دام فيني دم يقدح عزيمة
الله اللي بآل طه هداني
للبطولة سجلوني يماني
في الصفوف الأوله سجلوني
رأس يابس عز نخوة وشيمة
قربوا سيفي وهاتوا حصاني
للبطولة سجلوني يماني
بعد هذا المدخل المعبر عن حال الشعب اليمني الصامد، والمعبر أيضا عن حال حراس السيادة في مختلف الجبهات، وصمودها أمام القصف الجوي والبري والبحري الكثيف، طوال ساعات النهار، حاملا العهد العادل بتقاسم دوائر الكر والفر الزمنية (معركة النّفَسِ الطويل) فما يقترفه التحالف نهارا من جرائم قتل الأبرياء المدنيين والمجاهدين المرابطين، سيأخذ جزاء جرمه في وقت لا يرى فيه المجاهدين السائرين حفاة بالكلاشنكوف للانتقام، أرضا: عبر التوغل الميداني في العمق السعودي، أو جوا عبر اجنحة الطيران المسير، مؤكدا أن الآباء اليمنيين أنجبوا وربوا رجالا ليعيشوا العزة والكرامة، وإن كان ثمن ذلك رؤوسهم:
يا تحالف بالطواير رموني
قسمكم محجوز عند الظليمة
با تفاوضكم خشوم الصياني
للبطولة سجلوني يماني
ويواصل الشاعر معبرا عن الشعب اليمني(ممثلا بجيشه ولجانه الشعبية) مستبعدا أن ينام قرير العين بعد جرائم التحالف التي أوغلت في قتل اليمنيين، على مدى خمسة أعوام، معززا ذلك في نسق البناء الشعري بلازمة قولية تتردد على السنة القبائل اليمنية “لعن أبوه” وهي تعني: (يلعن أبو شخص يرضى الهوان وعيش الاستكانة تحت الإذلال)، مقسما برب العرش، أن اليمني عبر التاريخ لم ينس غريمه الذي حاول التطاول على كرامته وأرضه حيث يقول الحمزي:
كيف يهناني وتغمض عيوني
والتحالف كل ساعة جريمة
لعن أبو من يرتضي بالهواني
للبطولة سجلوني يماني
قيم المحارب النبيل
لم يكتف الزامل بتأجيج الحماس القتالي والاستبسال الميداني لحراس السيادة الجيش واللجان الشعبية، بل التزم بقيم المحارب النبيل كانعكاس لمجريات المعركة التي يخوضها الجيش واللجان الشعبية، سواء في المتارس أو في القوات الصاروخية التي لا تغدر بل تسير على قاعدة (قد اعذر من انذر) وهو ما تجلى في كلمات النسخة الثانية من زامل الشاعر عبد السلام المتميز “الطاهش البطاش” الذي اطق صيحته المدوية الشاعر والفنان عيسى الليث والذي تقول مطالعه:
ها يالصقر يالهكّام يالساري المدغاش،،
قُمْ، واقطعْ خطوط الطول، حلِّقْ فيَ اجواها
شيل الحمولة من غضبنا على الأرياش،،
خلي تحالفهم يدون ويقراها
وبالله أسَالش يا يمن كيف عزّ (إ)حماش،،
ولولا المسيرة كان الإذلال غطّاها
ولولا الجهاد ان اليمن تدعسه الأوباش،،
وترسل كلاب النفط في شعبنا اجراها
ويمضي الزامل الذي وثق أهم مشاهد استهداف “الشيبة” و”بقيق” و”خريص” وغيرها من مكامن النفط التي لم تعد في منأى عن اهداف قوات اليمن الصاروخية وطيرانها المسير، مؤكدا أن النشامى ما كلوا ولم ولن يستكينوا رغم جبروت التحالف وأسلحته، وأنهم يتوقون للمعركة بأكباد تهيم عطشا لأخذ الثأر من الظالم، وكما لو أن الله خلق هذه الأنفس وسواها من العز والمجد، موردا اسماء الصواريخ اليمنية التي صابت أهدافها بدقة في أراضي العدو:
و”راصد” و”قاصف” تسبق الشمس في المغباش،،
