شبوة تموضعت بين هيبة التاريخ ومسؤولية الحاضر والثالثة ثابتة يا عرب
أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
بعيداً عن تعظيم لُغة الجغرافيا المناطقية التي لا تحقق في العديد منها أية خلاصات مهمة في سياق أَي بحث أو استعراض لقضيةٍ محددة، لكن في حالة شبوة الإنسان والجغرافيا والتاريخ ربما وأكرر ربما هي إشارات بهدف الإنصاف الإيجابي للمواقف والخيارات الاستثنائية ليس إلا.
وللتذكير فحسب فإن هذه المنطقة من تضاريس اليمن الطبيعية امتلأت بالقصص والحكايات والأساطير والحضارات وكان لها حضور مؤثر وفاعل ربما الأجيال الجديدة لم يسعفها زمنها بالالتفات إلى ذلك الماضي التليد، من باب فهمهم الخاص بأن التاريخ لن يقدم شيئا للحاضر ولا للمستقبل، وهناك أطاريح أو أطروحات تُروج بين حين وآخر لمثل تلك الأفكار والآراء العقيمة، لكنني مُلزم كغيري من الباحثين في الشأن العام أن أكون منصفاً من الناحية الأخلاقية عند تناول القضايا، و أن أعود قليلاً إلى سجل التاريخ البعيد والقريب لتقريب الصورة وتجميع أجزائها وأبعاد ألوانها لكي تكون الصورة مكتملة بوضوح ويفهمها ويستوعب أبعادها شباب الجيل الحالي الذي لم يعش فصول الحكاية.
أبرز صور التاريخ هي أن هذه الحدود الجغرافية التي نسميها اليوم محافظة شبوة قام على تضاريسها الجغرافية عدد هام من الحضارات اليمنية القديمة هي مملكة حضرموت وعاصمتها التاريخية مدينة ميفعة (الحالية) التي تقع بالقرب من شواطئ بحر العرب وميناؤها الهام (قنا) وهو اليوم يحمل مُسمى ميناء بالحاف الذي يقع عليه أكبر ميناء لتصدير الغاز المسال في الجمهورية اليمنية، وللتذكير فحسب فإن ميناء قنا التاريخي كان أهم ميناء على الإطلاق في شبه جزيرة العرب وكانت البوابة الأولى لطريق الحرير الرابط بين أجزاء حواضر ومدن الجزيرة العربية وصولاً إلى موانئ غزة بفلسطين للانطلاق بعدها إلى شواطئ أوروبا، وكذلك مدينة شبوة التاريخية التي تقع على تخوم الصحراء على طريق الحرير التي تَزمع الصين الشعبية على إحيائه من جديد في أيامنا هذه.
وقامت على أرضها حضارات مملكة أوسان (عاصمتها مسورة – بوادي مرخة وعاشت بين 230 ق.م — 115 ق.م)، ومملكة قتبان (عاصمتها تمنع 500 ق.م)، والحضارة الحِمْيَرِية اليزنيون وعاصمتهم عَبدان وهي مدينة تقع بالقرب من مدينة نصاب الحالية.
لقد سجلت كُتب التاريخ في سجلاتها الموثقة بالخط اليماني الخالد خط المُسند وكتابات عبرانية عديدة بإشارات صريحة بأن القائد اليماني الحِميري العظيم/ سيف بن ذي يزن (516م — 574م) اختار أن يهبط في ميناء قنا التاريخي — (ما يعرف اليوم بميناء بالحاف وحصن الغراب في بئر علي) — بسفنه المحملة بالمال والعتاد والرجال القادمة من بلاد فارس، و حل لفترة من الزمان في قمم جبال ( كدور والكور الشبوانية) ليجمع القبائل من هناك مع من حضر معهم من رجالات الفرس الذين استعان بهم لتحرير العاصمة اليمنية صنعاء من الاحتلال الحبشي بقيادة أبرهة الأشرم، ولازالت آثار القائد الحِميري ونقوشه ومقابر جنوده شاهدة على قمم الجبال حتى يومنا هذا.
