دون خرائط أو (جوجل إرث) حدد الرســـول موقعه وجعل جبل (ضين) اتجاه قبلته

الجامع الكبير.. الإعجاز الإلهي الذي شــــــــلّ قدرة عقول العلماء على التفسير

العثور على كنز من المخطوطات، وقبر لنبي لا يزال يجهله الكثير
قبة العوسجة أعمال الصيانة تكشف عن مفاجأة

الجامع الكبير بصنعاء مع شهرته العالمية الكاسحة إلا أنه لا تزال هناك حكايات وشواهد منه غير معلومة للجميع.. هناك وثائق أراد لها البعض أن تظل مجرد خرق بالية قديمة، كما أن هناك أمكنة ارتبطت بتحولات جزيلة في تاريخ اليمنيين يكاد ذكرها يصير في حكم العدم بعد أن نجحت المحاولات في طمس معالمها باستحداثات، أو تمزيق الدالات عليها من بين ثنايا الكتب والوثائق التاريخية، ثم احتكار المعلومات أحيانا من قبل السلطة والتحكم في ما يخرج منها، ويبدو تفسير مثل هذا السلوك غريبا وصعبا فما الضير من خروج المعلومة التاريخية كما هي؟ وما الضير في الإبقاء على الشواهد التاريخية في أمكنتها كما هي؟ وما اضير في الإبقاء على الدالات على عظمة ابن اليمن في تاريخه كما هي؟

الخاصية الاستثنائية التي يتمتع بها الجامع الكبير بصنعاء ليس وحسب لعمقه في التاريخ الإسلامي وإنما للحالة الإعجازية التي قام عليها والتي اتسمت به عملية التحديد الإنشائي والمواصفات في زمن انعدمت فيه أدوات التواصل والكشف الفضائي، وهو الإعجاز الذي قدم للعالم واحدة من أعظم الدلائل والقرائن على ما كان يتلقاه سيد الكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الله سبحانه وتعالى رسائل وتوجيه.
ومثل الأمر إعجازا واضحا، إذ رسم النبي حدود المسجد شرقا وغربا، كما حدد وجهته إلى الكعبة المشرفة وهي البعيد عن المسجد بحوالي ألف كيلو متر قال تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(البقرة: من الآية150).
بين دعامتي (المسمورة والمنقورة) حدد القِبلة في اتجاه جبل (ضين) وهو جبل يقع شمال صنعاء على بعد 36 كيلو متراً تقريبا، ومن الاستفادة من الإمكانيات التي وفرها [جوجل إيرث (Earth Google) أمكن إثبات الدقة المساحية والجغرافية للتوجيهات النبوية، فقد تبين بعد إخراج رسم خط مستقيم منطلقاً من القبلة الجامع بين (المسمورة والمنقورة) في اتجاه الكعبة تجده بالفعل يمر على قمة جبل (ضين) وصولا للكعبة.
شيء عجيب، حار فيه العلماء وعجز عن تفسيره أي علم إلا بكونه الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإلا بكونه فعلاً نبوياً حقا، فتحديد جهة الكعبة وتحديد موضع الجامع ثم توجيه القبلة شمالا في اتجاه جبل (ضين)، وزاوية ميلها بهذه البراعة مسألة تتطلب أجهزة علمية دقيقة كالتي في عصرنا الحاضر مع استخدام الأقمار الصناعية والطائرات والخرائط، فكيف والأمر قد جرى في زمن بدائي افتقر لكل هذه الإمكانيات، السفر فيه باستخدام الحيوانات كان يستغرق شهورا.. لكنه وحي الله سبحانه وتعالى.. قال تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم:3 – 5).
المسمورة والمنقورة حاليا هما ساريتان (عمودان) من سواري الجامع الكبير، ويُعتقد أن لهما حرمة كبيرة، لذا يذهبون لطلب اليمين والحلف أمامها في حالة النزاع الشديد بطلب اليمين من الغريم كحل نهائي.
بني الجامع على أنقاض قصر (غمدان) الذي يعود بناؤه إلى ما قبل الإسلام.. يرى الدكتور علي سيف أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية أنه تم تخطيط الجامع الكبير على غرار المسجد النبوي، بحيث يشتمل صوح “فناء” تحيط به أربع ظلات أكبرها وأعمقها ظلة القبلة.
تعاقبت على الجامع سلسلة من الإصلاحات والتوسيعات والإضافات منها ما شيده الوالي الأموي على اليمن أيوب بن يحيى الثقفي عام 86 هجرية الموافق 705 ميلادية بأمر من الوليد بن عبدالملك، وأخرى قام بها علي الحارثي عام 134 هجرية الموافق 751 ميلادية، بالإضافة إلى التوسعة التي قام بها الأمير اليعفري محمد بن يعفر الحوالي بين عامي 266 هجرية الموافق 880 ميلادية 270 هجرية الموافق 883 ميلادية، وكذا الجناح الشرقي الذي بنته سيدة بنت أحمد الصليحي أبان حكمها اليمن في فترة الدولة الصليحية، وتوالت التوسعات حتى صار على الشكل الذي هو عليه اليوم.
الجامع الذي بني كدار للعبادة ثم صار أيضا مركزاً ومصدر إشعاع للعلوم الدينية وحفظ القرآن الكريم، يعتبر ثالث مسجد أقيم في الإسلام، بعد مسجد قباء والمسجد النبوي في المدينة المنورة.

