تيمور العزاني
لعل وجود الإنسان على الأرض لم يكن سوى رحلة طويلة ابتغى فيها المعرفة التي دفع ثمنها جيدا، فمنذ بدأ الإنسان الأول رحلته مغادرًا السماء ليستقر في الأرض؛ المكان الذي جاع فيه وعري، وفيه سُلِب زينةَ حياته ولدهُ هابيل ، لكنها بالمقابل منحته متعة الألم ولذة الخيبة، وهبته شهوة الكفاح وحكمة الصبر، وقد ورث كثير من سلالة هذا الرحالة العظيم ذاك الشغف باكتشاف خبايا هذا الكوكب، فرحلوا وجابوا بلداناً كثيرة، شَغَفٌ عِشناه في طفولتنا مع سندباد والقبطان سيلفر وفي ثمانين يوماً مع سبع المدهش وحين كبرنا أدركنا أن العالم أكبر من مجرد صندوق صغير يُطلّ علينا منه أبطالنا، قرأنا عن ابن بطوطة وماجلان عن كريستوفر كلومبس الذي اكتشف آخر العالم. ولم نجد مصطفى أمين مُبالغاً عندما قال: “رحلة إلى الخارج تساوي قراءة ألف كتاب”. وحقا هنالك خبرات لا يعلمنا إياها إلا السفر.
وثمة يماني ترحّل أيضاً. قرأ ما خطّه التاريخ ونقشته الحضارة على صفحات المدن، أفشت له بأسرارها وهي في العادة لا تفشي إلا لمن تصطفيه، ولحَظِّه كان أحد المصطفين، ومن بين رحلات كثيرة عثرت عليها كانت “ألحان المدائن” الأكثر شاعرية. صاحبها يدخل إلى المدينة عاشقاً وبمتعة يكتشف خبايا معشوقته. يتفحص كل الأركان ويتلمس أعمق الزوايا ويراقب سكان كوبا، ينقلنا إلى أزقة هافانا مدينة البهجة -كما سماها- ويسير بنا في شوارعها، ناقلاً ثوريتها الراقصة وبساطة أهلها.
منذ أول لقاء له بالمدينة راح يتأمل شرفات المنازل والبنايات المُنهكة وفسيفساء سكان هافانا وسياراتها القديمة التي تجوب الشوارع لِتُحيل العاصمة متحفا للسيارات الكلاسيكية. أصغى لبوح الجدران التي تريد أن تنقض بفعل ثِقَلِ الدهر. أيةُ حكمة ائتمنته عليها وأية أسرار حكتها له تلك الجدران المُسنّة.
مَزجت رحلته بين السرد والشعر، فهو شاعر يتماهى مع المدن ولا يرى كل ما حوله إلا ممزوجاً بالجمال والشاعرية “طفولتي ترعرعت في المدينة، والمُدن تمدّني بانبهار لا ينتهي، وتصنع فيّ ما تصنعه أجمل القصائد” هكذا وصف شغفه بالمدن وعشقه لها. ”لامسَتْ هافانا قلبي منذ زمانٍ واليوم أنا ألامسُ سويداءها. مثل روما وأثينا؛ مثل صنعاء ودمشق؛ مثل العواصم التي يفوحُ منها بخور التاريخ -لهافانا جزء يزيّنه القِدَم ويتخذُ الأزمنةَ الغابرات حليةً”.
شاعرٌ عاشق يُمسك بأعنة الكلمات يملؤها دهشةً ويلقيها فتعمل فينا عمل السحر “(المالْكُون) هو الموضع الذي تَلتفتُ فيه هافانا صوبَ البحر ليرتشفَ البحر من أنفاسها. إنه أروعُ ملامح تلك المدينة. مكان فائض بالتعبير، مكان يُدمِن عليه الغريب دون أن يشعر، كما أدمن عليه الهافانيّون قبله. وفي غمرة هذا الشعر نجد خالداً لا يتناسى السرد، بل يزرعه بسلاسة متناهية “قبالة البحر وعلى سور خفيض يجلس المعجبون بالجمال ويلتقي العشاق ليتهامسوا، وهناك يستأنس السياح بأحد أسحار الكاريبي.
على ذلك السور الخفيض سترى طفلا يُجرِّب المشي وبمحاذاته أمه تسير مُمسكة بيده؛ شابا جلسَ يتأمّل البحر بعد أن أسندَ دراجته على السور؛ صيادين يقفون على حوافّه يمدّون صنّاراتهم. وهناك أيضا مَن يختار أن يحدّث البحر، وكلٌّ يناجي البحر بطريقته، يعزفُ له بعضهم بالجيتار. يغنّي بعضهم له بالجاز، وآخرون يتمتمون بالشفاه كأنها جلسات اعتراف في حضرة كبير الرهبان.”
حميميته مع المدن هي حميميةُ شاعرٍ سرعان ما يبادر بالألفة ، غادر هافانا دامعاً هذا المشهد ذكرني بالمتنبي حين وصف اعتيادهُ :
خُلِقتُ ألوفاً لو رجعتُ إلى الصِبا** لغادرتُ شيبي موجع القلب باكيا
لكن العاشق معذور فوداعُ المعشوقة صعب. إن المدن بالنسبة له ليست مجرد بنايات وشوارع، هي قصص حب خاتمتها الوداع.