هكذا عرفتُ الحُسين
مصباح الهمداني
أتذكر جيدًا كيف كان أتباعه، يخبئون ملازمه، وكأنها أوراق جاءت من الجنة، وكيف يتبادلون الكاسيتات وكأن فيها أصوات من مزامير داوود، والسيديهات وكأنما بداخلها ألواح موسى، ويقرأون ويسمعون في سرية تامة، وكأنما يعيشون عصر الدعوة السرية للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وأتذكر جيدًا إصرارهم على ترديد الشعار في المساجد، وما كانوا يتعرضون له من ضرب وتعذيب وسجن، ولقد وقفت بنفسي أمام مشاهد من الإصرار والعزيمة، لم أجد لها تفسيرًا ولا نظيرًا، إلا ما قرأته عن عمار وياسر وسمية، كان الأمن يطلب من السجناء التوقيع على عدم العودة إلى ترديد الشعار، فيرفضون ويتم تعذيبهم بشكل أكبر ويرفضون، وهكذا حتى قضى نحبه بعضهم تحت التعذيب.
وأعترف بأني ما جادلت أحدهم، إلا وبالقرآن غلبني، وبالحُجَّة أفحمني، فأي مدرسة أخرجتهم، وأي بشر رباهم، يجيبونك بلسان واحد؛ مدرستنا القرآن، وقائدنا “سيدي حسين”.
نعرف القرآن جيدًا، فمن هو الحسين؟
كان الشرف العظيم، والخير العميم، يحط رحاله في قرية يقال لها”الرويس” في بني بحر بمحافظة صعدة، وفي شهر شعبان سنة 1379 هـ الموافق فبراير 1960م كان مولده النوراني، وإطلالته البهية، والده العالم الرباني الحجة المجتهد بدر الدين بن أمير الدين بن الحسين بن محمد بن الحسين بن أحمد بن زيد بن يحيى بن عبد الله بن أمير الدين بن عبد الله بن نهشل بن المطهر بن أحمد بن عبد الله بن عز الدين بن محمد بن إبراهيم بن المطهر بن يحيى بن المرتضى بن مطهر بن القاسم بن المطهر بن محمد بن المطهر بن علي بن أحمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء عليهم السلام.
قال لي أحد طلابه يومًا “بالله عليك ما معنى قول النبي ص في حديث الثقلين؛ … كتاب الله وعترتي… وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض”؟
فلم أجد جوابا، فأردفَ قائلاً”: فبالله عليك لمن تطمئن قلوبنا؛ للزنداني الذي لا نعرف من هو، وقد يكون يهوديًا متسترًا، أم لحفيد الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم”.
ولعلِّي يومها ابتسمت أو ضحكت بصوتٍ عالٍ، لكنني اليوم أدركت معنى أولياء الله وأولياء الشياطين، والفرق بين عبيد الريال والدرهم وعبيد الجواد الكريم.
امتلأ الحسين علمًا وفهمًا، وظهرت علامات نبوغه وتميزه، وأصبح في طفولته رمزًا يشار إليه بالبنان، وكان بحكمته وعلمه وتواضعه يجذب الكثيرين إليه، وتتعلق القلوب به، وكل علماء عصره يرون فيه نبوغًا مميزًا، وقبولًا كبيراً، حتى قال عنه أبوه” أتاه الله ما لم يؤتِ أحدا في زماننا”، ويرد الحسين بكل تواضع ” ما أنا إلا حسنة من حسنات الوالد” .
ودار الزمن، وتدافع إليه الأخيار، لكي يمثل أبناء صعدة في مجلس النواب، فوضع شرطه الفريد على أبناء محافظته والذي نصه ” أنا لا أعدكم بشيء ولكني أعدكم ألا أمثلكم في باطل” وفي مجلس النواب رفض الحسين التوقيع على القروض رفضًا نهائيًا، وجاء الإبتلاء الأكبر، والحدث الأخطر، وهو التحضير لحرب الحزب الإشتراكي في الجنوب، فرأى الحسين أنها حرب ظالمة، وقرر الخروج من صنعاء، فيما كان الرئيس يمنع منعا باتًا خروج أعضاء مجلس النواب، لكي يضفوا الشرعية على حربه القذرة.
وعندما اشتعلت حرب صيف 1994م كان للحسين موقف مشهود وشجاع، فقد رفض الحرب رفضًا قاطعًا، وتجاوز رفضها إلى إقامة المظاهرات المنددة بالحرب القذرة، وكاد عفاش حينها أن يجن من تصرفات الحسين.
وبعد انتهاء الحرب وانتصار حزبي المؤتمر والإصلاح على الاشتراكي؛ أرسل عفاش -وهو في قمة نشوته بالنصر- حملة عسكرية ضخمة إلى مران بتاريخ 27/08/1994 م استهدفت منازل العلماء وعلى رأسهم منزل الحسين وأبيه، وبطريقة مليئة بالكبر والبَطر تم جرجرة الكثير من العلماء وطلاب العلم إلى السجون، واستمر سجنهم لأكثر من عام.
