تم تهجير السكان من منازلهم وتحولت قراهم إلى ثكنات عسكرية ومركز دعم لوجستي لمعسكرات المرتزقة في نهم

وادي ملح .. ثغرة الانتكاسة في 2016م وبوابة النصر في 2020م

 

كان وادي ملح بمثابة الثغرة التي تسلل منها الغزاة إلى فرضة نهم مطلع العام 2017م، وتمكنوا بعدها من التوغل في عدد من المناطق والقرى غرب الفرضة، حتى اقتربوا من نقيل بن غيلان الذي يبعد عن العاصمة صنعاء بنحو 30 كيلومترا.
ومثلما كان وادي ملح بوابة النكسة في 2017م، كان الوادي نفسه بوابة الانتصار في 2020م.
استطلاع / عباس السيد

من أمام بوابة معسكر فرضة نهم، سلكنا طريقا ترابيا إلى وادي ملح الذي يبعد نحو سبعة كيلومترات جنوب الفرضة، وكلما اقتربنا من القرى، كان الطريق يزداد ضيقا ووعورة، واضطر مرافقونا إلى الترجل من السيارة، وإكمال الرحلة سيرا على الأقدام، فيما كان بعضنا يستغرب ويتساءل: كيف لآل أبو لحوم لم يبادروا لتعبيد هذا الطريق الذي يؤدي إلى فللهم المسورة ودورهم ذات الطوابق المتعددة في قرية ملح؟!
يبدو وادي ملح أكثر المناطق المكسوة بالاخضرار في نهم، ينقسم الوادي إلى ضفتين شرقية وغربية بينهما سائلة تنحدر نحو مديرية مجزر.
على الضفة الشرقية للوادي تقع قرية ملح التي اخذ الوادي اسمها، وعدد من القرى الصغيرة التابعة لها، وهي: المثابرة، الحمدة، لشط، الشرية، الفوارع.
وعلى الضفة الغربية للوادي تقع قرية النعيمات التي أبلت حسنا خلال سنوات العدوان الخمس، وعدد من القرى أو المحلات التابعة لها وهي: النخلة، العروات، الجبيل، العرجان، الكريف والتي تعرضت لأبشع جريمة ارتكبها طيران العدوان في فبراير 2017م عندما استهدف منزلين واستشهد 13 طفلا، وتعد الكريف اصغر التجمعات السكانية في النعيمات، ووفقا لتعداد 2004م، تتألف الكريف من اربعة مساكن واربع اسر عددها 35 نسمة.
ويقدر اجمالي عدد سكان قرى الوادي بنحو ألفي نسمة.
ما يفصل شرق الوادي عن غربه، أو ما يفصل قرى النعيمات عن قرى ملح، ليست السائلة فقط، السائلة مجرد فاصل بيئي طبيعي، بل هناك فواصل وتباينات أخرى في السياسات والولاءات والثقافات، صنعت خلال عقود من قبل سلطات الفساد والاستعباد.

