حقيقة الاصطفاء ودلائله الظاهرة بين جحود الإنسان وايمانه
منير اسماعيل الشامي
يحرص الانسان في حياته على انتقاء الأفضل في شتى شؤون حياته في ارضه في أدواته في متاعه وفي تطوير ذاته وإنتاجه وفي شتى ممارساته، وحتى في ملابسه، وقد مارس ظاهرة الانتقاء لاختيار الأفضل لتحسين مستوى حياته ورفع مستوى دخله وتطوير قدراته من خلال اختيار الأفضل والأحسن والأجمل والأكمل والأطول عمراً والأكثر فائدة والأوفر إنتاجا ….إلخ.
ما يعني أن الانتقاء الجيد للمواد والأشياء والأدوات والوسائل والبذور والأرض هو الخطوة الأولى لنجاح الإنسان في حياته العملية، ولا يمكن أن يختلف في هذا الأمر شخصان على وجه الأرض، وتجمع البشرية على ذلك في كل بقاع الأرض باختلاف ألسنتهم وألوانهم وبلدانهم وجنسياتهم.
وتقوم عملية الانتقاء على معايير تعلَّمها الإنسان وأثبتتها تجارب من سبقوه ترتكز على مبدأ الأفضلية في الإنتاجية والجودة والمواصفات مثل القوة والكفاءة ،المقاومة، الصلابة ، المتانة، الأكثر إنتاجا …إلخ.
ومن خلال إحاطة الإنسان بالأشياء وأنواعها والمواد وأصنافها والأنعام وسلالاتها والمحاصيل وإنتاجها، وعلمه أكثر عنها من خلال ما استخلصه من التجارب والأبحاث والنتائج المتراكمة التي تمخضت عنها تجارب وأبحاث من سبقوه أصبح قادرا على انتقاء الأفضل منها بكل سهولة ويسر، وعلى القيام بعمليات هادفة إلى إنتاج الأفضل والأجود والأنفع.
ومن الغريب والعجيب أن يجمع البشر على أهمية الانتقاء وفوائده وضرورته في حياتهم، منذُ القدم، وفي ذات الوقت يجحدون ناكرين لسنّة الاصطفاء الإلهي في انتقاء الله واختياره لرسله وأنبيائه ولأوليائه من عباده بعدهم على مرّ العصور، متناسين أن له سبحانه وتعالى المثل الأعلى، فهو العليم بما يصلحهم ، والمحيط بما ينفعهم، ويرشدهم، ويهديهم ليسعدوا في أولاهم وأخراهم وهي السنّة التي أرشدتهم وتعلموا منها ظاهرة الانتقاء.!!!
فإذا كان الانتقاء يعني اختيار الإنسان لأفضل العناصر والوسائل والمواد والأشياء التي تعود عليه بأكبر فائدة وأسرع وقت وأقلّ كلفة بناء على إحاطته وعلمه بخصائص الأشياء وصفاتها.
فإن الاصطفاء يعني اختيار الله بعلمه الأكيد بحقائق خلقه وإحاطته الشاملة بدقائق النفوس وأسرارها المكنونة، ومعرفته الكاملة بتفاصيل تركيبها وجزئياتها، فينتقي لهم أفضل خلقه، وأطهرهم روحا ، وارجحهم عقلا، وأزكاهم نفسا، وأوسعهم علما، وأكملهم إيمانا، وأتمهم أخلاقا، وأنفعهم لعباده وأحرصهم عليهم، وأقواهم تحملا وأجزلهم شجاعة وإقداما، واكرمهم عطاءً وجوداً، واتقاهم قلوباً، وانقاهم سريرة ، وأعظمهم خشية وصبراً، وأوفرهم رحمة وحلماً، واكملهم معرفة بربّهم وأقربهم إليه ، لتبليغ رسالته، وتعليم كتبه وتطبيق شرائعه ، وهداية خلقه، أوقيادة عباده من بعد رسله لتحقيق غايته من استخلافهم على الأرض، وجعل كلمة الله هي العليا، والارتقاء بحياتهم وفق أقدس المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية النبيلة، المنزّلة في كتابه إلى أعلى مستويات السعادة والعزة والكرامة والقوة والعدالة والرحمة والحرية والمساواة الكفيلة بنيلهم رضوان الله فيسعدون في الدنيا والآخرة .