ورادار باتريوت قد ربيَ أعماها
و”ثاقب” و”فاطر” صاحية شوقها جَيّاش،،
وصارت بقوة ربها تحمي (إ) حماها
ولو ما طغى ابن سعود ما اتكلم الرشاش،،
ولا سالت إدمانا ولا سالت إدماها
وفي ضربة (الشيبة) خبر يفهمه (قرقاش)،،
و(طَحنون) داري بالرسالة ومغزاها
نصحناك من قبل احذر الطاهش البطاش،،
نشعل فتيل النفط لا جارت اعداها
منبر الدبلوماسية الشعبية
وفي مسار الدبلوماسية الشعبية عكس الزامل الخطاب السياسي للقيادة الثورية والسياسية اليمنية أن الحرب ليست موجهة الى الشعوب، بل موجهة لأنظمة الخراب والظلام والأطماع الاستعمارية التي تخدم أعداء الأمة العربية والاسلامية ممثلة في هذه الشعوب، فـالمعني في زامل “قوم شعب الجزيرة” -الذي يمثل عملاً ثنائياً للشاعرين: ضيف الله سلمان، وأبي عبدالله العسيلي، وأداء عيسى الليث- هو شعب الحجاز ونجد الذي يعاني بطش واستبداد أسرة آل سعود، مؤكدا ان قضية الانتصار من تلك الأنظمة وعلى رأسها نظام آل سعود همٌّ مشتركٌ بين الشعبين بل وشعوب الجزيرة عموما، ثم يسلسل الزامل بعد مطلعه عوامل اقتراب الخلاص، مخاطبا أهالي جيزان وعسير واصفا لهم بأنهم أهل العز والشموخ (القرناس: ما برز شامخا من ارتفاع الجبال الصخرية)، والإباء والبطولة:
قوم شعب الجزيرة ما اعتراه الياس
الفرج بايجي والخير وصّالي
شعب الايمان والحكمة شديد الباس
يكرم الجار يرخص لاجله الغالي
يا اهل “جيزان” يا اهل العز و”القرناس”
يا “عسير” الإبا “نجران” الابطالِ
بالتآخي نعالج وضعنا الحساس
نرفض الهيمنة وحياة الاذلالِ
بعد هذه التوطئة الشعرية يأتي الرد على سبيل الحوارية بين الشاعرين الممثلين للشعبين :
يا بني عمنا يبقى الاخا مقياس
والنسب والصحب ما غاب عن بالي
ما قطعنا الصلة بين الجسد والراس
بانجاهد سوى بالنفس والمالي
صف واحد – كما البنيان – في المتراس
نحمي أعراضنا من بطش الانذال
ثم يتطرق الزامل لأسباب الحروب والفتن التي تشهدها شبه الجزيرة العربية بل وسبب الحرب الكونية على اليمن التي يغتال أطفالها وكهولها ونساءها في صالات العزاء والأعراس والمساجد، في حرب عبثية يقف خلفها شياطين واشنطن وتكساس:
أسرة أبنا سعود من راسها للساس
شَرْ… والجَدّ الاول مثلما الثاني
النظام السعودي فاقد الإحساس
قد تمادى بقتل نسا واطفالي
في المساجد وصالات العزا واعراس
وادمن القصف للأسواق طوالي
والشياطين من واشنطن وتكساس
يقتلوا شعبنا في سهل وجبالي
ثم ينهي الزامل مشاهده ودورته الشعرية الحوارية ببيتين من الحكمة البالغة التي لا مفر للظالمين منها، منطلقا من مثلين سايرين الأول: “من دق باب الناس دقوا بابه” وهو مثل مبني قاعدة دينية وانسانية هي: الجزاء من جنس العمل” :
قال: قال المثل: (من دق باب الناس)
فالجزا دايما من جنس الاعمالِ
دام والبادي اظلم يا عرب لا باس
ثأرنا باقي، باقي، عبر الاجيالِ
الزامل والزمن
