أمريكا.. الصورة باتت مختلفة

 

وديع العبسي

الأكيد في هذا العبث الذي تمارسه أمريكا اليوم من خلال سياسة الجنون في التعامل مع القضايا الدولية، إنما يجيء كنتاج طبيعي لإدراكها بأن ثمة تحوّل يشهده النظام العالمي، تحوّل لا يبدو انه في صالحها مع تآكل هيمنتها لصالح عودة التعددية القطبية.. إذ لا تبدو على حالٍ مُرضٍ لها في فرض القول الفصل في كثير من الاعتمالات التي يشهدها العالم كقضية القرم وكما في حرب روسيا ضد جورجيا أو في كلمة موسكو في الحرب في سوريا، بل أن العجز عن الحسم طال السياسة الأمريكية في ملف فنزويلا الذي جعلها في وضع لا تحسد عليه مع ما يمنحه حربها في أفغانستان والعراق ومشاركتها في العدوان على اليمن من انطباع سلبي يؤكد حقيقة أن أمريكا تنتحر.
من هنا فإنها تجد في منهجية البلطجة إمكانية سانحة -افتراضا- لاستعادة القوة المتفردة بالقرار الدولي في مختلف الهموم العالمية في الاقتصاد والمناخ والحرب على الإرهاب والسباق النووي.
في الأثناء جاء الإعلان الإيراني -في وقت سابق- تعليق العمل بالتزامات الاتفاق النووي صفعة جديدة لواشنطن لم تكن تتوقعه أو لم تكن تنتظره في محاولاتها كبح جماح التحركات المؤثرة على حضورها الأحادي في ملفات العالم.
التحدي الإيراني ذاك والمستمر، لاحظنا كيف ايقظ السياسة الأمريكية من وهم العظمة، ما دفعها لتغيير نبرة خطابها وطرح مسألة التفاوض على طاولة المقترحات في كيفية التعامل مع هذا الإعلان، ومن ثم تحول خطاب ترامب إلى الهدوء رغم (حركة) استقدامه للسفن الحربية إلى المنطقة، وسلسلة خطاباته التصعيدية ضد إيران.
الأكيد أيضا في هذا السياق أن تصوّر ايران لقمة سهلة في الذهنية الأمريكية يبدو على نحو من الارتجال في تحليل الوضع وقراءة أبعاد أي تحرك احمق نحو الحرب تقوده أمريكا في المنطقة، وهو الارتجال الذي يصور لها أيضا أن التهام هذه (اللقمة) سيكون كافيا لاستعادة هيمنة الإمبراطورية الأمريكية على مفاصل العالم، ومنطق الاستقراء ينتهي إلى حقيقة أن أمريكا قد أقحمت نفسها في وضع ما عاد بإمكانها أن تعود منه إلا بالهزيمة في كل الأحوال..
قضيتها مع ايران وما صارت إليه العلاقة من التنافر حدا بعيدا، لم تعد عابرة دولية تنتهي بانتهاء الموسم، لكنها كما يبدو الواقعة التي ستعود بأمريكا مسافات لا يسد فراغها ضخ الأموال الخليجية ولا ارتهان القادة العرب لرغباتها، فهي إن جنحت للسلم وعادت إدراجها -وهذا محتمل- قصمت ظهر مستقبل الهيبة الأمريكية، وان قررت إعلان الحرب على ايران وإدخال المنطقة في صراعات فإنها خاسرة لا محالة، خاسرة وفق المقتضيات التي تفرضه معالم النصر أو الهزيمة، إذ أن اللاعبين الأساسيين في معطيات المعادلة الدولية سيكونون الحاضر الأقوى في انتظار احتضار المارد الأمريكي مع ما سيستهلكه من قوته وإمكاناته في هذه الحرب -الافتراضية- فالدب الروسي والتنين الصيني كما تذهب التحليلات سيعملان على إطالة أمد الحرب لهذا الغرض، وهو ما طرحته قبلا طوكيو على واشنطن بتأكيدها ‹إن روسيا والصين  يتمنيان أن تقام مثل هذه الحرب لإضعاف أمريكا و(أصدقائها)، وسوف يسعيان إلى دعم ايران بالشكل الذي يطيل أمد الحرب.
أوروبا أيضا التي ربما تفتقر فقط لقليل من الشجاعة يعينها على رفض التوجهات الأمريكية، لا يبدو أنها ستكون بعيدة عن لعب أي دور يفك عنها قيود الهيمنة ويضمن لها مصالحها وربما تجد نفسها في تحالف مع الصين وروسيا.
مع ذلك يبقى خيار السلم والانسحاب الأكثر عقلانية وهو أهون الخيارين للولايات المتحدة.

قد يعجبك ايضا