واذا كان إبليس -لعنة الله عليه- هو أوّل من جحد وأنكر ورفض سنة الاصطفاء حينما رفض السجود لآدم عليه السلام واستكبر متحججا بقوله «أنا خير منه» فهو أيضاً من غرسها في نفسيات بني آدم ووسّع لهم دائرة استخدامها وممارستها وزيّن لهم التمسك بها منذ أولّ أمة إنسانية وحتى اليوم فلا زال البشر يجحدون هذه السّنة الإلهية وينكرونها مسلمين كانوا أو غير مسلمين حتى يومنا هذا وتلك هي معضلتهم الشيطانية التي أخرجت اغلبهم عن دائرة الإيمان وآفة ضلالهم الكبرى.
وفي كتاب الله تبارك وتعالى آيات كثيرة وضَحَّت جحود الناس ونكرانهم لاصطفاء الله لرسله واعتراضهم على ذلك الاصطفاء ومنهم كفار قريش الذين وصفوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل بعثته بالصادق الأمين لما علموا من صدق لسانه، وسمّو أخلاقه، ورجاحة عقله، وأمانته ونزاهته وحبه الخير للجميع، وحسن منطقه، ولين تعامله، …إلخ ومع ذلك سخروا منه بعد بعثته، وكذبوه، وحاربوه، وقالوا
« لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».
ومثلما أنكر كفار قريش واعترضوا على اصطفاء الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنبوة والرسالة أنكر قوم بعدهم اصطفاء الله سبحانه وتعالى لوصي رسوله وخليفته عليهم بعده واعترضوا على ذلك وعلى اصطفاء الله لبضعة رسوله ولجعل نسل نبيه منها واصطفاء الله للسابقين منهم ليرثوا العلم والحكمة ويحملوا كتاب الله ورسالته بعد أبيهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتحميلهم مسؤولية تبليغها وتعليمها لخلقه، في مشارق الأرض ومغاربها وانكروا أيضاً إقران الله لهم بالقرآن، فلم يسلموا لله ورسوله بذلك متجاهلين ومعترضين نصوصاً محكمة في كتاب الله وأحاديث صحيحة من هدي نبيه، ومؤولينها إلى غير مقاصدها الواضحة، فألبسوا الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم فكانوا سببا في هلاك الأمة وضلالها، وألبسوها بفعلتهم تلك لباس الذل والضعف والهوان، وفتحوا لها أبواب الفرقة والاختلاف وأججوا فيها نيران الفتن ، ووسعوا عليها دائرة الخلاف والشتات وأورثوها الصراع فصارت شيعا تذيق بعضها بأس بعض ، خاضعين مسترقين لأعدائها يتقاذفون بهم حيثما شاءوا ويسومونهم سوء العذاب آناء الليل والنهار منذُ وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من انكشاف وتعري جحود من سبقوهم ونكرانهم لهذه السّنة الإلهية، وانكشاف ضلال مواقفهم الجاحدة كلها أمام من جاء بعدهم، ورغم الحجج الإلهية والآيات الربانية التي يريهم الله إيّاها في كل زمان ومكان وتدل دلالة قاطعة على حقيقة سنّة الاصطفاء الإلهي وضرورتها القصوى للإنسان، وعلى أنها تهدف إلى الإرتقاء بحياة الإنسان إلى أعلى مستويات القوة والعزة والكرامة والرخاء وتدفع به إلى أعلى درجات الكمال الإنساني بقيمه الراقية ومبادئه السمحاء، وتدله على اكفأ الطرق لبلوغ ارفع مستويات الحياة الإنسانية وتحقيق التنمية الشاملة بمختلف جوانب حياته وشتى مجالاتها، إلا انهم لم يستفيدوا من أخطاء وضلال من سبقوهم ومازالوا مصرّين على السير في درب أسلافهم وخوض التجربة بأنفسهم ليفنوا كما فني آباؤهم الأولون في غياهب الظلمات والضلال، وسراديب الغواية والتيه، متبعين خطوات الشيطان ومأمورين بالفحشاء والمنكر.