اشجار الدوم والقات
أشجار الدوم هي المنافس الوحيد لأشجار القات في الوادي، كثير من أشجار القات في النعيمات اصبحت جافة وجاهزة للاحتطاب، بسبب تهجير السكان وغيابهم عن منازلهم ومزارعهم منذ أربع سنوات، كانت المزارع مشاعا لجحافل المرتزقة، الذين باتوا الرعاة والرعية، يسقون ويقطفون ويتلفون.
كثافة أشجار الدوم وكثافة ثمارها البرتقالية الصغيرة ملفتة ومغرية، خصوصا الثمار الناضجة التي يميل لونها إلى الأحمر.
كهلان، شيخ خال من النخيط، شيخ بأخلاقه ووطنيته وتواضعه ، كان أحد رفاقنا خلال الزيارة .. لم يستطع كهلان مقاومة إغراء ثمار الدوم، وفي كل مرة نتوقف، يترجل ويهز بجذع شجرة دوم.. فتتساقط ثمارها الصفراء، لكنه يجحفها مع الثمار التي تساقطت قبل أيام واسابيع ، حسب شهادة رفيقنا الآخر الشيخ شايف والذي يعود اليه الفضل في إثراء معلوماتنا حول نهم و وحول حقيقة دوم الشيخ كهلان أيضا الذي اكلناه وتخطفناه كالزبيب في عقد القران.
خلال تجوالنا في النعيمات لم نسمع سوى صوت محرك سيارتنا، وإطاراتها التي تصعد من حفرة لتدخل في أخرى.. لم أكن أتوقع أن الاستاذ عبدالرحمن رئيس التحرير يتقن القيادة بذلك المستوى، وخصوصا بعد الحادث المروري الذي حدث لنا في حي الجراف في الساعات الاولى للصباح ونحن متوجهون صوب نهم.
لا صوت ولا حركة، ابواب الكثير من المنازل مفتوحة وبدون نوافذ، من الواضح أنها تعرضت للنهب والتخريب خلال السنوات الأربع الماضية.
اختار المرتزقة عددا من البيوت وحولوها إلى ثكنات عسكرية ومخازن للسلاح والذخائر والمواد الغذائية، ويمكن معرفة تلك البيوت او الثكنات دون أن تدخلها، فحول تلك البيوت أكوام من قنينات المياه المعدنية الفارغة، تبدو من بعيد وكأنها تلال من الجليد.
كان على الزميل المصوِّر فؤاد الحرازي أن يترجل من السيارة ويصعد عشرات الأمتار لتصوير أحد المنازل الذي يختفي معظمه خلف تلة أعلى الطريق الترابي الوعر، قام بالمهمة، وعاد مهرولا من أعلى الربوة وفي يده كيس بلاستيكي بداخله قنينتان من المياه المعدنية، فصاح به رئيس التحرير بأن يرمي الذي بيده : رجعهن، ارميهن خليهن.. حاول الحرازي اقناع رئيس التحرير، يا استاذ به خيرات، سليمات، كراتين، به مخزن… بينما كان صوت الرئيس يعلو: رجعهن ادربهن….افتجع الحرازي .. فلتهن وخطى وهو يعصر رقبته نحوهن متخايله عيقرحين.
وفي السيارة استعرض الحرازي ما التقطته عدسته من خراب واتلاف ونهب لمحتويات المنزل، وكراتين المياه المعدنية المخزنة أيضا.
الساعة تتجاوز الثانية بعد الظهر، واصلنا طريقنا باتجاه الفرضة ، استوقفنا « طقم المدد» وبعد السلام والتعارف قدم لنا طعاما من حصص المجاهدين، و في منطقة ديرة استوقفنا مجاهدون آخرون من الجيش واللجان، افترشنا الأرض واحتلقنا حول طعامنا، وأضاف لنا المجاهدون أصنافاً متعددة من الأغذية المعلبة، وعرضوا علينا حتى قاتهم..
في الجوار، وعلى بعد امتار، كانت اكوام من علب المواد الغذائية مكدسة تحت شجرة إثل ضخمة في مشهد ملفت للنظر !! كيف تجمعت هذه الكمية في العراء ومن استهلكها؟! اقتربنا منها فوجدناها علباً ممتلئة وليست فارغة، بقوليات، تونا، حلويات ، ألبان، تمور، عسل،….ومواد اخرى. والى جوارها ثلاجتين صغيرتين.. وقد تبين لنا لاحقا أن تلك المواد كانت مؤنة لمجموعة من المرتزقة اتخذت من المكان موقعا عسكريا قبل أن تلوذ بالفرار.
ومن على التراب الناعم، التقطت مغلفا أنيقا يحوي أربعة أكواب من العسل الذي نشاهده معروضا في الأرفف العالية للمولات التجارية، وضعته على الثلاجة، نفضت التراب من عليه، لكن الإهانة كانت واضحة.. سقوط مدو، من الأرفف العالية إلى التراب على اشواك الإثل.
عرضت على زميلي فؤاد أن نقدمه ضمن مائدة الغداء، حك صلعته وابتلع ريقه، لكنه رفض الفكرة نهائيا..
انا من أجلك يافؤاد، أما انا ممنوع من الحالي وشطفح بلحسة.
يذكرني فؤاد: قد شفت كيف صاح على حبتين صحة، كيف بايسوي على العسل. وأضاف: شاحلي بتيه، وضرب على علبة الطاحونية تحت إبطه التي صرفت له من المجاهدين.
بعد الغداء، استأنفت وصديقي فؤاد الطواف والنبش في مخلفات المرتزقة.. مجلة على غلافها صورة عبدربه وعبارة « قادمون يا صنعاء « بالبنط العريض.. أوراق طبية، روشتات وفحوصات وأشعة مقطعية لجمجمة مرتزق، ظرف بداخله صورة ضابط وفي الخلفية أسد أثارت موجة من الضحك والتندر حول مصير الضابط الفار، أسد من ورق.. نستأنف الطواف، خوذة مغروسة على التراب، ندفعها بأقدامنا ولا رأس تحتها.. ينحني فؤاد ويلتقط طلقة رشاش رشيقة طولها بين 15 إلى 20 سم، يمسحها بحنان ويدسها في جيبه، الثانية لك، هكذا وعدني، لكنه لم يجدها، وعاد الي بقطعة اسفنجية صغيرة ، « هذه لك، تنفع حماية سفال الشنطة تقاوم الصدمات..
شكرا يا فؤاد، وتذكرت المثل « هدية الغراب لمه، دودي «.