ثراء تاريخي
في الجامع الكبير هناك المكتبة التي اشتهر بها، لما تحويه من المصاحف والكتب والمخطوطات الدينية.
في العقود الأخيرة جرى اكتشاف إن الجامع يحتوي الآلاف من المخطوطات فضلا عن أمهات الكتب في الحديث والفقه والدين، والمخطوطات القديمة والكتب النفيسة التي تمثل كنوزا أثرية لا تقدر بثمن.
ولا تزال أعمال الصيانة التي تجري في الجامع كل حين تقود إلى المزيد من المخطوطات والرقائق القرآنية ولا يزال ذلك يؤكد أن اليمن والجامع الكبير بصنعاء متحفا مفتوحا لم يصل خبراء الآثار إلى غايتهم فيه.
قدر الدكتور غسان حمدون – مؤلف كتاب المخطوطات القرآنية في صنعاء من القرن الأول الهجري وحفظ القرآن الكريم – المخطوطات القرآنية الموجودة في دار المخطوطات المقابل للجامع الكبير بصنعاء، بأكثر من 12 ألف رق قرآني، ترجع معظمها إلى القرن الأول والثاني والثالث الهجري. أنتج مشروع رائد تابع لبرنامج ذاكرة العالم لليونسكو في اليمن قرص مدمج بعنوان “مخطوطات صنعاء”, وهو يعرّف بالخط العربي من خلال مخطوطات يمنية، من بينها أجزاء من مخطوطات قرآنية من الجامع الكبير في صنعاء.)
جاء في كتاب تاريخ المساجد الشهيرة لمؤلفه عبدالله سالم نجيب: مسجد صنعاء الجامع هو من أقدم المساجد في الإسلام فقد بني في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأمره.
كما أن نسخة مكتوبة من القرآن الكريم وجدت في مسجد صنعاء الكبير في اليمن عام 1972م هي أول نسخة مخطوطة من القرآن الكريم كُتبت بخط الإمام علي عليه السلام تعود في تاريخها إلى القرن السابع أو الثامن الميلادي، وجدت هذه المخطوطات القرآنية، بالإضافة إلى مخطوطات أخرى غير قرانية، بمحض الصدفة عندما كان مجموعة من العمال يرممون حائطا فيه.

