سمّوها مليكة الزمان وأقدم مدن الله

(صنعاء القديمة) حيث التفاصيل تحكي قصة الأصالة

كما كانت يمكن أن تكون انطلاقة اليمنيين لتأصيل الهوية
تماسك وثبات وفي التقاليد تبرز ألفة الأسرة الواحدة
اليونسكو لتحالف العدوان: احترموا أقدم جواهر الحضارة الإسلامية

صنفتها اليونسكو ضمن أهم 25 معلما سياحيا في العالم بعد اجتماع عقدته في بلغراد سنة 1980م لإطلاق حملة دولية للحفاظ عليها وعلى طابعها المعماري،.. وتفاصيل التاريخ تؤكد أنّها اصطفاء الله من بين المدن لتكون الحاملة والحامية لدين الله.
“صنعاء القديمة”.. في ثناياها عمق تاريخي تتعاضد اجزاؤه لتكوّن حقيقة أنّها قد حظيت بمقومات حمل الأمانة ونشر الرسالة، والحفاظ على مظاهر الهوية الإيمانية للإسلام والمسلمين.

تدخل من بوابتها “باب اليمن” الباقي منذ عهد الدولة اليعفرية لتحط عينك على كثير من السرد، التكوين في هيئته الأولى، الناس ببساطتهم، العادات والتقاليد بأصالتها، والفن المعماري الفريد الذي حاز شهرة واسعة على مساحة العالم، وكل ذلك جعل من المدينة وتاريخها قبلة للسائحين،
في هذا المكان لا تزال ملامح الهوية الإيمانية تقاوم ملوثات الحداثة، في قوام تعامل بين الناس، في التمسك بالقيم الربانية التي ظل عليها سلوك اليمنيين منذ ما قبل الإسلام.
وصفها الرحالة والكاتب اللبناني الشهير أمين الريحاني صنعاء في كتابه “ملوك العرب” وقد زارها سنة 1922م بأنها “مليكة الزمان وسيدة الإنس والجان”.. وقال: أي صنعاء مثّلك لنا التاريخ فكنت- مليكة الزمان ومثّلك لنا العلم فكنت- يوماً ربة العرفان ومثّلتك لنا الأساطير فكنت سيدة الإنس والجان، وهذه بيوتك العالية وقصورك الشاهقة فما كذب التاريخ وهذا جمالك الطبيعي وبهاؤك العربي فما كذب الشعر وفي خزائنك الكتب النفيسة والمخطوطات فما كذب العلم.
فقد تغلغلنا في سراديبك ووقفنا عند كنوزك وطفنا حول قصورك وسمعنا الشعراء ينشدون في دورك واليوم مطيتنا غير الخيال.
كانت الساعة السابعة صباحا حين بدأت زيارتي للمدينة، لحظتها كانت الحركة قد بدأت ولكن على نحو متكاسل وكثير من المحلات (الدكاكين) لا تزال مغلقة بأبوابها التقليدية، وهناك رجل في منتصف العمر رأيته يسير حاملا بيديه (دبتين) ماء كوثر سعة 20 لتراً لكل منهما وإلى جواره طفلته الصغيرة ذات الثلاث سنوات لتقف عند (جرّة) ماء، ينزع الرجل غطاء الجرة ثم يصبّ ماء (الدبتين) في جوفها، كنت لحظتها أقف متابعا له وطفلته تحمل عنه غطاء(الجرّة) وأغطية (الدبتين)، طبعا عرفت لحظتها أن هذا ما يُعرف بـ(السبيل).. جرار ماء مختلفة الأشكال والأحجام تتوزع داخل المدينة القديمة للضامئين من عابري السبيل، تسمى أيضا بـ (الكوز)، و(الجرة)، و(الدوح)، و(الزير)، و(المدل)، و(القلّة) حسب أحجامها، مصنوعة من الفخار أو الطين المحروق، ويستعمل عادة لحفظ ماء الشرب.. وقد انتشرت هذه (السبل) منذ زمن بعيد حتى صار هناك العشرات منها وتحمل أحيانا اسم المكان الذي تلتصق به أو من أوقفها للناس نذكر منها سبيل مسجد التقوى.
سبيل الحرقان، سبيل بن الحسين، سبيل الزمر، سبيل العّلمي، سبيل طلحة، سبيل حارة الطبري، سبيل مسجد الطاووس، سبيل المتوكل على الله، سبيل محمد علي الخضري، سبيل سوق البقر، سبيل قبة المهدي، سبيل الخطري، سبيل النظارة، سبيل سوق القرشي، سبيل سوق الختم، سبيل دغيبس، سبيل سوق الحلقة، سبيل عمروا، سبيل بيت المطري وأخرى كثيرة.
اقتربت من الرجل واسمه عبدالكريم الحاج ليبادرني “تشتي تشرب” “لا شكرا، منذ متى تقومون بهذا” “من زمن طويل وهي عادة متوارثة لإغاثة العطشى.
صورة بسيطة رائعة تعكس واحدة من مظاهر التراحم وحب الخير، الجميع هنا يتسابقون لهذا الفعل لذلك فإنهم يضطرون أحيانا لعمل جدول بينهم حسب عبدالكريم الحاج..