ومع ذلك لم يهملهم الله تبارك وتعالى ولم يتركهم في غيهم يعمهون، ولم ينساهم كما نسوه ونسوا آياته وحججه بل لا زال بهم رؤوفاً رحيماً يريهم آياته الباهرات، ومعجزاته الواضحات في حقيقة الإصطفاء وللتأكيد على استمرارها من الماضي وحتى الحاضر وإلى المستقبل، ودوامها وامتدادها حتى يرث الله الأرض ومن عليها ويريهم الله الدلائل القاطعة على ذلك بوقائع مشهورة بين قلة من أهل الحق المؤمنين بسنة الإصطفاء وبين كثرة كثيرة من أهل الباطل من المنافقين والمشركين والجاحدين فيجعل عباده هم الغالبون وجنده هم المنصورون وحزبه هم المفلحون، برغم قلّتهم وقلة عددهم وعتادتهم، على أعدائه واعدائهم من قوى الطاغوت وجنده بكثرتهم عددا وعتادا، وحشودا وجيوشا، وأسلحة ونفيرا، وقل من يجهل هذه الوقائع ويشاهدها، فصداها يبلغ مشارق الأرض ومغاربها، ودويها يتجاوز الحدود والآفاق ويتردد في البلدان وخلف البحار والأنهار.
ومن أبرز الوقائع والأحداث التي عايشناها ونعيشها في عصرنا هذا والتي كانت وستظل آيات عظيمة من آيات الله وحججاً دامغة على عباده ما يلي :-
١- الثورة الإيرانية التي خاضها السبط الحيدري الإمام الخميني قدس الله سره وتسببت في أحداث نقلة نوعية لجمهورية إيران من الحضيض الذي كانت في قعره إلى أعلى مستويات القوة والعزة والتقدم والتطور خلال اربعين عاماً وأصبحت اليوم في مصاف الدول الأكثر قوة،ً وعزة، وتقدماً في العالم وفي مختلف مجالات الحياة، رغم الحصار، والحرب الامريكية و الغربية عليها التي لم تتوقف من لحظة قيامها وحتى اليوم .
٢- الوقائع الذي خاضها حزب الله بقيادة الحيدر الحسيني وسبط النبي صلوات الله عليه وعلى آله السيد العلم والقائد المجاهد حسن نصر الله يحفظه الله ويرعاه في صراعه مع العدو الصهيوني والتي فضحت الجيش الصهيوني وبينت ضعفه وهوانه أمام العالم وحولته من «الجيش الذي لا يهزم» الى الجيش الذي سريعا يهزم ويهزم ويهزم.
٣- الوقائع التي يخوضها الجيش واللجان الشعبية بقيادة الحيدر الحسني وسبط النبي صلوات الله عليه وعلى آله السيد العلم والقائد المجاهد عبدالملك الحوثي يحفظه الله ويرعاه ضد تحالف عدواني دولي اجتمعت فيه اقوى أنظمة العالم عسكريا وأغناها أموالا واكثرها تطورا واعظمها أسلحة وتقنية من أول واقعة حدثت بعد أربعين يوما من عدوانهم وحتى آية الله الباهرة ومعجزته الظاهرة عملية «البنيان المرصوص» والتي انتصر فيها قلة قليلة من عباده المؤمنين وجنده الصادقين على أكبر وأقوى جيش من المرتزقة مجهز بأحدث الأسلحة ومكون من ألوية متخصصة من مختلف الوحدات العسكرية الحديثة ومدعوم بأحدث غطاء جوي وأحدث طائرات حربية بمختلف انواعها، فعصفت به رياح الحفاة الراجلين وفي ستة أيام حسوما صار ذلك الجيش فيها صرعى وجرحى واسرى ومن بقي منهم ولوا الأدبار تاركين أحدث وأضخم ترسانة عسكرية غنيمة لجند الله في قمم الجبال وبطونها ودروبها.
ولو أن كل مسلم قارن هذه الأحداث وربطها مع وعود الله لعباده المؤمنين في آيات القرآن الكريم وتدبرها بقلب سليم لانقشع سراب الضلال الجاثم على صدره ولعرف الطريق إلى الله وعرف الحق ونهجه ورجاله ، ولعرف أين موقعه وأين يجب أن يكون، ولكن للأسف فقد قالها الله تبارك وتعالى لرسوله (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) صدق الله العظيم.