قول المؤلف إنَّ آل الأحمر كانوا " فقراء عـــلــــــم" قــبل مشيختهم تنقصه الإحالة إلى ما قبل المشيخة
وقفات نقدية عن القبيلة والدولة في (قاموس العرف القبلي في اليمن)
> تعامل المؤلف مع تاريخ الإمامة بمنطق أيديولوجي لا بأسلوب الباحث العالم
> لم يكن عهد الإمامة مثالياً لكن شيطنته أزاحت الحقيقة واستبدلتها بمتخيلات الأذهان
محمد ناجي أحمد
بثلاثة أجزاء من القطع الكبير ،وبما يغطي (1211)صفحة طبع ببنط صغير وأسطر متزاجمة تجهد نظر القارئ ،وكان بإمكانه أن يتجاوز الـ(2000)صفحة لو طبع ببنط معقول –ذلك هو كتاب (قاموس العرف القبلي في اليمن) لمؤلفه الباحث أحمد الجبلي، والذي طبعه المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية –صنعاء –الطبعة الأولى 2019م.
هو عمل موسوعي ،لغوي واجتماعي ،أخذ جهدا وصبرا ومقدرة تجميعية وتحليلية ونقدية من المؤلف ،بما يذكرنا بالأعمال الموسوعية التي أنجزها علماء أخلصوا الجهد والغاية للمعرفة ،ليصنعوا ضوءا للقارئ ،ووضوح رؤية لطبيعة تكوين الأمم ،في أنساقها الاجتماعية والتاريخية المختلفة .
قليلون هم العلماء الذين يجمعون أكثر من طريق للمعرفة في تأليفهم لكتاب ما ،ومن هؤلاء الأستاذ أحمد الجبلي في هذا الكتاب المسمى (قاموس العرف القبلي في اليمن )فقد كان امتدادا لعلماء ومحققين جمعوا بين علم اللغة والاجتماع والانثروبيولوجيا والتاريخ في تأليفهم لكتبهم الخالدة، وأزعم أن كتاب (أحمد الجبلي ) آنف الذكر هو من هذه المؤلفات التي لا غنى للباحث وطالب العلم والمعرفة عن الرجوع إليها ،والاقتباس منها ،والتزود بها فإنها من خير الزاد الذي يثمر استكشافا ويقينا وحركة نحو المستقبل ،بمعرفة جذورنا وعلاقاتنا وعوائدنا نحو طموحاتنا.
يبدأ الكتاب بـ(تمهيد ) بلغ في حجمه نصف الجزء الأول، أي ما يقارب الـ(200)من مجموع الـ(407)صفحات التي هي عدد صفحات الجزء الأول من الكتاب.
و(التمهيد )هو كتاب مستقل بذاته كدراسة تحليلية ونقدية شاملة ،يذكرنا بـ(مقدمة ابن خلدون) من حيث الانجاز الذي أحال المقدمة إلى مؤلف بذاته يتصل بكتابـ(العبر ) ويتميز عنه في آن ،وكذلك شأن تمهيد (الجبلي ) الذي لو أطلقنا عليه اسم (التمهيد)لما بالغنا في التقريض.
ففيه من الإحاطة والشمول التحليلي والنقدي ،والمراجعات الشاملة والمستقصية للدراسات الاجتماعية المتعلقة بموضوع دراسته ما يجعل تقريضنا توصيفا لم يجانف عين الحقيقة ،مع تنبيهنا للعديد من مواضع الاختلاف مع الكتاب في يقينياته أو مواقفه الأيديولوجية التي قد يستسلم لها هنا أو هناك.
الإخاء بين العرف القبلي والإسلام:
يدرس المؤلف مادة الإخاء في العرف القبلي ،لكنني سأتوقف هنا عند هذا المفهوم في الإسلام ،وهو بالتأكيد يختلف في منحاه وتصوره وغاياته عن مفهوم (الإخاء)في العرف القبلي في اليمن. وقد نبه الكاتب إلى ذلك في تمهيده .
(الحبل) هو العهد والميثاق والحِلف الجامع للأمة ،على أسس القرابة والدين والجغرافيا والتاريخ والمشاعر والمصير ،دون الاعتصام بالحبل الرابط لهذه الأمة ينفرط وجودها ،وتتفرق أيديها ،وتتكالب الأمم على جغرافيتها، فيطول شتاتها أجيالا وأجيالا.
ففي كتاب (قاموس العرف القبلي في اليمن)الجزء الأول: “الحبل :هو الرس ،أي الحبل المعروف ،وهو أيضا العهد والذمة والأمان وهو الجوار، وكذلك التواصل والوصال (الزبيدي :”حبل “28/263)وبمعنى العهد والأمان ،يذهب بعض المفسرين للآية “واعتصموا بحبل الله جميعا” ولو أن الإمام الطبري يذهب إلى أن للحبل معنى عاما هو “السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة “(الطبري 1992:12/94)فكما هو واضح ،لا نعثر في العربية القاموسية على المعنى المقصود ،أي الحلف ،بل على المعنى العام (العهد)والذي من خلاله يمكن التوصل ،بكل حق ،إلى أن الحِلف من معاني الاصطلاح “حبل”ص65-قاموس العرف القبلي في اليمن.