ومثلما يعكس (الزامل) بنمطه الشعري القريب الى الخاصة والعامة، سمات الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي قيل فيها، فإنه يمثل ذاكرة السمات التاريخية والعسكرية والأمنية خصوصا في مراحل الحروب في مواجهة الغزاة على امتداد المحطات التاريخية، فقد اثبت في الخمس السنوات الأخيرة بالتوثيق الميداني أن للمقولة المشهورة في كتب التاريخ: “اليمن مقبرة الغزاة”، وذلك بتوثيقه لمجريات المعارك وكما لو أنه فيلم هوليود بفارق انما يجري على مختلف الجبهات خصوصا في الساحل الغربي هي معارك حقيقية وليست افتراضية تدخلت في صنعتها التقنيات الفنية والتحوير والدبلجة والفوتشوب والحيل البصرية والذهنية التي تجري على أفلام المعارك الافتراضية في هوليود، التي طالما تغنت بها أمريكا، ولعل الشاهد في هذا المقام هو ما قاله الشاعر “بسّام شانع” في زامله “سميدع مقحقح” الذي أداه المبدع المجاهد عيسى الليث، حيث يقول:
على الحلف بغمة بندقي مثل ما فمِي
سوى حين ما ترعد وحين القي القصيد
سميدع مقحقح قرم دلهام صيرمي
يدوس المنايا بأحذية عمره المديد
تهيجني الهيجا وتشعل تضرّمي
ونيران سعرة خوضها تصهر الحديد
يسيطر على كلي ويحتل معظمي
شغف لا تقاوم لهفة اصراره العنيد
استطاع الشاعر في هذا الزامل المغاير في الطول لكافة الزوامل- حيث يتكون من 22 بيتا شعرياً- أن يقتل عوامل الملل بتدفقه الشعري المتكئ على نسق بنائي رصين وبيان مشبع بالتصوير الشعري الاستثنائي، فليس ثمة صورة شعرية أبلغ من أن تجعل من الموت -رغم ترصده لانتزاع الأرواح في المعركة -مقاتلا يهاب المقاتل اليمني بل يحتمي به من هول المعركة التي تتداعي فيها الصور الشعرية بحرية بديعة لتكتمل على تداعيها الحر جزئيات مشهد المعركة:
ويحمى وطيس المعركة كيف ما حمي
تزايد شراستها إلى حيث لا مزيد
حماسي جهنم واتقادي جهنمي
فلا نار فاقتني ولا فاقني وقيد
بي الموت لا اشتدت من الموت يحتمي
ومني تلوذ الحرب بالحرب من بعيد
تجلت على كفي وزندي ومعصمي
مصاديق نصر الله والوعد والوعيد
ويختتم الشاعر زامله ببيتين لم أقرأ أبلغ منهما تصويريا في تاريخ قصائد الحرب، اذ يستحضر نهاية المعركة كيوم القيامة، فيكون آخر ضحايا المعركة هو الناجي الوحيد منها ينفجر به آخر لغم بعد خروجه بثوان من أرض المعركة:
تقوم القيامة من جنوب الدريهمي
يشب الصراع الكوني المفني المبيد
ويقضي بني آدم على كل آدمي
ويتفجر اخر لغم في الناجي الوحيد
الزامل والتقنية الحديثة
وإذا كان الزامل في المحطات التاريخية الماضية عبارة عن قول شفاهي صادر عن شاعر معروف أو جماعة معروفة أو غير معروفة، تتناقله الأجيال حتى تطمس معرفة الزمن والمكان اللذين قيل فيهما فيصير موروثا شعبيا مجهول القائل، فإن الزامل في زمن العدوان والحصار قد نجح في تخليد حضوره وقائليه ومؤّدِيِه، عبر وسائط التقنيات الفوتوغرافية والتسجيلات الصوتية، بل أصبح له مكتباته التقنية والوثائقية المفتوحة على العالم، أي إنه صار في متناول رواد الشبكة العنكبوتية العالمية، فيمكن لأي باحث في غرب الكرة الأرضية الوصول الى مقاطعه وانتاجاته، ليستطيع ان يدرس دور الزامل في نقل السمات التاريخية والعسكرية والمعارك في فترة العدوان والحصار..