حتى الحيوانات الضالة
في إحدى جولاتي في صنعاء القديمة رافقني الباحث عدنان البليلي وهو من سكان المدينة عَمِلَ كمرشدٍ سياحي وأدار منشآت سياحية خلال الفترة الماضية، عند سُبُل الماء حدثني البليلي ” أنه كان الغرض من هذه السبل هو إرواء عطش عابري السبيل خصوصا الذين كانوا يقصدون صنعاء من خارجها وهذا أمر موجود في الدول الإسلامية” إلا أنها حسب الباحث تميزت في صنعاء القديمة إذ جرى وقف “سبيل للحيوانات الضالة كالكلاب والقطط، وسبيل آخر للدواب (أغنام، أبقار الخ)، ولما كان يؤتى بالذين ينزعون الماء من البئر إلى الأحواض الخاصة بالطهور عبر سلسلة كبيرة من الحبال الجلدية والحبال الجلدية لا يتسنى لأي شخص أن ينزع بها الماء إلا إذا ما كانت مبلولة فكان يوضع سبيل آخر لصبّه على هذه الحبال لتليينها ومن ثم ينزع بها الماء ومن هنا يمكن القول إن هناك أربعة أنواع لسُبل الماء”.

أمكنة
يفيدنا الباحث عدنان البليلي بأن مدينة صنعاء القديمة تعتبر اكبر مدينة تاريخية في العالم، مساحتها 1,8 كم2 0156,3 هكتار.. اختطها الملك الحميري (شعرم اوترحيت) قبل 7000 سنة.. وفي المدينة عدد المنازل 8000 منزل، عدد السكان، 90000 نسمة تقريبا، عدد الأسواق 30 سوقاً، وهناك حوالي2000 محل دكان، عدد السمسر 37 سمسرة، عدد المساجد 48 مسجدا، عدد المقاشم 50 مقشامة، عدد السُبل 12 سبيلاً، عدد المعاصر 7 معاصر، عدد الحمامات البخارية 16 حماما.
وهناك في صنعاء القديمة كل الأمكنة تحوي جزءاً من تاريخ عهد مضى تكونت به وفيه الأصالة وكانت دالة على أسس التكوين للأرض والإنسان.
البعض لا يزال قائما متمثلاً في أضرحة وقباب، وفي اسواق المدينة ومخططها الذي اهتم بقرب البيوت من بعضها، كما أن هناك أمكنة اندثرت وبقي ذكراها بين الأجيال.. يذكر الباحث البليلي أنه كان هنا في سوق المحدادة ساحة كبيرة تُسمى (الجبانة) وهي مساحة أرض واسعة كان الناس يتجمع فيها في المناسبات الدينية للصلاة.. يقول الباحث “كانت هذه المنطقة تخلوا من المباني وكانت الجباة تتبع جامع باب المصراع المندثر حاليا والذي صار يسمى بالجامع المنسي.. انتقلت الجبانة الى المشهد خلف صنعاء حيث جامع المشهد حاليا”.

حالة فريدة
ماهي إلا لحظات حتى بدأ النشاط يدبّ في كامل المدينة، يشرعون بفتح محلاتهم وهم يلقون التحايا على بعضهم مع التذاكُر أحيانا بأمور بينهم.
“وووو عم أحمد” هكذا نادى أحدهم وهو يفتح (حانوته) ليرد عليه صوت من (حانوت) آخر “حيا حيا بالغالي صبّحكم الله بالخير” قالها العم احمد “اين وصلتوا؟” قالها حسين وهذا هو اسمه فرد عليه “قد احنا عند مليون و780 ألفاً” تابعت حديثهم ثم اقتربت منهم، عرفتهم بنفسي، وتجاذبنا الحديث علمت بعدها أن ذاك المبلغ جُمع من قبل بعض التجار لنجدة احد سكان المدينة يعاني من مرض عضال، ولا يزال هناك من سيتم المرور عليهم للمساهمة’.. قال لي كلاهما “هذه مسألة اعتيادية فنحن أخوة هنا، ونجدة الأخ تكسبك رضى الله ورسوله وتنجيك من كثير من المهالك”.. ألفة عجيبة تشعر بها هناك وكأنك في حضرة أسرة واحدة الجميع يعرفون بعض.
يقول الكاتب الصحفي أحمد الشاوش “امتاز سكانها بالمحافظة على القيم الدينية التي غرست فيهم الصدق والأمانة والمودة والتراحم والوفاء، وكان غالبيتهم يعمل في التجارة، والحرف اليدوية فجعلت تلك القيم منهم أسرة واحدة كالجسد الواحد”
ويتابع الشاوش “الجار هنا ليس مجرد جار وإنما جزء من الأسرة فالبيوت متلاصقة والأحواش متداخلة والنوافذ متقابلة، وإذا دخل الغريب أحد الأحياء سأله أي شخص ماذا يريد، ومن يريد وكان الجيران يعتبرون الآخر جزءاً منهم وهذه الخصال نتاج إيمان عميق أدى إلى ذلك التماسك الاجتماعي العظيم، وفي عاداتهم الاهتمام باليتيم اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائل: “أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة.. الخ. ويسعون إلى مساعدة الفقير”.
في الفرح يشارك الجميع في أهازيج الاحتفال ويحيون يوم العريس بالعادات المتوارثة، “وفي حالة وفاة أحدهم يهب الجميع للمساعدة فمنهم من يأتي بالكفن وآخر بالمغتسل والمغسل، وثالث بالخبز ورابع بالطعام متأسّين بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصنعوا لآل جعفر الطعام.. فينسى أهل الميت الحزن، وتدخل الطمأنينة إلى قلوبهم.”

قصف
مساء 11 مايو 2015م تعرضت المدينة لقصف كثيف من قبل طيران العدوان، حينها منظمة اليونسكو بشدة استهداف المدينة، ودعت المديرة العامة للمنظمة إيرينا بوكوفا في بيان إلى “احترام وحماية التراث الثقافي في اليمن”، كما عبرت عن “حزنها العميق لخسارة الأرواح والتدمير الذي لحق بأقدم جواهر الحضارة الإسلامية”.

قد يعجبك ايضا