غريفيث في الوضع “الحرج”
وديع العبسي
حين اختار المواطن اليمني أن (يكون) متحيزاً للشق الإيجابي في مقولة شكسبير (أكون أو لا أكون) انتفضت حفيظة المستعمر الغربي وأدواته في المنطقة، هم يدركون، التاريخ أخبرهم بأن إنسان هذه الجغرافية في جنوب الجزيرة العربية كان دائما صاحب الفعل الريادي في المناحي المختلفة في السياسة، في الاقتصاد، في الزراعة وفي وضع قواعد للتعايش وحسن الجوار ولا تزال الشواهد ماثلة تخبر عن ذلك.
في محاولاتهم طمس تعاليم تلك الهوية فشلوا لأنهم لم ينتبهوا أو يتنبهوا إلى أنها قيم أصيلة تاريخها من تاريخ اليمن الممتد لآلاف السنين تحكي حكاية حضارة شهدت الكثير من التحولات ولم تستطع كل تلك المحاولات الغازية التأثير في بنيتها الحضارية ولا إشعاعها الإنساني، تحكي ذلك كتب الأخبار والأدب.. من هنا يصير من السذاجة تصور أن إطالة أمد الظروف القاسية على اليمني يمكن أن تدفعه إلى التخلي عن كينونته كإنسان ثابت على قيمه تلك.
من السذاجة أن يتصور المدعو غريفيث – موهوم الأمم المتحدة الذي بدت نواياه المراوِغة منذ ترويجه لقصة ولادته في مدينة عدن المحتلة – أن استباقه لتقدم الجيش واللجان إلى مأرب وتحشيده المجتمع الدولي لوقف هذا التقدم، وإطلاقه لتلك التحذيرات الوقحة التي تنزع من مهمته الصفة الأخلاقية وتجرد الأمم المتحدة من صفة المبادئ الإنسانية التي قامت على أساسه والتي تفرض عليها الحيادية والموضوعية في العمل على حلحلة مشاكل الدول والمساعدة في ترسيخ مفاهيم الشراكة، من السذاجة تصور أن ذلك يمكن أن يمثل مانعا يحول بين أبناء البلد وإدراكهم لاستقلال كل وطنهم.
قبل يومين وصل المدعو غريفيث إلى صنعاء وسط تنامٍ للاستياء من آليته في تنفيذ مهمته، ولا نتوقعه يحمل شيئا ذا قيمة، وما يمكن أن يطرحه لن يتجاوز أمور طرح من نوع ضرورة تجنيب مارب المعارك وتحييد إيرادات النفط والغاز من اجل استخدامها في صرف رواتب الموظفين، وموضوع استئناف تبادل الأسرى بموجب الاتفاق الموقع في الأردن الشهر الماضي، كما لن ينسى غريفيث اجترار ذات العبارات المحددة له وكررها طوال أشهر مهمته من أن اليمنيين يعيشون وضعا مأساويا وأنه لابد من العودة إلى طاولة المفاوضات.
وإلى جانب انتهاج المدعو غريفيث مبدأ تجزئة الحلول والوقوف طويلا عند الجزء دون الانتقال إلى آخر، تعودنا منه الظهور المفاجئ عندما تلوح بشائر النصر للجيش واللجان ونقله رسائل تطالب باحترام الاتفاقيات وتهدئة الوضع والتهيؤ لجولة من النقاشات الجوفاء واستئناف العملية السياسية، ولو انه –المدعو غريفيث – عمل أو بادر يوما من أيام العدوان بخطوة ايجابية لصالح إيقاف تلك المجازر الوحشية ورفع الحصار عن مطار صنعاء الدولي، أو أي من العمليات الإنسانية التي تحفظ سلامة المواطن وتحيد مصالحه لكان تدخله مقبولا، أما وقد كان طوال المهمة التي تجاوزت العامين سلبيا تجاه الحل الشامل للمشكلة ومتحيزا للطرف المعتدي فإن التعاطي معه بعد كل هذه المعطيات يطيل من عمر المشكلة.
نسي غريفيث أن اتفاق ستوكهولم بشأن الحديدة لا يزال في مهب الريح مع كماً الخروقات التي ارتكبها تحالف العدوان وبلغت أكثر من 40 ألف خرق شملت استخدام كافة أشكال الأسلحة بما في ذلك غارات الطائرات، كما أكد على ذلك رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاق الحُديدة الفريق أبهيجيت غوها، وهو الفشل الذي ينبغي أن ينزع من هذا الرجل الثقة في قدرته على إدارة المشكلة وتنفيذ ما جرى الاتفاق والتوقيع عليه، وتبدو زيارته لمأرب هي هروباً من ذاك الفشل، كما يأتي ذلك في وقت كشفت وثائق رسمية نشرها ناشطون الثلاثاء عن ميزانية غير معقولة لمكتبه لعام 2019 البالغة حوالي 17 مليون دولار، وتصل هذا العام إلى 18 مليون دولار، وإن صرفيات مكتب غريفيث المتعلقة بالطيران هي بمعدل 1.3 مليون دولار سنوياً فيما بلغت ميزانية البعثة الأممية في الحديدة العام الماضي، (56 مليون دولار) بمعدل صرفيات شهرية تتراوح بين 2.4 – 4.6 مليون دولار.
وهي مسألة لعلها تكشف سبب هذا المسار الطويل الذي يريده غريفيث لمهمته.
اليوم يبدو غريفيث في الوضع الحرج لجهة الثقة بنزاهته، وبأدائه، ولا أتصوره بحاجة إلى من يلفت انتباهه بقدر ماهو بحاجة إلى مراجعة منطلقاته، والعمل على رفع منسوب الحس الإنساني لديه لإنجاز خطوة ملموسة على طريق رفع الظلم عن الشعب اليمني.
أثبتت معارك الدفاع عن الأرض أن الجيش واللجان لم يكونوا دعاة حرب، تؤكد على ذلك عديد المبادرات السابقة لأي تحرك عسكري في اتجاه تحرير مساحة من ارض البلد، وآخرها مبادرة فريق المصالحة الوطنية، وهي المبادرة السياسية التي هدفت إلى تجنيب المدنيين في محافظة مارب خطر المواجهات المحتملة في ما إذا قرر الجيش واللجان التحرك لتحريرها من دنس الغزاة، وطرحت المبادرة جملة نقاط ذات مردود اجتماعي على أبناء الوطن بإنهاء عزلة محافظة مارب الواقعة تحت سيطرة قوى العدوان وربطها ببقية المحافظات، هذا الطرح الذي زامن استعادة الجيش واللجان السيطرة على حزم الجوف لم يتعاط الطرف الآخر معه بشكل إيجابي.