والحبل “حبل الجوار” ومن هنا تكون التحالفات بين القبائل والشعوب برابطة الحبل ،ويكون جوار الله هو العهد والعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ومن معاني الحلف والاعتصام ،قوله تعالى ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ” أي أنهم حلف وعهد وميثاق واحد ،ومن هنا فإن ما ذهب إليه الأستاذ أحمد الجبلي من أن من معاني المؤاخاة “الحلف” دقيق اجتماعيا ولغويا .
لقد كانت المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين حلفاً بين جماعتين ،في إطار الانصهار في بوتقة واحدة هي المؤاخاة في المدينة ،كجزء من مبدأ عام قرره القرآن “إنما المؤمنون إخوة” أو ربما يكون خطوة تدريجية نحوه.
كانت المؤاخاة التي أجراها الرسول (ص)بين المهاجرين والأنصار ،بل بين العتقاء والأحرار-قائمة على أساس دعوته “تآخوا في الله أخوين أخوين” أي مؤاخاة فردية ،تهدف إلى بناء كيان أمة متلاحم ،مغاير للكيانات القبلية المبنية على العصبية، والانتصار للحليف ظالما أو مظلوما ،والرسول في نهجه هذا غايته بناء أمة أساسها الانتصار لمكارم الأخلاق ،لا الانتصار لنتانة العصبيات القبلية(الجاهلية)بما يحيل إليه مفهوم الجاهلية من نسق اجتماعي وقيمي وزمني مختلف، وإن تعايشت الأخوة الفردية والجماعية في الإسلام مع طبيعة المجتمع القبلي ،إلاَّ أن هذا التعايش كان بغرض التدرج والإحلال الزمني للقيم ،بدلا من الصدام المباشر مع التكوينات الاجتماعية المتجذرة آنذاك. ويمكن العودة إلى تناول المؤلف لموضوع المؤاخاة في تمهيده للكتاب في الصفحات 70-75.
إذا كانت المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين قد تمت قبل نزول قوله تعالى “إنما المؤمنون إخوة” وأبطل التوارث الذي يترتب على المؤاخاة –فإن ذلك يعد ارتقاء بمفهوم الأخوة من الأخوة بين الأفراد بالمعنى القرائبي والتوارثي ،لتصبح الأمة كلها قرابة واحدة ،وصلة رحم واحد هو “حبل الله” وعروته الوثقى.
يورد المؤلف أن المؤاخاة الفردية لم تنقطع بنزول آية “إنما المؤمنون إخوة” فبعض الروايات تذكر أن الرسول (ص)آخى بين العباس ونوفل في وقت متأخر جدا(ابن هشام :4/19،35) ص73-قاموس العرف القبلي في اليمن.
يبين المؤلف في كتابه آنف الذكر أن اختلاف مفهوم الأخوة في الإسلام وتميزه عن الحلف القبلي ،بقول “أما في المؤاخاة فلم نعثر على أي قسم ،ولا على أية طقوس جرت بين المتآخين. تختلف المؤاخاة عن الحلف القبلي من حيث المضمون .ولعله يكفي القول أن المؤاخاة كانت عقدا على الحق والمؤاساة والتناصر …مع امتلاء مفهوم “الحق” و”النصرة” و”التناصر” بمضمون لا يتطابق بمجمله مع مفهوم “الحق” بالمعنى الأخلاقي القبلي ،وإنما فيه من العناصر التي لا تتفق ،بل تتعارض بشدة والعرف القبلي “ص73-ج1-قاموس العرف القبلي.
“كان الحلف القبلي ،عموما علاقة عفوية ،بينما المؤاخاة علاقة هادفة واعية ترمي إلى تحقيق حياة أخرى وتصبو إلى آفاق اجتماعية مرسومة مبدئيا ..ذلك ما ميز بشدة المؤاخاة عن الحلف القبلي المعهود”ص74.
بيت الأحمر من “فقراء علم “إلى مشيخة العصيمات:
يورد المؤلف ما ذكره(سرجنت)من أن بيت الأحمر كان “فقراء علم”قبل أن يصبحوا مشائخ و”تهجرهم “حاشد،وهو ما توارثوه حتى اليوم.ص131-ج1-قاموس العرف القبلي ،لكن هذا القول تنقصه الإحالة لمرحلة ما قبل مشيختهم ،أي مرحلة ما قبل الشيخ “علي الأحمر”
فبحسب كتاب “عصر الاستقلال عن الحكم العثمان من سنة 1056-1160هـ يورد المؤلف حسام الدين الملقب بـ(أبوطالب )المتوفى سنة 1170هـ ،وتحقيق عبدالله محمد الحبشي 1990م – يورد العديد من الحوداث بحسب تسلسل السنوات .