واستمر القائد على مبادئه، ولم تثنه السجون ولا التهديدات، وبعد إكماله البكالوريوس في قسم الدراسات الإسلامية انتقل إلى دراسة الماجستير في السودان في علوم القرآن، ومن هنا جاءت محاضراته القيمة؛ مختلفة وساحرة، بعد أن تشبع تأملًا وتفكرًا في القرآن.
وكما هي المبادئ لا تتغير، والثوابت لا تتبدل، فقد راع الحسين ما فعلته أمريكا بأفغانستان والعراق؛ فأطلق صرخته الأولى بالشعار المشهور، وذلك يوم الخميس 17/01/2002 من مدرسة الإمام الهادي في مران في محاضرة بعنوان”الصرخة في وجه المستكبرين”.
ومن هُنا أصاب أمريكا الجنون، لأنها تعرف قيمة الوعي، وتعرف خطورة الكراهية لها، وتعرف أن الشعار سيولِّد تساؤلا ومعرفة، وبدأ السفير يجتمع بعفاش بشكل كبير، ويطير عفاش إلى أمريكا، ويحضر قمة الدول الصناعية الثمان، مع أنه ليس منهم، ولا في العير ولا النفير، لكن موضوع الحسين هو الغاية ، ويلتقي بخبراء “السي آي إيه” و”الإف بي آي” ، وما إن عاد عميل أمريكا؛ حتى أشعلها حربًا شعواء، وحاصر الحسين وأصحابه حصارًا خانقًا.
وجاءت الوساطات وأجابها علي محسن الأحمر” لن نسمح بترديد الشعار ولا تحت البطانية”
وجاء صوت الحسين من بين مئات الغارت، وآلاف القذائف؛ لقناة “بي بي سي” ليعلن للملأ ظلم عفاش ومن خلفه أمريكا ويقول “المسألة دعاية، أنا أريد أن أقول لك إن كل الدعايات التي قالوها إنما قالوها من بعد الحملة للتضليل، ليصنعوا غطاءً ليضربونا تحت هذا الغطاء، وإلا فالحملة هي امتداد لما عملوه من سجون، ومعاملات سيئة من أجل إسكات أي صوت مناهض لأمريكا وإسرائيل، هؤلاء هم ممن يعبدون أمريكا يا أخي، هؤلاء ممن يسترضون أمريكا كغيرهم من زعماء العرب، وغيرهم الكثير من زعماء العرب، والحكومات العربية، هم هكذا، هذا معروف عند العرب الآن استرضاء أمريكا، التقرب إلى أمريكا؛ ليقدموا شعوبهم، وليقدموا دماء شعوبهم قرباناً على المعبد الأمريكي، لترضى عنهم أمريكا، معروفٌ هذا”.
ودارت معركة يعجز القلم عن وصف بشاعة مُشعليها، وبسالة مُستقبليها.
ودارت الأيام وإذا بكل كلمة قالها الحسين تحدث، وكل بشارة تتحقق.
ولو اقتطفنا واحدة من بشاراته حين قال” أقول لكم أيُّها الأخوة: اصرخوا..أليست هذه الصرخة ممكنة لأي واحد منكم أن يطلقها؟ بل شرف عظيم لو نطلقها نحن الآن في هذه القاعة فتكون هذه المدرسة وتكونون أنتم أول من صرخ هذه الصرخة التي بالتأكيد – بإذن الله – ستكون صرخة ليس في هذا المكان وحده، بل وفي أماكن أخرى، وستجدون من يصرخ معكم – إن شاء الله – في مناطق أخرى.. إنها من وجهة نظر الأمريكيين – اليهود والنصارى – تشكل خطورة بالغة عليهم.. إنها صرخة مؤثرة”.
ألا يجدر بنا أن نتساءل: أين عفاش، وأين أخوه علي محسن، بل أين السفير الأمريكي الحاكم الفعلي لليمن؟
أين كانت الصرخة وأين غدت؟
بالأمس كان حسين وحده ومعه ثلة من المؤمنين، واليوم غدا الحسين مدرسة يمتد صداها بامتداد الكرة الأرضية، وحملَ الراية أبو جبريل، وهو حسينٌ آخر وهو من حسين، ومعه ملايين اليمنيين، وملايين الأحرار من العرب والمسلمين.
فسلام الله عليك يا شهيد القرآن يوم ولدت، ويوم حفظت القرآن، ويوم تأملت وتفكرت، ويوم أعلنت البراءة، ويوم واجهت جيوش العملاء، ويوم حوصرت، ويوم استبسلت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيَّا.
نم قرين العين يا حفيد محمد، فرايتك مرفوعة، وشعارك خفَّاق، والنصر حليف المؤمنين.. والعاقبة للمتقين.