حتى لا يرجع الماضي دعونا نصنع الغد
عبد الرحمن مراد
يقول البردوني في مقال له: ما جرى في التاريخ القريب أو البعيد جرى في بلادنا – باعتبارها أقرب الى الماضي بتقليديتها وأقرب إلى التحول بطموحها وفاعلية التغيير , فإذا كل تحركها – كما تدل الوقائع – يتردد بين الطموح والتقليدية , فيتأرجح بين زمن لا يأتي وزمن لا يرجع , وكلا الجانبين – كما يوحي الاستنباط العقلي السليم – آت من تأريخنا العقائدي والفكري والذي جمع بين الفكر الثوري التحولي والتقليدية الماضوية وكان نتيجة منطقية لحالة الانحراف التي بدأت منذ السقيفة.
وأصبح واقعنا اليوم شاهدا على ذات النسق التاريخي لكل مماثل فهو لم يأت بجديد بل كان امتدادا متجددا من صميم تجارب الماضي , فكل حركة تاريخيه وثقافية تسترجع أمسها كأساس ليومها فهي تحقق الثبوت في الواقع من حولها ولا تجتاز الماضي في نسقها العام ولذلك فالواقع الثوري يفصح عن ماضٍ يتعاصى عن الرجوع كما يشير إلى توقف الواقع الثوري عن الفاعلية.
وبعد كل الحماس الثوري الذي صاحب حركة المجتمع منذ 2011م إلى طغيان العدوان نلاحظ اليوم أن الحماس المشتعل بدأ يبرد , فاليمن اليوم بين حالين ,عجز المقبل وخذلان المتراجع , وبينهما تكمن رغبة السلام من المتحاربين , والسلام الذي يأتي نتيجة عجز المتحاربين لا نتيجة انتصار طرف على آخر يعيد حركة التاريخ ويبعث الماضي ويحفز على الثأر وعند هذا المحور تصبح الثورة حركة هزيلة في فراغ ممتد بين طرفي ماضٍ لا يرجع وآتٍ لم تتهيأ فصول ميلاده , فالغد الذي تنشده حناجر الفقراء يستدعي جدة نفوس الداخلين فيه , وقدرتهم على تجديده وتجديد نفوسهم معه وهذا أمر لم يتحقق , فكل العناصر المتجددة في إطار حركة الواقع تم التعامل معها تهميشا وإقصاء , كما أن البطء في الوقوف أمام الظواهر , والبطء في حركة التبدل , يجعل الحال نكوصا لا يلبي ما كان يخامر الوجدان الثوري , وما يهدف إليه الناس من تطلعات.
ويبدو أن الوعي بالمرحلة هو البداية الصحيحة لفهم الواقع , وهو القدرة الحقيقية في السيطرة على مقاليد المستقبل , فالحاضر والمستقبل لا يشبهان كل الذي مرَّ في تأريخ المنطقة, فالعدو الذي يتربص بنا الدوائر اليوم يقوم بإحداث قدر من التوازن , وكل المؤشرات تقول أن المنطقة قادمة على تغيرات ديمغرافية وجيوسياسية , وصراع القوى الكبرى بدأ يشتد أواره , وقد تشهد المنطقة – وفق كل المؤشرات والرموز التي يبعثها الواقع اليوم – حربا عالية الأوار فالتوتر قائم بين الصين وأمريكا وبين أمريكا وروسيا , وبريطانيا التي كانت تغض الطرف عن أي تواجد عسكري لها بالمنطقة ها هي اليوم تعود وتنشئ قواعد عسكرية في الخليج وهي قد تسلمت الملف اليمني تمهيدا لفرض هيمنتها على باب المندب وعدن ,وعلينا أن ندرك أن الحرب التي يديرها العدو اليوم لا تقوم على الهيمنة الاقتصادية كما كان في زمن عصر النهضة بل تقوم على البعد الثقافي , ولم يستوعب العرب الفكرة , ولا الحركات التحررية , وثمة حركات كانت ترفع الشعارات التحررية هي اليوم في حالة تماهٍ غير واعية مع المعركة الثقافية التي يديرها العدو بذكاء مفرط , ويقابله غباء غير مبرر من العرب والمسلمين.
أمام هذا الواقع الذي يمر بالأمة يفترض بنا الوقوف والمراجعة , والاشتغال على ذات القنوات التي تستغل في إدارة المعركة وهي القنوات الثقافية , فالبعد الثقافي يشكل المنحى الأهم في السيطرة على الوجود والفاعلية في المستقبل.
فاليمن – التي هي جزء من المنطقة – ستكون في محك الأحداث ولذلك يتوجب علينا الاهتمام بالبناء الثقافي الذي يستوعب المرحلة ويعيد ترتيب نسقها , ويعمل على التأثير في مجرى الأحداث , ولن يتحقق ذلك التأثير إلا بالاشتغال الواعي في بناء مشروع نظري يستمد أسسه من المنطلقات الإسلامية ليكون قادرا وفاعلا في تحقيق عالمية الإسلام , فالحصار الذي يشهده الإسلام في بؤر العداء للإنسانية والحضارات وفي الإرهاب يجب كسره بالبناء الثقافي والتفاعل الحضاري ووفق استراتيجيات واعية ومدركة لفكرة صراع الحضارات.
لا يمكن الحديث عن مشروع يظل محاصرا بفكرة القوميات , ولا يمكن الحديث عن فكرة مالم تستوعب البعد الإنساني , نحن أمام واقع لا يعترف بالطائفية ولا بالقوميات وأمام دين جاء لتحقيق الرفاه للبشرية قاطبة فهو للعالمين كلهم بدليل نصوصه القطعية , ولذلك فالقضية هنا لا يمكن حصرها في بعد واحد , فعالمية الإسلام في القيم والمبادئ التي جاء بها , وليس في الرموز أو الشخوص التي مرت بالتاريخ , فتقدير الرموز ليس عيبا ولكن الاستغراق في التأليه والتنزيه هو المثلبة التي يفترض أن تجتازها.
معركتنا مع العالم من حولنا هي معركة توازن ثقافي وحضاري وفهم هذه الخصوصية , هي الذي يجعلنا في مراتب التأثير لا مراتب التلقي والخضوع لما يملى علينا , والقوة المفترضة هي القوة الثقافية والحضارية أما القوة المادية العسكرية والاقتصادية فهي عوامل مساعدة ليس أكثر من ذلك , ولذلك لم يستنكف العدو من النيل من البعد الثقافي والحضاري للعرب بنشاطه المكرس لهدم المثاليات والرموز والعمل على رسم صورة مشوهة وظلامية عن الإسلام بدأ هذا النشاط قبل بدء المعركة حتى تكون مبرراً أخلاقياً في القضاء على النمط الثقافي والحضاري العربي.
لا يمكن للماضي أن يعود وحتى نجتاز عثراتنا لابد لنا من الوقوف أمام الحاضر لمساءلته كي نصنع المستقبل الذي يليق بنا وبمشروعنا الإسلامي الإنساني.