وفي سنة 1121هجرية وجه الإمام بكيل بقيادة ابن حبيش وابن جزيلان لحرب حاشد وخراب حوث ،وكان على رأس العصيمات آنذاك الشيخ محمد بن عبدالله الغريبي عم علي بن قاسم الأحمر ،وبسبب اضطهاد الغريبي لعلي الأحمر ،وعدم إعطائه مما يناله من مال بيت الدولة فقد قام الأخير بخيانة عمه وساعد بكيل على شق بلاد العصيمات ،ثم أصبح علي بن قاسم الأحمر هو شيخ العصيمات ،وتحرك في سنة 1125هجرية من قِبَل المهدي لأخذ حبور وبلاد ظلمة ومحق علي الداعي عمله ،فقام الحسن بن القاسم صنو الداعي الحسين بن القاسم في دفعه ،فأضرب الأحمر عمّا أراد وآثر الرجوع .
وفي سنة 1140هجرية نكث علي بن القاسم الأحمر العهود التي كانت بينه وبين الإمام المنصور وطمع في الاستقلال من جهته بالحصون والبلاد ،فاحتال عليه الإمام المنصور الحسين بن المتوكل على الله وحين تحرك الأحمر برجاله إلى “عَصِرْ”خرج إليه المنصور وطلبه إلى خيمته،وقد رتب قتله ،فقام الأمير ذو الفقار بالقبض على فروته وطعنه بالجنبية “فما نطق بعدها بحرف من الخطاب إلاّ أنه قال :عاب عاب وخرّ صريعا ،وقد أمر المنصور عبده سلمان بقطع رأسه وأخذ المنصور الرأس بيد وقال لأصحاب الأحمر “هذا صنمكم…ثم إن أصحاب الأحمر أمعنوا بعد هذا في الهرب وحملوا جسد الأحمر معهم إلى همدان ،ثم أنفذوه إلى أهله بعد أن شفع في رأسه فردَّه إلى الجثمان”.
وبعد علي الأحمر كان شيخ العصيمات قاسم الأحمر ،فحين عادت بكيل بعد نهبها بلاد آنس وأطراف عتمة وريمة سنة 1156هجرية ،وانتهبوا ما ظفروا واستاقوا حريما فتفادى أهلهن بمال جزيل ،وحين مروا أثناء عودتهم من أرض لقاسم الأحمر كمن لهم مع رجاله يريد أخذ ما معهم من الأموال فراح في هذا الاقتتال على المنهوبات 165من حاشد و30 من بكيل ،وجملة القتلى 280نفسا .
فمن مقتبسنا من كتاب(أبو طالب)وهو يتحدث عن أحداث وتمردات القرن الحادي عشر والثاني عشر الهجري نجد أن يشير إلى وصول الشيخ علي الأحمر عن طريق خيانته لعمه ،شيخ العصيمات محمد بن عبدالله الغريبي،بأن ساعد بكيل على شق بلاد العصيمات !
ومن هذا المقتبس نجد أن ما ذكره (أحمد الجبلي ) في كتابه (قاموس العرف القبلي )ج1-في وصفه لمقتل الشيخ علي قاسم الأحمر بأنه (عيب أسود )ويعدد ثلاثة أسباب لجعله عيبا أسود ،ويذكر منها أن الشيخ علي الأحمر كان وسيطا بين الإمام الناصر (محمد بن إسحاق )والإمام (المنصور)حسين بن القاسم ،فحين طلبه الإمام المنصور للمجيء من مكان تخييمهم في عصر غرب صنعاء وكان مع الأحمر النقيب جزيلان –طلبه إلى خيمة قد أعدت لقتله ،ثم أمر ذو الفقار بقتله …والحقيقة كما بيناها في مقتبسنا من كتاب (أبو طالب ) القريب من أحداث تلك المرحلة –أن الإمام المنصور قتله غدرا لنكوث علي بن قاسم الأحمر للعهود التي كانت بينهم.
لا يوجد تاريخيا ما يشير إلى أن الشيخ علي قاسم الأحمر كان شيخ مشائخ حاشد ،وإنما انتزع مشيخة العصيمات بالطريقة التي ذكرناها سابقا ،فلقد كان في حاشد بذات مكانة النقيب جزيلان في قبائل ذي محمد ،والنقيب بن حبيش في سفيان،على عكس ما ذهب إليه مؤلف قاموس العرف القبلي في ص297-ج2-من أن علي الأحمر المتوفى عام 1727م كان شيخ مشائخ حاشد.