هذا الملمح التاريخي السريع لأهم وأقدم الحضارات اليمنية التي تفيض بها المراجع ومنقوشة في جبال ووجدان الإنسان اليمني في هذه المناطق، وإن حاول بعض المؤرخين اختزاله ودفن بعض فصوله إلا أنها لازالت حاضرة بشدة في مراجع التاريخ في اليمن وخارجه، كل ذلك لا شك بأنه سينقل شيئا منه إلى معالم حياتنا اليوم، وتحمّلها النفسية للإنسان في تلك التضاريس شديدة الوعورة والتطويع، فالإرث التاريخي ليس علامات تجارية يمكن تغييرها مع تغير ذوق المستهلك، إنها جزء من ثوابت الحياة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الشعب اليمني هو شعب واحد مُنذ فجر التاريخ وحتى هذه اللحظة ولا نقاش في ذلك، والشواهد والمعطيات التاريخية والدينية وبالذات الإسلامية تؤكد على ذلك، وتشير بأن مراحل التوحد الإداري والسياسي كانت هي الغالبة في مسيرة اليمانيين، أما حياة الفرقة والتمزق هو الاستثناء فحسب، لذلك ينبغي أن نؤكد هنا بأن التدخلات الأجنبية والمستعمرين المحتلين كان ولايزال هاجسهم الدائم المشترك هو في تقسيم الشعب اليمني، إذاً التقسيم طارئ والوحدة هي الثابت المستمر لقرون زمنية بعيدة.
لكن كيف انتصرت شبوة لليمن في ثلاثة مواقف ؟
أولاً :
مَن مِنا لا يتذكر ذلك التفاعل الاجتماعي والسياسي وحتى الحزبي قُبيل تحقيق الوحدة اليمنية المباركة في 22 مايو 1990م، والتسابق المحموم من قيادات الحزب الاشتراكي للبحث عن مخرج من ورطته التاريخية حينما تهاوى المعسكر الذي كان يستند عليه وهو انهيار المنظومة السياسية للبلدان الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، وكان (الاشتراكيون) يبحثون عن طوق نجاة (لدولتهم) وطرحوا مشروعهم السياسي لوحدة يمنية اندماجية وبصورة سريعة وعاجلة، بينما كانت قيادات المؤتمر الشعبي العام تطرح خيار الوحدة اليمنية وفقاً لقاعدة الفيدرالية وحتى الكونفدرالية، لكن كان للرفاق في المكتب السياسي شرطين حاسمين لتحقيق الوحدة هي:
الشرط الأول:
تحقيق الوحدة الاندماجية وبشكل فوري بين شطري اليمن وإلغاء أي مظاهر للتشطير بينهم.
الشرط الثاني:
مُغادرة وطرد فريق الرئيس الأسبق علي ناصر محمد أطال الله في عمره وكان عددهم خمسة من العاصمة صنعاء و من ضمنهم المناضل الوحدوي الكبير/ أحمد مساعد حسين، والمناضل الكبير/ عبدالله علي عليوة، ومن اجل اليمن ودولة الوحده القادمة فقد غادر الإخوة مدينة صنعاء.
ثانياً:
حينما تمرد عدد من الرفاق في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي على الشرعية الدستورية لدولة الوحدة اليمنية قام اليمنيون الاحرار جميعاً بمقاومة ووأد الانفصال، وكان لمحافظة شبوة وأبنائها من شيوخ القبائل ومن شخصياتها الوطنية دور مهم في حسم المعركة لصالح الوحدة اليمنية في 7 يوليو 1994م.
ثالثاً:
حينما أسست دولة الإمارات العربية المتحدة المحتلة لعدد من المحافظات الجنوبية والشرقية بما سُمي بالأحزمة الأمنية والنخب المناطقية وكذلك ما أُطلق عليه بالمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي، تضررت العديد من القبائل اليمنية و منها قبائل محافظة شبوة، وحينما قرر المجلس الانتقالي الانقلابي الانقضاض على البقية الباقية من مؤسسات الجمهورية اليمنية في عدن ولحج وأبين كان لهم ما أرادوا، لكن حينما غرّهم الشيطان ووسوس في عقولهم وركبوا شاصاتهم ومدرعاتهم بهوس وطيش متجهين إلى صحاري ووديان محافظة شبوة، كانت القبائل والشيوخ في حالة ذعر من هؤلاء ولَم يكن أمامهم خيار غير مقاومتهم وكسرهم لأن شبوة تعد بوابة اليمن ومن يسيطر عليها ربما ينجح في نقل المعارك والمشاريع الانقسامية إلى مدياتها البعيدة جداً، وكانت إرادة الله مقرونة بعزم الرجال الأشداء هي النقطة الحاسمة في صد وكسر زحف هؤلاء الانفصاليين الذين لا يحملون في جعبتهم ومشروعهم السياسي سِوى أمراض الكراهية والعنصرية والمناطقية النتنة ولهذا تم التصدي لهم ولمشروعهم وللقوى الإقليمية التي تود أن تزرع الفتن والمآسي بين أبناء الشعب اليمني الواحد.
بهذه المواقف الثلاث حسمت القبائل والمجتمع المدني الشبواني الأمر لصالح اليمن العظيم ووحدته الخالدة بإذن الله تعالى، والله اعلم مِنّا جميعاً.
وفوق كُلّ ذي عِلمٍ عَلِيم
رئيس مجلس الوزراء