صفقة العار لن تمر

أحمد يحيى الديلمي

 

أحمد يحيى الديلمي
قال شاعر العرب الأول المتنبي “رحمه الله”:
من يهن يسهل الهوان عليه **ما لجرحٍ بميتٍ إيـلامُ
فكيف إذا تحوَّل هذا الهوان إلى ذل وخنوع ، بل وخيانة وتآمر ، هذا هو حالنا نحن العرب مع صفقة القرن والتي لا أبالغ إن قلت أن 75% من الخطة تم بأموال عربية، لا حول ولا قوة إلا بالله ، حتى أموال العرب باتت منهوبة وتسخر ضدهم ، كيف لا ونحن معتقلون داخل هيلمان النصوص الرسمية ومعتقلون داخل النصوص الدينية والخرافة وفتاوى الضلال ، العقل في بلادنا ملعون ومكروه ومنكر والكتابة الحرة تشبه السير على أسنة الرماح ، والقادة العرب كل عاشق لذاته ، يسخر كل شيء لخدمة الكرسي ويشعره من حوله أنه وحده الفاهم والملهم والمنقذ وأحياناً المهدي المنتظر ، يعيش في جزيرة منعزلة عن الشعب الذي يحكمه ويتعاطى مع هذا الشعب بنرجسية وإسراف في عشق الذات وهو ما يقتضي التنكيل بهم وتعريضهم لأشد أنواع العقوبات إن هم تجرأوا على نقده أو الحديث عن أخطائه ، حتى القيم والمبادئ الحزبية تحولت إلى سوق مفتوح للنخاسة والسباق المحموم على الغنائم وتوزيع المناصب في كل الدول التي تتباهى بوجود تعددية سياسية ، أما في أنظمة البترودولار فحدِّث ولا حرج ، الكل يتعامل مع أبناء شعبه كخدم وبشر فاقدي الأهلية ، هو الذي يفكر باسمهم وبدونه سيعيشون في ظلام مع أنه وصل إلى حالة الترهل والاسترخاء ويتلذذ بتجارة الأوهام ، هذه مجرد عينة متواضعة من آلاف القضايا التي تحيط بالمواطن العربي وهي التي مهدت الطريق لإعلان “صفقة القرن” عفواً “العار” كما وردت على لسان الرئيس الأمريكي “ترامب” بعد أن ضمن موقف معظم الزعماء العرب وأنهم باتوا خاتماً في معصم يده ، بل وفي أصبع أصغر ضابط في المخابرات الأمريكية ، وهذا هو الغبار الكثيف الذي غطى الخيانات وفرض حالة الترهل وجعل التهريج شعار المرحلة ، لا أخفي أن مثل هذا الإعلان هزَّ القوى الوطنية العربية وأعاد الملح إلى الأفواه ليغطي اللغة والمشاعر بالضبط كما حدث عقب هزيمة يونيو 1967م .
الإشكالية الكبرى أن مثل هذه الصفقة ليست إلا مقدمة وبروفة لما هو أسوأ وكل شيء محتمل في ظل الأوضاع المتردية وهذه الخيانات المتعاقبة ، الكل يسير باتجاه الأفول والغياب بعد أن وصلت قوى التغيير الحضاري الفعلية إلى مرحلة العجز وأصبحت بعيدة عن مشاعر الناس في الشارع العربي الذي يبدو أنه انخدع بهياكل بشرية ارتدت مسوح الرهبان في زمن مبكر لتمعن في الخداع والتحايل وتعمل على تزييف الوعي وتغييب العقل الجمعي للأمة وهي في كل ما تقوم به تمهَّد لتصفية القضية الفلسطينية ، وها هي اليوم تتباهى بهذا الإنجاز بعد أن أحكمت السيطرة على الجامعة العربية وعبثت بالجينات الوراثية للانتماء القومي ، فأحدثت خللاً عميقاً في المكونات المادية والمعنوية للجامعة بعد أن غُلِّفَتْ السياسة بالدين وتغلغلت في القواعد الاجتماعية واستطاعت تأجيج الفتن والصراع على أساس مناطقي ومذهبي وصولاً إلى إحياء الطائفية ومفهوم الحياد وفرضه على الواقع الاجتماعي باعتباره المدخل الوحيد للظفر بالسلامة والعيش الرغيد ، وعلى هذا الأساس توفرت البيئة المواتية للغلو والتطرف وتكونت البؤر الإجرامية للإرهاب التي شوَّهت صورة الإسلام وعزلت المجتمع المدني والنخب الثقافية والسياسية عزلاً تاماً وإقصائياً مكن الآخرين من التحكم في مسارات الفعل داخل مكونات الأمة .
إننا اليوم أمام هذه الصفقة المشؤومة بحاجة إلى إعادة تنمية الوعي ومعرفة مكمن الخطر والأمراض القومية التي أسهمت في فرض الاسترخاء والترهّل والتهويل إلى حد فقدان الذاكرة والهوية وسمحت للملفات بأن تمتلئ بالخيانات والمغامرات العاطفية المشبوهة التي لوَّثت سمعة الإسلام الحضارية وحوَّلت العرب إلى مجرد دمى وكيانات هلامية تتباهى بالهوان ، وهنا يتَّضح معنى البيت الذي أسلفنا للمتنبي ، خاصة بعد أن أصبح بعض العرب يردِّد الكذبة الكبرى الخادعة التي تعتبر كفاح الشعب الفسطيني ومقاومته الباسلة إرهاباً مع أن أمريكا نفسها فضحت هذه الفرية وتتباهى دائماً بقواعد الأمم المتحدة التي تضمن حق كل إنسان في الدفاع عن نفسه وعن عرضه وعن استقلال بلده وإن كان في الأمر بعض الالتباس كون أمريكا لا تتحدث عن هذا الجانب إلا إذا تعلق الأمر بدولة الكيان الصهيوني ، أما إذا كانت الجريمة في بلد عربي أو تخص الفلسطينيين بالذات فإن الأمر مشروع ومرحَّب به ، وهذا بات شيئاً معروفاً لكن من غير المألوف أن يصل هذا الاعتقاد إلى الذهنية العربية ويصبح أساساً لاتخاذ المواقف وتبني ردود الفعل ، إنها فعلاً مأساة تتطلب مراجعة دقيقة لكل المواقف وفي المقدمة التصدي لمثل هذه الخيانات عبر إسناد حركة المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها والمقاومة في لبنان لكي تتمكن من الدفاع عن نفسها بنفسها وإسقاط كل الخزعبلات التي أصبحت مستساغة من قبل القادة العرب ومن يحيط بهم من العملاء والخونة ، وهذا يجعلنا نقول إنا لله وإنا إليه راجعون ، أما هذه الصفقة فلن تمر ولن ترى النور طالما وجد الدم العربي الأصيل وظل ينبض في عروق الكثير من أبناء هذه الأمة .. والله من وراء القصد ..

قد يعجبك ايضا