منطق المؤلف مع تاريخ الإمامة :
لكن صاحب كتاب (قاموس العرف القبلي في اليمن) تتغلب عليه صفة الأيديولوجي على العالم كلما تناول في كتابه هذا (الإمامة ) فبدلا من دراستها وفقا لشروطها وزمنها وطبيعة الأنظمة الإقطاعية وشبه الإقطاعية المجايلة لها ،نجده من منظور مدرسي يشطنها كعادة غيره من الذين تضلهم الأحكام الجاهزة عن البحث الموضوعي ،فالباحث لو درس الإمامة من ذات المنطلق الموضوعي والعلمي في دراستهم للقبيلة وأعرافها لكان قد أعفى نفسه من هذه المنزلقات المدرسية التي تشربتها الأجيال كخطاب لسردية منتصرة ،لا ترى في السردية المهزومة إلى ضلال وظلام دام ،بل ونظام لا شبيه له في التاريخ ؛أي فوق تاريخي بأبلسة معيبة وحاجبة من وجهة نظري .
فالمؤلف يرى أن “الأئمة لم يؤسسوا دولا وإنما كانوا حكاما للنهب فقط .. “ص133-ج1. وفي هذا تعميم يخل بالعلمية والاستقراء التاريخي لحكم الأئمة.
يرى المؤلف أن الإمام يحيى بن محمد حميد الدين هو أول من قام بالتوريث عن طريق أخذ البيعة لولاية عهده علنا ،ومعلنا تحويل الإمامة إلى مملكة ،مخالفا بذلك كل من سبقه –ص137-ج1.وهذا قول تنقصه الدقة التاريخية ،فالإمام محمد بن أحمد بن الحسن (صاحب المواهب )كان ملكا لا يمتلك شروط الإمامة ،وقد بنى ملكه وطقوس حكمه بل وأراد توريثه لولا خروج المنصور عليه ،ووفاته في قصره محاصرا.إضافة إلى أنني أعتقد أن سيف الإسلام أحمد أخذ الإمامة بحجة الثأر لأبيه من قتلته الذين قاموا بحركة 1948م بعد أن دبروا كمينا للإمام يحيى وقتلوه ومعه العمري وأحد أحفاده وسائق سيارته ،في منطقة (حزيز)جنوب صنعاء ،والقول بأن الإمام يحيى عين ابنه أحمد لولاية العهد يحتاج إلى وثيقة التعيين ،والتي لم أطلع عليها بحدود قراءاتي حتى اليوم.
يمتدح المؤلف في كتابه تفكير الأحرار ،وما دار بينهم من حوار داخل أسوار سجن حجة ،بعد اعتقالهم إثر سقوط حركة1948م “وبالذات المقترح الذي كان قد عرضه بعضهم وفحواه أن يولي المعارضون لحكم “الإمامة “اهتمامهم شطر “اليمن الأسفل “أي منطقة إب وتعز ،لإقامة الحكم الجمهوري هناك،وذلك لكي يكون النظام الجمهوري منارة سياسية مضيئة تجذب إليها القبائل في المرتفعات الشمالية ،فتساعد في القضاء على نظام “الإمامة” والمؤلف “أن هذا الاقتراح الجريء ما كان له أن ينبثق لولا التفكير السياسي الحر المنفتح دون أية قيود أيديولوجية”وطنوية”تخشى النقد الذي لربما تلاقيه هذه الفكرة من قبل من قد يذهب به تفكيره السياسي إلى اتهام أصحاب الاقتراح بالانفصالية وتمزيق البلاد ،و/أو المذهبية والسلالية إلى غير مثل هذه الاتهامات المتسمة بالسذاجة السياسية،إن لم يكن تتسم بسمات أخرى”ص139-ج1.
والحقيقة أن مفهوم بناء نظام جمهوري لم يتسلل إلى أذهان الأحرار اليمنيين إلى في عام 1955م وبتأثير متأخر من ثورية 23يوليو يطمح 1952م ،في حين أن المفكر عبدالله باذيب كان منذ بداية الخمسينيات،أي بعد ثورة يوليو إلى إقامة نظام جمهوري في اليمن، في وقت كان الأحرار في سجون حجة يبايعون إبراهيم بن علي الوزير إماما لهم ،وهو بعد لا زال بين الطفولة والمراهقة !أي في سن 12أو 13سنة من عمره!فعن أي تفكير سياسي حر ومنفتح يتحدث المؤلف ،إلاَّ إذا كانت الهويات الضيقة قد أصبحت منفتحة على مختلف الأوهام!