حنظلة بن صفوان
رفيقي العزيزان في الجولة داخل الجامع كان الوالد عبدالله الاهنومي، والأخ نبيل جحاف، وهما من رواد الجامع المداومين، يقرأون القرآن ويحضرون حلقات ذكر وينشطان مع الفعاليات المختلفة في الجامع.. مع الجولة التعريفية كانا يقدمان شروحا عن كثير من ما اشتمل عليه الجامع.
حدثاني عن ضريح معروف بمقام (النبي حنظلة بن صفوان) عليه السلام غرب الجامع الكبير تحت المنارة الغربية وهو من الأنبياء.. يقول جحاف عن ما علمه بشأنه “من المعلومات المتواترة لدى أهل صنعاء بعضها موثق وبعضها غير موثق ولكن تناقلوها جيلا بعد جيل إن في هذا المقام حنظلة بن صفوان بن النبي هود، بعثه الله لأصحاب مارب القريبة من حضرموت، لكنه لم يلق منهم ترحيباً لدرجة أنه هرب منهم واستقر في هذا المكان حيث قبره هذا وقيل إنه جلس في هذا المكان 40 شهرا وحينها لم ينقطع عنه جبريل بالوحي، تذكر المصادر التاريخية أنه وجد مذبوحاً ودفن في هذا المكان، وتذكر المصادر أن تابوته مصنوع من الذهب والنحاس وريحة المسك لا تنقطع من قبره كما يذكر الأجداد الذين أدركوا القبر مفتوحا ماقبل وما بعد ثورة 26 سبتمبر بقليل ثم اغلقت الفتحة المؤدية إلى المقام”.
وقد ورد ذكر النبي حنظلة بن صفوان في كتاب (قصص الأنبياء) لابن كثير، كما ذكر الرازي في كتابه- تاريخ مدينة صنعاء- إن قبر النبي حنظلة في الجامع الكبير بصنعاء.

مفاجأة العوسجة
عند ضريح لبعض الأئمة وتسمى (قبة العوسجة) حدثاني عن أربعة أئمة أوضحا لي في تعريفهم بأنهم:
غرب الجامع الكبير فيها عدد من الأضرحة منهم الإمام المهدي لدين الله محمد بن الإمام المطهر بن يحيى المظلل بالغمام، كان يروي الألف الأحاديث بالسند إلى النبي ص، يقال (وله من الأساند في العلوم شتى) في علم الفقه وعلم العقائد إلى آخره يسند الأمر إلى النبي رغم وفاته عام 728هـ، ثم ضريح ولده الإمام الواثق بالله المطهر بن محمد بن المطهر يحيى المتوفي سنة 802 هـ عن عمر 99 سنة، لم يحكم بعده مباشرة وكان بنفس الطريقة يروي الأحاديث بالسند إلى النبي في علوم شتى وليس في علوم الدين فقط.
كان من المفترض أن يحكم بعد والده كما جرت العادة لكنه انتهج المبدأ الديمقراطي وقد وفد عليه شخص رأى أنه أفضل منه فقابل ذلك بلا أي تشنج أو عصبية وهو الإمام يحيى بن حمزة المقبور في ذمار، وحكم 40 سنة، ثم بايعه العلماء، أثناء حكمه ظهر الإمام علي بن محمد بن مطهر وكان عبقرياً، وإذا بالإمام الواثق بالله يعلن في خطبة تسليمه الحكم للإمام علي بن محمد، منهم أيضا العلامة يحيى بن الحسين بن يحيى بن علي بن الحسين متوفي سنة 729 هـ هذا كان عالماً كبيراً في عصرهم وهو مؤلف كتاب “الياقوتة”، والعلامة محمد بن الأمير المعتصم إدريس بن الإمام الناصر علي بن عبدالله بن الحسن بن حمزة، مؤلف كتاب “الصادي على مذهب الهادي”.
كان الضريح لحظتها يخضع لأعمال ترميم وكان من الصعوبة دخوله لعدم ملائمته لاستقبال زوار.
بالقرب من الجامع الكبير هناك (دار المخطوطات) وعلمت من أمين عام الدار خالد علي الروحاني أن أعمال الترميم للضريح قادت إلى كنز من المخطوطات، “حوالي 14 الفاً من المخطوطات أغلبها في القرآن الكريم وتم تسليمها إلى دار المخطوطات بالتعاون مع وزارة الأوقاف لعملية صيانتها ثم بعد ذلك ستخضع للترميم لما لها من قيمة تاريخية سواء بخطوط العلماء سواء في القرآن أو العلوم”، الاكتشافات في الجامع الكبير حسب الروحاني لا تزال مستمرة خصوصا للمخطوطات القرآنية.
الأمر المفاجئ الذي كشفه الأخ خالد الروحاني اكتشاف أربعة قبور من قبور الأولياء داخل هذا الضريح أو القبة.

