معادلة الردع والقدرة على الرد المضاد
محمد ناجي أحمد
في التاريخ المعاصر كانت مصر الخمسينيات والستينيات دولة قادرة على «توجيه الضربات المضادة، وربما كان الفرق بين سياسة الدول المستقلة وسياسة الدولة المغلوبة على أمرها يكمن في القدرة أو العجز عن الرد الديناميكي على ضربات الدول الكبيرة ،التي اعتادت من قبل على توجيه الضربات دون أن يجرؤ أحد على أن يكيل لها ضربات مضادة «ص56-حروب عبد الناصر –أمين هويدي –دار الطليعة بيروت-ط1-1977م-ط2-1979م.
اليوم أصبحت إيران في قدرتها على ردع غرور الولايات المتحدة الأمريكية وطيشها كدولة عظمى ،وهو حال حزب الله في لبنان في جعل الصلف الصهيوني يفكر مليا قبل أن يغامر في ضرب لبنان !
أمجاد العرب تستعاد في توازن رعب يمثله حزب الله لإسرائيل ،فالإرادة والروح الثورية التي مثلتها حقبة عبد الناصر في مصر ،فجاءت مرحلة السادات لتجرف كل مكانة وقيادة لمصر ،وليكون الزمن (زمنا إسرائيليا) والحقبة حقبة سعودية بامتياز.
صارت إسرائيل طيلة العقود الماضية تعربد ،وتضرب في أي مكان وزمان تريد .تضرب مصنع أدوية في السودان ،أو مفاعلا نوويا في العراق ،تكتسح لبنان متى شاءت ،وتعد مذابح جماعية حين تريد ،وتقوم بعمليات استخباراتية واغتيالات في تونس والأردن والمغرب ،ولبنان ،وأوروبا الخ-دون أن تجد رادعا أو مواجهة مضادة.
لكن حزب الله ومنذ انتصار تحرير جنوب لبنان ،والقدرة على الصمود في مواجهة الاجتثاث في حرب تموز عام 2006م،وصولا إلى قدرة حزب الله في مواجهة الهدف بالهدف ،والقتل بالقتل ،فحين قتلت إسرائيل في الأسابيع الماضية مجاهدين يتبعان حزب الله كان الرد بقصف مدرعة إسرائيلية كانت تتحرك بعمق كيلومترين داخل الأراضي المحتلة. بعد وعد ووعيد تضمنه خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، جعل الكيان الصهيوني في حالة رعب وترقب.
إن أهم قاعدة من قواعد الصراع العالمي بحسب أمين هويدي في كتابه آنف الذكر «هو التوازن بين القدرة على توجيه الضربة الأولى والقدرة على رد الفعل ..أي التوازن بين القدرة على الفعل والقدرة على رد الفعل ..وتتحكم الضربة الثانية في توجيه الضربة الأولى ،بل سر الصراع العالمي يكمن في قدرة الضربة الثانية وليس القدرة على توجيه الضربة الأولى.. فالكل قادر على توجيه الضربة الأولى ولكن ليس من السهل عليها أن تحدد موعد نهاية الحرب ولا الصورة التي ستنتهي عليها ويرجع السر في ذلك إلى الضربة الثانية «ص56-حروب عبد الناصر.
قدرة حزب الله على رد الفعل تكسبه صفة العدالة في مقاصده والرجولة في مواجهة المواقف، والصدق في الوعد وتنفيذ الوعيد.
في حرب السويس عاد 1956م اجتمعت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل من وراء الولايات المتحدة الأمريكية واتفقوا على غزو مصر وإسقاط نظامها عن طريق القوة المسلحة ،وكان موقف الولايات المتحدة في عهد داويت إيزنهاور متفقا مع فرنسا وبريطانيا على إدانة مصر وإسقاط نظامها ،لكنها كانت «تريد القضاء على النظام الوطني في مصر عن طريق «الخنق» لا عن طريق «القتل» رميا بالرصاص.. فللرصاص صوته المسموع. كان هذا هو موقف الولايات المتحدة الأمريكية قبل العدوان.. ،كانت تريد التخلص من النظام عن طريق «الخنق» بالضغط عليه حتى تزهق روحه ..وهي التي أعدت مسرح الجريمة وجهزته للموقف المناسب» ص107-حروب عبد الناصر.
وما زالت السياسة الأمريكية في إداراتها المتعاقبة وصولا إلى ترامب تفضل «الخنق « وإسقاط خصومها بالضغط عليهم حتى تزهق أرواحهم ،وما تصنعه إدارة ترامب هو هذا النهج بخصوص إيران ،وتصفير صادراتها ،وتصعيد العقوبات الاقتصادية ضدها.
تتيح إيران المجال لأي وسيط يتدخل بينها وبين أمريكا ،فهي تعي أن إشراك أكثر من دولة في الصراع الدائر بينها وبين أمريكا يحقق نوعا من الديناميكا المطلوبة للوصول إلى حل عادل «…لأنه عند إدارة هذا النوع من الصراع ..يلعب عامل الوقت دوره الخطير في التأثير على النتائج ..فجميع الأطراف تحتاج عامل الوقت لتدبر أمورها..»ص115-حروب عبد الناصر.