ينسى المؤلف أو يتناسى موقف الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني،بعد قيام جمهورية 5نوفمبر ،واشتداد حصار السبعين يوما من ديسمبر 1967م وبداية عام 1968م،أنه أقنع أصحابه النوفمبريين بالاعتراف بجمهورية اليمن الجنوبي الشعبية ،بحجة أن تعز والجنوب ستكون حاضنتهم لو سقطت صنعاء بأيدي الملكيين ،وينسى كذلك موقف الإرياني بعد قيام ثورة سبتمبر ،أي في عام 1964م حين تمت إقالة محافظ تعز أمين عبد الواسع نعمان ،وتم تعيين الشيخ مطيع دماج بدلا عنه ،فقد احتشد وجهاء محافظة تعز رافضين الإقالة والتعيين ،مهددين بإقامة حكم مستقل في اليمن الأسفل ،ومما يؤكد أن خيار الأحرار وهم في سجون حجة بإقامة حكم مستقل عن الإمامة في اليمن الأسفل أنه كان بدواعي النفعية المؤقتة والضرورة ،ولم يكن خيارا مصيريا يؤمنون به –هو استنفارهم وفي مقدمتهم الإرياني وحسن العمري والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر لتحريك قوات مسلحة من الجيش للنزول إلى تعز وضرب التمرد، ،ويحددها القاضي الإرياني في الجزء الثاني من مذكراته الصادرة عن الهيئة المصرية العامة –ج2-2013م-بأربعمائة جندي ،وأن المقدم صفوت محمد عبدالله ،القائد العربي بتعز هدد بأن القيادة العربية لن تقف مكتوفة الأيدي ،وهنا يدين القاضي الإرياني ،القيادة العربية بتعز بأنها تعمل على تشجيع النعرات الطائفية ص193-194-مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني –الجزء الثاني ،ووقد كان التحرك للجيش من صنعاء إلى تعز لضرب احتشاد وجهاء تعز سيتم ،لولا موقف القيادة العربية ،وتهديدهم!
يروي المؤلف (أحمد الجبلي ) في الجزء الثاني من كتابه هذا ،نقلا عن الأكوع “أن الإمام محمد بن يحيى كان شديد القسوة حيال من يتعاون مع العثمانيين ،أو يسالمهم،فكان يأمر باغتيالهكما حصل مع القاي محمد جغمان ،او يأمر نسف بيوتهم “وإذا قيل له :إن البيوت التي يأمر بنسفها فيها أطفال ونساء يقتلون وليس لهم ذنب ،فكان يجيب على القائل ،كما أخبرني العلامة حمود بن عباس المؤيد ،نقلا عن أبيه الذي سمع المنصور : الصغار في الجنة والكبار في النار”(الأكوع 1995م:3/1695) ص20-ج2-قاموس العرف القبلي في اليمن. وفي رأيي أن إسماعيل الأكوع لا يؤخذ بروايته عن الأئمة ،لأن موقفه المنحاز ضدهم يجعله غير عدل في طرحه وفيما يرويه عنهم .فبالنسبة للشدة التي كان يتعامل بها الإمام محمد بن يحيى حميد الدين مع من يتعاون مع الأتراك ضد المقاومة اليمنية فقد كان في ذلك صارما ،سواء تعاون معهم بالخطب واللسان كما هو حال القاضي محمد جغمان ،أو تعاون معهم بالقتال والمال ،فقد كان يرسل إليهم من يغتالهم ،وإن كانت المحاولة لم تنجح مع القاضي جغمان ،إلا أنها أصابته بالرعب ،مما دفعه للصمت وعدم التحريض ضد المقاومة التي يقودها الإمام محمد بن يحيى.وأما بالنسبة لنسف البيوت وفيها أطفال ونساء فليس هناك مرجع تاريخي معاصر لتلك الأحداث روى ذلك،وما روي هو اعتمد الإمام محمد حميد الدين في حروبه التحريرية ضد الأتراك على كافة الوسائل المعروفة في حروب التحرير ،فقد جمعت استراتيجيته بين وسائل حرب العصابات ،وبين حرب الجيوش النظامية ،حتى يجعل القوات المعادية قلق وإرباك وحركة دائمة ،لا يستقر لها قرار .ص102- كتاب سيرة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين المسماة بالدر المنثور في سيرة الإمام المنصور –لمؤلفه علي بن عبد الله الإرياني .
شملت حرب العصابات :قطع الطريق على قوات الأعداء ،ومنع وصول المواد الغذائية ،واللحوم ،والذخيرة ،سواء من البر أو البحر ،وقطع التلغراف ،ولجأت القوات الإمامية إلى دسِّ القنابل المتفجرة ،وفتائل البارود لإحراق المراكز العثمانية ،والتسلل إلى أماكن العدو ومرتزقته ،كما حدث حين نجح أحد رجال الإمام “في التسلل إلى سمسرة تعود إلى صاحب وُعلان ،علي يحيى –الذي بات فيها محمد بنُحسن بن صلاح فايع ،مدير سنحان من قبل الأتراك ،وصحبته جماعة من عُقال وُعْلان وضبطية وأتراك –حيث أظهر الرجل أن ما يحمله حماره هو وقرُ حبٍّ،وفي حقيقة الأمر كان وقر بارود ،ومن ثم نسف السمسرة على ما فيها ،حيث هلك 35 رجلا ،وما في السمسرة من دواب -بغال وغيرها- تعود إلى الأتراك وأعوانهم “ص105- كتاب سيرة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين المسماة بالدر المنثور في سيرة الإمام المنصور –لمؤلفه علي بن عبد الله الإرياني .