جرائم ومجازر
الجرائم التي ارتكبها المرتزقة بحق أبناء نهم لا يمكن حصرها، ولا تخلو قرية من قرى نهم من تلك الجرائم والإنتهاكات ، وقد كان لأبناء قرية النعيمات نصيب كبير من تلك الجرائم طيلة الخمس السنوات، سواء عبر استهداف المنازل بالقصف الجوي أو بالاختطافات والتهجير والنهب والقتل على الهوية الذي مارسته ميليشيات المرتزقة بعد استباحة القرية أواخر 2016م، ومن تلك الجرائم اختطاف الشيخ مبخوت النعيمي، شقيق عضو المجلس السياسي الأعلى الاستاذ محمد صالح النعيمي، من منزله في محجر النعيمات، واقتياده الى مارب، وبعد اربعة اشهر من الاختطاف، أعلنت سلطة الميليشيا في مارب عن وفاة الشيخ النعيمي في السجن، وقد كانت الوفاة تحت التعذيب دون شك.
كان لهذه الجريمة أثرها البالغ لدى قبائل نهم التي تداعت الى اجتماع حاشد، وخلال الاجتماع، خاطب الاستاذ محمد النعيمي قبائل نهم، قائلاً ” رسالتي إلى أحرار قبيلة نهم، الشهيد منكم وفيكم، حددوا ما ترون أن يستحقه أولئك المجرمون من قرار وموقف يليق بكم وبتاريخ نهم وعاداتها ومبادئها وقيمها في ما أجرموا به من تحديد إحداثيات لطيران العدوان في قتل العشرات من الأطفال والنساء والرجال وفيما ارتكبوه من نهب وسلب في الممتلكات الخاصة في وادي ملح وبران ووادي حريب نهم وغيرها”
وقال : « ان جريمة الإعدام انتهاك لكل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية والإنسانية وما قتلك في زنزانتك إلا رسالة ثقافية يعتنقها مجرمو الحرب والإرهاب الذين أمعنوا في قتل اليمنيين إرهابا وتفخيخًا”.
وأضاف : ” الاقتصاص من مجرمي الإثم والبغي والعدوان والإرهاب يترك لكل أبناء قبيلة نهم الأبية وأحرارها”.

مجزرة اطفال النعيمات
تعرضت الكثير من المنازل في النعيمات للاستهداف المباشر من طيران العدوان، وكانت الجريمة الأبشع حين استهدف الطيران منزلين في محلة الكريف واستشهد في العملية 13 طفلا وامرأة.

تهجير ونهب
بعد اجتياح المرتزقة لقرى وادي ملح بشكل عام والنعيمات بشكل خاص تحت غطاء جوي كثيف، تحولت قرى الوادي إلى منطقة عسكرية مغلقة على مليشيات المرتزقة، بعد أن تم التنكيل بالسكان الذين توزعوا بين شريد ومهجر ومعتقل، وتحولت معظم المنازل إلى ثكنات عسكرية، ومركز دعم لوجيستي لإمداد جحافل المرتزقة في الفرضة والمواقع الأخرى شمال وغرب وادي ملح بالسلاح والغذاء.

تضليل وكذب
في يوليو 2018م، نشرت وكالة الانباء السعودية خبر توزيع ما يسمى « مركز الملك سلمان « 1000 سلة غذائية على قرى وادي ملح بمديرية نهم في محافظة صنعاء، يستفيد منها 6000 فرد.
المثير في الخبر، أن قرى الوادى التي يبلغ عدد سكانها نحو ألفي نسمة،كانت في ذلك التوقيت خالية من سكانها، باستثناء العشرات في قرية ملح والمحلات التابعة لها في الضفة الشرقية للوادي.
والستة آلاف الذين استفادوا من سلال سلمان لم يكونوا سوى جحافل المرتزقة الذين استوطنوا القرى وحولوها إلى مركز دعم لوجيستي متقدم لدعم معسكرات المرتزقة المنتشرة الى جبال يام شمال الفرضة وشرقا حتى المجاوحة والمدفون القريبة من «المديد» مركز المديرية.
لكن اعلام التضليل والدجل الذي واكب العدوان من يومه الأول قال إن « التوزيع ضمن المشاريع الإغاثية والإنسانية التي يقدمها المركز لمحافظات اليمن كافة دون تمييز «.

قد يعجبك ايضا