إنقاذ التاريخ
هناك أيضا في الجامع الكبير وقفنا مع محمد ذريرة ضابط أمن الجامع، أكد لنا ذريرة بأن مصحف- الإمام علي- موجود في الجامع “في مكان سري لا يمكن الوصول إليه” حسب تعبيره.. وحدثنا الضابط الذريرة كثيرا حول الجامع، ومكتبته التي قال: إنها مكتبتان الأولى
المكتبة الشرقية أنشأها الإمام يحيى وسماها (المغفرة) أو (الخزانة) حفظ فيها مخطوطاته ومخطوطات الأئمة الذين من قبله وكانت ثرية بالمخطوطات في مختلف العلوم، والثانية المكتبة الغربية وأنشأها الإمام احمد وحفظ فيها الكثير من الكتب والمخطوطات والمقتنيات الأثرية.
لفت ذريرة إلى أن الجامع الذي يأخذ الشكل المربع بأربعة أجنحة متساوون في الطول وليس في المساحة، ومساحة المقدمة أكثر، يخضع للترميم حاليا والذي وصفه بأنه هام جدا، إذ أن الجامع بدعائمه وسقوفه كان قد بدأ بالتهالك مع الأمطار والرطوبة، وان الترميم القائم حاليا هو عملية إنقاذ سريعة كان لابد منها.. وقال الذريرة “الترميم قسمان قسم الغرض منه إعادة المصندقات السقفية، والقسم الثاني بحث أثري لإثبات هوية المسجد وأدلة عن تاريخ الجامع وما مربه.

بعض الوصف
يحيط بصحن الجامع أربعة أروقة، الرواق القبلي (61×18.50متر عمقاً) والرواق الجنوبي (60.40×15.10 متر) والرواق الغربي (39.75×11 متراً) ويوجد ضريح في الناحية الجنوبية من الرواق الغربي يطلق عليه ضريح “حنظلة بن صفون”، وتبلغ عدد الأعمدة في الجامع (183عموداً) منها (60عموداً) قبلية، (30 عموداً) غربية، (54عموداً) في المؤخرة، (39عموداً) شرقية، ويعود تاريخ هذه الأعمدة إلى (القرن الرابع حتى القرن السادس الميلادي)، أما السقوف المصندقة ذات الزخارف الفنية المنفذة بطريقة الحفر الغائر, ويحدد تاريخ السقف المصدق للرواق الشرقي (بالقرن 3هـ/9م) استناداً إلى طرازه.
للجامع مئذنتان، في الناحية الجنوبية واحدة، والثانية في الناحية الغربية منه، فالمئذنة الشرقية أعيد تجديدها في أوائل (القرن 13هـ/19م)، وتتكون هذه المئذنة من قاعدة حجرية مربعة الشكل بها مدخلان أحدهما في الناحية الشمالية والأخرى في الناحية الشرقية يقوم عليها بدن مستدير تعلوه شرفه مزدانة بصفوف من المقرنصات ويعلو الشرفة بدن آخر سداسي الشكل فتح بكل ضلع نافذة معقودة، ويتوج هذا البدن بقبة صغيرة وقد وصفها “الرازي” بأنه لم يعمل مثلها إلا في دمشق أو في منارة الإسكندرية، أما المئذنة الغربية وفي تشبه المئذنة الشرقية إلى حد كبير مبنية على قاعدة مربعة (4.25 متر) يبلغ ارتفاع هذه القاعدة (5مترات)، ويوجد غرب المنارة الغربية مكتبة مملوءة بذخائر التراث العلمي والثقافي واليمني في كافة المجالات, وفيها المخطوطات النادرة, ومنها نسخ من القرآن الكريم الذي نسخ في عهد الخليفة “عثمان بن عفان ” رضي الله عنه، كما يوجد قبران في فناء الجامع تحت المنارة الشرقية.
وبدأ بناء الجامع في بستان بآذان بين قلعة غمدان والصخرة الململمة الموجودة الآن في الصرح الغربي في أصل أساس الجدار من الجامع، وبني الجامع الكبير بداية بمدخل واحد بالطراز المعماري اليمني على مساحة مربعة تزيد عن120مترا مربعا، ويعتبر محرابه من المحاريب الأولى التي بنيت في صدر الإسلام وله مئذنتان دائريتان مخروطتان من الأعلى وملونتان بالجبس الأبيض.

 

 

 

قد يعجبك ايضا