أجاز الإمام المنصور محمد حميد الدين لأتباعه الفتك بأعوان الأتراك والذين يغدرون بقواته ،حيث استند على فتوى تُبيح قتل المُضِرِّ من أعوان الظلمة.”بالإجمال ،فإن القوات الإمامية اتخذت مبدأ إيجاد القاعدة الآمنة لتنطلق منها في مهاجمة القوات المعادية ،لتجبر القوات العثمانية على الحركة الدائمة ،تثير الغبار من تحت أقدامها دوما ،لا تترك لها مجالا للاستراحة أو تعطيها الفرصة لإعادة تنظيم وجمع صفوفها “ص107- كتاب سيرة الإمام محمد بن يحيى حميد الدين المسماة بالدر المنثور في سيرة الإمام المنصور –لمؤلفه علي بن عبدالله الإرياني .
ويورد المؤلف ،نقلا عن الأكوع ، إن الحسن بن يحيى علي القاسمي الضحياني ،دعا لنفسه بالإمامة من هجر’”فللَّة”في ربيع الأول سنة 2332هـ،وتلقب بـ”الهادي”معارضا للإمام يحيى حميد الدين الذي كان قد دعا لنفسه بالإمامة أيضا في “قفلة عِذَر” بعد وفاة والده “المنصور “كانت قد استجابت لـ”الهادي ” معظم قبائل بلاد صعدة “ص124-ج2-قاموس العرف القبلي في اليمن. وأن سيف الإسلام أحمد بن القاسم حميد الدين قد طلبهما للاجتماع في صعدة للمناظرة أمام جمهور كبير من العلماء ،فمن كان أعلم بايعه الآخر ،وطلب منهما إرسال رهينتين عنهما حتى يلتزما بحكم العلماء ولا يخرجا عنه ،فأرسل الإمام يحيى نجله الأكبر أحمد ،ثم قدم الإمام يحيى بعد ذلك بنفسه على رأس نفر من العلماء إلى صعدة ،وكلف من يوعز إلى “الهادي “الضحياني “بأن الإمام يحيى قد أرسل من يقتله ،وهو في طريقه إلى الاجتماع ،ولذلك تخلف “الهادي ” عن الحضور ،ولما لم يحضر فإن العلماء الحاضرين هذا الاجتماع الحاسم قرروا اختيار الإمام يحيى ،لأنه أنهض بالأمر .ص125-ج2-قاموس العرف القبلي ،نقلا عن( الأكوع 1995:1/522)والغريب أن هذه الحكاية التي تم تداولها لا تستقيم عند النقد ،فكيف تبايع معظم قبائل صعدة “الهادي ” الضحياني ،ثم يعجز عن توفير أمنه الشخصي في مكان المناظرة ،التي هي صعدة ،موطن القبائل التي بايعت الضحياني !
لقد أطنب المؤلف في محاكمة الإمامة وإدانتها ،كلما وجد سانحة لذلك،رغم أن موضوع الكتاب عن العرف القبلي في اليمن ،وإن كان حديثه عن الإمامة طبيعيا في سياق دراسة وبحث علاقة الإمامة بالقبيلة ،والشرع بالعرف ،إلا أن الذهنية الأيديولوجية التي قررت مدرسيا أن تشيطن تاريخ الإمامة ،تعمل على إزاحة الحقيقة بما أنها مسار داخل التاريخ ،فتحل بدلا عنها صورة ليست كلها موضوعية بل متخيلات الأذهان ،من ذلك ما رواه المؤلف في الجزء الثالث من الكتاب ،عن فساد القضاء،موردا حكاية شائعة ،عن تعيين الإمام يحيى أحد القضاة ،وحين اشتكى القاضي من قلة راتبه “فما كان من “الإمام “إلاَّ أن أشار له بما معناه أن “يتصرف “أي لا يلتزم بما ينبغي للقاضي أن يتحلى به من أمانة وصدق…”ص118-ج3-قاموس العرف القبلي، وهكذا يتم الاستناد إلى مثل هذه الحكايات الشائعة ،بغرض الشيطنة المطلقة لحكم الأئمة ،والنظر إلى ذلك التاريخ على أنه كان نموذج الظلم المطلق !مع أن هناك العديد من الحكايات الشائعة ،والمحققة عن عدل ونزاهة أكثرية الحكام والعمال في عهد الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، لا يتم لا يتم الالتفات إليها ،لأنها لا تساعد على شيطنة ذلك التاريخ !
إن فتاوى قتل المتمترس بهم في الحروب من الأطفال والنساء والمستضعفين نجدها تتواتر في التاريخ الإسلامي ،ولعلَّ آخرها ما قاله الدكتور عبدالوهاب الديلمي ،في حرب 1994م حين كان وزيرا للعدل ،وقد استشهد بفتوى جواز قتل المتمترس بهم ،لكننا لم نجد فتوى للإمام محمد بن يحيى تجيز قتل الأطفال والنساء كتلك التي رواها الأكوع آنفا .
