اليد الجلية
عبدالرحمن هاشم اللاحجي
المتأمل في الفكر الاقتصادي العالمي ومراحل تطوره التاريخية بداً من مذكرات افلاطون في الفلسفة الاقتصادية، مرورا بالمدرسة الميركانتلية، والكلاسيكية، والكينزية ووصولاً لأفكار فولتمان بشأن النقود وحتى ازمة عام 2008م يجد أن النظريات الاقتصادية على خلاف امكنتها، وازمنتها، وبصرف النظر عن ثقافات، وايديولوجيات روّادها وفلاطحتها لا تخلو من مصطلح (اليد الخفية)، تعد اليد الخفية القوة الغيبية التي تمنح المعاملات الاقتصادية- حسب اعتقاد العلماء- الاتساق والتحقق… في نهاية المطاف وبحسب رأي المدرسة الكلاسيكية- يعود الفضل في ايجاد طلب حقيقي على العرض الانتاجي بغض النظر عن نوعه وكمه لليد الخفية . اليد التي كان لها حضور كبير في مذكرات المفكر الاقتصادي الشهير آدم سميث والتي افرد لها بابا كاملاً في كتاب (ثروة الامم) سقطت في اول اختبار حقيقي لها خلال أزمة الكساد العظيم 1929م ،وكان سقوطها مدويا وفاضحا حد الاعياء فبعد ثلاثمائة عام تقريبا من الايمان المطلق بأسسها ومرتكزاتها الفلسفية- العلمية البحتة وقف عباقرة الاقتصاد الاشد ايمانا وتعصبا لها مذهولين مطأطئ الرؤوس واصبح من كانوا يَطلِقون عليهم بـ(المعاتيه) بسبب عدم قناعاتهم بها هم المنجبين الفحول بينما ظهر أولئك العباقرة الأذكياء في موقف مخز للغاية.
من اجل هذا حاول المفكر الاقتصادي جون كينز ان يعيد الاعتبار لأسلافه فسارع لتخليد النظرية بعد ان نقدها على استحياء واضاف عليها نوعا من البهارات الفلسفية والعلمية الذائبة لتكون محلا للقبول العام في اوساط المجتمعات المتباينة وقضى معظم وقته في اثبات رؤيته بالطرق الرياضية والبيانية المعقدة وكيف ان (اليد الخفية) تعمل على اضفاء التوازن الآني للأسعار في جميع الاسواق الاقتصادية ، وان اسعار الفائدة هي السبب الرئيسي وراء الانتعاش والرفاة .
وعلى كل حال فقد اسهمت الظواهر التي مرت بها البشرية في تعرية الافكار التي ذهب اليها الاقتصاديون والتي كانت -ربما تصلح للزمن الذي عاشوا فيه- مع تحفظنا على ثقافة اليد الخفية التي كان لها حضور روحاني لافت في جميع النظريات كما اسلفنا، فالأزمة المالية التي عصفت بدول العالم في 2008م والتي ماتزال آثارها الارتدادية مستمرة حتى الآن مهددة بانهيار اقتصادي حتمي، اسقطت النظرية النقدية القائمة على انقاض نظرية كينز. كما ان الحروب التي عصفت بالقارة الاوروبية والامريكية منذ مطلع القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كانت السبب الاساس وراء تساقط النظريات الاقتصادية وقيام نظريات اخرى على انقاضها.
وإذا كانت هذه الظواهر والاحداث قد اسهمت في نشوء نظريات اقتصادية هشة اتضح فيما بعد مدى ركاكة اساسياتها وخلوها من عوامل التوفيق والاستمرارية فإن الظاهرة الاقتصادية اليمنية المعاصرة قد كشفت حتى الآن عن (توفيق مذهل) في التحكم بمسارات المعاملات الاقتصادية بكفاءة عالية… لقد خسرت المانيا الحرب العالمية الاولى رغم انفاقها اكثر من مائة مليار فرنك على التجييش والاستعداد المبكر لتلك الحرب المتكافئة كما ونوعا وخسرت الحرب العالمية الثانية رغم انفاق خمسة اضعاف انفاقها في الحرب السابقة، ونحن دخلنا هذه الحرب غير المتكافئة كما ونوعا بميزان مدفوعات منهار وبنية اقتصادية مسحوقة وببندقية يعود تاريخها للحرب العالمية الاولى ومع ذلك حققنا الانتصارات تلو الانتصارات ..ان لم يكشف هذا الامر عن يد جلية في الموضوع فعن ماذا إذاً يكشف ؟!
لقد كشفت الايام أن اليد الخفية التي عناها المفكرون الاقتصاديون الاوائل لم تكن سوى يد الطبيعة او يد الشيطان – على نحو ادق-…..فإذا كانت هذه اليد البائدة قد كُسرت وخفت- بتسكين الفاء- بريقها فلماذا لا تجرب البشرية اليوم يداً برّاقة من نوع آخر؟
انها يد (الله) الحكيم….اليد الخارقة الجلية التي لامسناها في الواقع المعاش ولازلنا نلامسها حتى الآن ملامسة فعلية واقعية لا مجرد تخيلات او تكهنات قد تصح او لا تصح!… اليد العظيمة المؤسسة لقيام نظرية اقتصادية موفقة تعيد للبشرية اعتبارها وتخرجها من بؤرة الفساد التي وقعت فيها بفعل تلك الايمانيات الخرقاء.
ان المفترض بل والواجب علينا كأمة نبيهة ساعية لتحرير البشرية من براثن الإفساد بأنواعه أن ندين لهذه اليد المباركة بالفضل والنعمة علينا على ان الفضل مقرون هنا بالبحث عن الكيفية التي صنعت المعجزة …إن المعرفة الإلهية الحقيقية توجب علينا طرق ابواب الحقيقة طرقا رياضيا – هندسيا من جانب، وفلسفيا- ثقافيا من جانب اخر، وبقليل من الالهام الإلهي الداعم سنتمكن من ايجاد البدائل المناسبة لأسعار الفوائد ومضاربات الفوركس.
اليد التي مدتنا بعوامل البقاء حتى الآن لن تبخل علينا بالمعرفة العلمية الدقيقة عن الكيفية التي منحتنا التوفيق كل هذه المدة ولازالت تمنحناه حتى الآن، وهذه ثقتنا المطلقة بها، مثلما هي ثقتنا ايضا بالجهات المسؤولة في الدولة – وان كانت لا تقارن- بتوفير البيانات والمعلومات المساعدة لتحقيق الهدف المنشود.