وبالنسبة إلى الانذارات والدفع بالأمور إلى حافة الحرب تعاطت معها إيران بجاهزية عسكرية وسياسية ،فهي ترفض الحرب وفي ذات الوقت تتمسك بنهج الثورة الإيرانية ،وحينما أراد الغرب والولايات المتحدة ممارسة القرصنة في البحار استخدمت إيران ورقة تصفير التصدير عن طريق مضيق هرمز والملاحة فيه ،حينها تراجعت الولايات المتحدة عن خيار الحرب، وأصبح التهديد والقرصنة في مضيق جبل طارق يقابله إيقاف الملاحة والتصدير في مضيق هرمز، وتهديد المصالح والقواعد العسكرية الأمريكية في قطر والإمارات والسعودية والبحرين الخ ،مقابل تهديد إيران وحلفها الإقليمي في لبنان وسوريا والعراق…
بإمكان إيران أن تتنازل في العراق وسوريا بصيغة شراكة وتوازن قوى ، لكنها لا تستطيع أن تتخلى عن حزب الله ،فذلك يمثل خط دفاعها الأمامي وصمام أمنها وحماية نهجها .
لم يعد مطلب الولايات المتحدة الأمريكية نزع الصواريخ الباليستية ، وتغيير النظام في إيران، والتخلص من القوة العسكرية لحزب الله مطلبا واقعيا فأفسحت المجال للجهود السياسية ،الإقليمية والدولية ،ومعنى ذلك أن إيران حققت معادلة الردع من خلال القدرة على إنجاز الضربة الثانية بنجاح وفاعلية.
الحفاظ على الإرادة +العزم على استخدامها +استخدامها الفعلي =الانتصار.ص118-حروب عبد الناصر.
إن ما تطلبه الولايات المتحدة بخصوص صراعها مع الأنظمة المزعجة لنفوذها-ليس تغييرها للأشخاص فقط بل تطلب سقوط النظام عن طريق تغيير أفكاره ومبادئه ومعتقداته…
لكن طبيعة النظام ،بنية ومعتقدا ومؤسسات أكثر تعقيدا ،فمن الصعب إسقاطه بسقوط رأس النظام ،ومن الصعب اختراقه لمجرد استقطاب أشخاص أو حتى اختراق مؤسسة من مؤسساته ،فهناك سلطة مرشد الثورة ،وما يتبعه من مؤسسات مدنية وعسكرية وقضائية ،وهناك مؤسسة الحكومة ،ومؤسسة مجلس الشورى ،ولجنة حماية النظام ،ولجنة الدستور ،وهناك حرس ثوري ،وجيش الخ .أمام هذه التركيبة شديدة التعقيد الوظيفي يصعب إن لم نقل يستحيل أن تنجح الولايات المتحدة في إسقاط نظام الثورة هناك ،كما نجحت في تغيير نهج مصر عبد الناصر في حقبة السادات ،أو إسقاط نظام صدام في العراق ونظام القذافي في ليبيا عن طريق الغزو والاحتلال.
عجزت الولايات المتحدة عن إسقاط نظام الحكم في سوريا ،رغم حرب مستدامة قرابة عشر سنوات من الإنهاك .ولم تستطع أن تسقط حزب الله وقدراته العسكرية في حرب تموز 2006م .وسوريا وحزب الله مؤشران على قدرة النظام في إيران على المبادرة والإرادة والإدارة الناجحة لصراع يمس وجودها وأمنها القومي ،وتأثيرها الإقليمي. فإذا ضربت هناك فسوف تنتقل المعركة إلى طهران. وإيران تعي مخاطر ذلك وتستميت في الدفاع عن سوريا وتطوير قدرات حزب الله العسكرية.
كان البحر الأحمر طيلة الستينيات وحتى عام 1973م بحرا عربيا من قناة السويس إلى باب المندب ، وهاهو اليوم يصبح بحرا أمريكيا في كلنا ضفتيه ،وفي كل حرب وصراع في منطقة الشرق الأوسط يكون البحر الأحمر هو قاعدة السيطرة .
موقع اليمن على باب المندب ،وميناء عدن في مفترق البحر العربي والأحمر والمحيط الهندي ،كل ذلك جعل الجغرافيا اليمنية هي أساس السيطرة ،مما جعل الأطراف المتصارعة إيران وأمريكا والصين وروسيا تتنبه لأهمية اليمن في هذا الصراع. فالجغرافيا «…هي التي تحدد السياسة ،بل هي قاعدة لها ،لا يمكن أن تنفصل عنها بأي حال من الأحوال ..وإن كانت الجغرافيا هي قاعدة السياسة فإن الخريطة هي أداتها.»ص207-حروب عبد الناصر.
واليمن بحكم موقعه على باب المندب وميناء عدن بحكم إطلالته على البحر العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر يعد مفتاح النفط والحركة التجارية ،خاصة وأن مضيق هرمز في متناول إيران ،أي أنه مضيق فارسي بامتياز ،من هنا تتضح أهمية الجغرافيا اليمنية والسياسات التي تنطلق من هذا الموقع والموضع.
كل استراتيجية عسكرية هي في الأخير تابعة للاستراتيجية السياسية، فالاستراتيجية العسكرية تهتم بتحقيق النصر في المعركة «أي تحقيق الأمن العسكري بينما غرض الاستراتيجية العظمى كسب معركة السلام بالانتقال بالدولة إلى حالة سلم أفضل ..أي تحقيق الأمن القومي»215-216-حروب عبد الناصر.