وهذا لا يعني أن حكم الأئمة كان حكما مثاليا ،أو نظاما للدولة الفاضلة ،فهو بالتأكيد كان جزءا من نظام الحكم الإقطاعي وشبه الإقطاعي والخراجي في المنطقة العربية ،لكن نقده ينبغي أن يكون وفقا لشروط تاريخيته ،وظروف بيئته ،زمانا ومكانا ومعتقدات وأعرافا.
استخدام وتحريض القبائل ضد بعضها ليس سمة محتكرة بحكم الأئمة ،ولكنه آلية حكم وسيطرة ،استخدمها الحكام القبليون في حضرموت “ومن الجدير بالذكر أن حكام تلك الكيانات السياسية،أو بعضهم على الأقل كانوا يلجأون إلى استثمار الصراعات القبلية لتثبيت أركان حكمهم “ص149-ج2-قاموس العرف القبلي في اليمن، فذلك هو ديدن الصلحيين والأيوبيين والرسوليين والطاهريين ،والاستعمار العثماني والاستعمار البريطاني في اليمن ،وكذلك هو شأن النظام الجمهوري في الجمهورية العربية اليمنية في الأربعة العقود الماضية.
يتميز المؤلف بالتخفف من الأحكام الضدية والعدائية بعموميتها ضد القبيلة ،ليدرسها في سياقها القيمي والاجتماعي ،في حين أنه يتخلى عن هذه الروح في تناوله لنظام الإمامة في سياقها القيمي والتاريخي ،فمن استشهاداته نحو عن إجارة القبيلة يورد المؤلف موقف الشيخ (عاطف المصلي )حين أجار الإمام محمد البدر وساعده على الهرب بعد فراره من قصر البشائر الذي ضربته مدافع ثوار 26سبتمبر 1962م ،ففر باتجاه همدان ،وحين طُلب الشيخ (عاطف المصلي )إلى قيادة الثورة في صنعاء وسألوه عن فعله أجاب ” بما معناه أنه قام بذلك “بحق القبيلة” أي وفق القيم القبلية في “الجوار” ولم تأخذ قيادة الثورة بتبريره ،بل اعتبرته “خائنا “وحكمت عليه بالإعدام ،و”أعدمته فعلا”ص174-ج1-قاموس العرف القبلي..
ويكرر المؤلف قصة إجارة الشيخ (المصلي) مرة أخرى في صفحة184-185،بتفصيل أكثر”أنه عندما وصل البدر إلى موقع ضلاع همدان القريب من صنعاء –كما شرح لي ذلك في كهف القارة –محل شيخ همدان قدم له عاطف المصلي المساعدة بحق “القبيلة “مع أنه “المصلي “”مثور” (أي ثائر جمهوري)كبير ،كما قيل لي .مكث البدر ساعة مع عاطف المصلي ،ثم أعطاه قراش وتجهيزات وثلاثين عسكريا، ليستمر في طريقه ،وعندما جاء عاطف إلى صنعاء سأله الضباط :”لماذا ساعدت البدر ؟رد عاطف بأنه كان مرغما على فعل ذلك بحق القبيلة ،فقتل عاطف بإطلاق النار عليه في ساحة التحرير ،فما كان من ابنه محمد (الذي قابلته في رداع عام 1983م إلاَّ الاصطفاف مع البدر “ص185،ولا أدري كيف للمؤلف أن ينساق مع ما قيل له من أن (عاطف المصلي)”مثور” (أي ثائر جمهوري كبير) دون أن يستقصي البحث عن “ثورية” (عاطف المصلي )مكتفيا بإيراد ما قيل له من ابنه (محمد عاطف المصلي )الذي انضم لجبهة الملكيين في الصراع ضد الجمهورية!
ويستشهد المؤلف في موضوع تمسك القبيلة بأعرافها بإجارة رموز العهد المتوكلي “أنه في البدايات لعهد الجمهورية طالب الجمهوريون قبيلة الأهنوم بتسليم السادة ،والرسميين منهم على وجه التحديد ،إلاَّ أن الأهنوم رفضت قائلين “لنا فيهم هجرة” وردوا هجمات الجمهوريين”ص184-ج1-قاموس العرف القبلي.
روح ابن علوان تسري في الجسد اليمني:
يلاحظ على المؤلف أنه لا أثر لوجود “المنصب “أي القيادة الدينية الصوفية بصفته واحداً ممن يصنعون القرار مع الزعامة القبلية، وذلك في مناطق قبائل ردفان ويافع والضالع والحواشب وسلطنة العبدلي ،على عكس بعض المناطق التي كان للقيادة الدينية شراكتها في القرار والأمر” ..من الملاحظ هنا أن لا أثر لوجود “المنصب “بصفته واحداً ممن يصنعون القرار مع الزعامة القبلية ،ولو أن الولاء لقبائل ردفان كان للصوفي الشهير أحمد بن علوان ،الموجود ضريحه في محافظة تعز .”ص157-ج1-قاموس العرف القبلي.
ويبدو لي أن السلطة الروحية لـ(أحمد بن علوان )قد امتدت من تعز إلى العديد من المناطق اليمنية منذ القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي ،فلقد عاش ابن علوان في النصف الثاني من العهد الأيوبي ،وخمسة وثلاثين عاما من العهد الرسولي، وفي عهد الملك عمر بن علي رسول كانت رسالته التي وجهها لملك ،وفيها وعظ وزجر ،كقوله مخاطبا الملك” ولايستغرق جهلك عقلك ،أو يستفرغ وقتك شغلك بجمع هذه العاجلة عن الآجلة “واختتمها بقصيدته المشهورة ،التي يقول فيها :
هذي تهامة لا دينار عندهم ولحج أبين بل صنعاء بل عدن
فما ذنوب مساكين الجبال وهم جيران بيتك والأحلاف والسكن
والأضعفون فما يقتات أجزلهم إلا بما جرت المسحات والحِجَنُ
ومن خلال استعانة الأئمة بقبائل تلك المناطق لإخضاع منطقة الحجرية ،ومنها “يفرس” التي يوجد فيها ضريحه ،ففي القرن الثاني عشر للهجرة كما يذكر (أبو طالب) :” وفي سنة 1158هجرية استدعى أحمد المتوكل في تعز أهل يافع وعلى رأسهم سلطان يافع قحطان بن معوضة العفيف وأخوه أبو بكر والمفلحي ،ووجههم لقتال الحجرية التي كانت بقيادة أحمد بن وهيب وابنه عبد الرب ،فانتهت الحملة بمقتل قحطان وأسر أخيه أبو بكر، وقد هزمت يافع في منطقة “الغرس “ما بين تعز ويفرس .
وقد حدثت مواجهات بين أحمد المتوكل وأحمد بن وهيب بجبل صبر انتصر فيها ابن وهيب على عامل تعز أحمد المتوكل الذي كان وقتها قد خلع بيعته للإمام المنصور .” أبو طالب –مرجع سبق ذكره.. ولم تكن هي المرة الأولى التي تختلط فيها قبائل يافع مع قبائل الحجرية حربا وسلما ،فقد سبق للعثمانيين في احتلالهم الأول لليمن أن استخدموا تلك القبائل في حروبهم وإخضاهم الحجرية، ونجد تفاصيل ذلك في الأحداث التي يسردها (الموزعي ) التي جرت في القرن العاشر الهجري ،في كتابه ( الإحسان في دخول مملكة اليمن تحت ظل عدالة آل عثمان)تحقيق عبد الله محمد الحبشي-منشورات المدينة-صنعاء-1986م.
العرف القبلي وتأثيره على الحضر:
مما أورده المؤلف بهذا الشأن قوله “في سياق الحديث عن العرف القبلي وتأثيره على الحضر ،لابد من لفت الانتباه إلى أن العلاقة بين القبيلة والمدينة ينبغي أن ينظر إليها على خلفية أنظمة الحكم التي كانت سائدة والتي كانت تتسم بالظلم والجور الشديدين بحق أبناء الشعب في مختلف مناطقه، وقد رافق ذلك تشويه بليغ بين أنظمة الحكم وأبناء الشعب ،فاتخذ صيغا ومسارب عديدة :مذهبية ،ومناطقية ،قبلية ،وغيرها …ومنها العلاقة المشوهة بين الريف والمدينة ،سواء أكان هذا الريف ممثلا بالقبيلي أم بغيره”ص191-ج1-قاموس العرف القبلي..
وأنا أرى أن تفسير وتعليل الصراع بين القبيلة والمدينة يعود بشكل رئيسي إلى عوامل اجتماعية ،واختلاف أنماط الإنتاج المديني والقبيلي ،فحين يسكن أبناء القبائل في المدن تظل هذه الأعراف متمكنة وحاكمة لسلوكهم، ففي سبعينيات القرن العشرين أتذكر في تعز ذلك الصراع المناطقي بين حارة الجحملية وحواري وحافات المدينة القديمة ،بل كان صراعا في أحد أوجهه بين القبيلي المتبندق ،كعسكري في الدولة ،وأغلبهم كانوا من بني حشيش ،وبني بهلول وبني مطر وغيرها من مناطق قبائل الشمال ،سكنوا في حارة الجحملية السفلى والعليا ،وتزوجوا من نساء( صبر ).. كانت المعارك بين حارة الجحملية والمدينة بالأيدي والصمويل (جمع صميل)والأدوات الحادة هي السمة الغالبة في تلك المعارك ،بما يشي بعصبية ممزوجة قبلية ومناطقية ،تختلط فيها روح العصبية القبلية بعصبية الحارة والحافة، فأبناء المدينة في تعز أو إب يرادفون بين العسكري والقبيلي ،وينظرون إلى حارة الجحملية وكأنها قبيلة ومعسكر في آن،ولم تتلاش هذه الظاهرة الاجتماعية إلاَّ مع النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين ،وكان للاغتراب ،أي الانشغال بالعمل في المهجر والتعليم دوره في إذابة هذه العصبيويات داخل المدن.
يرى القبيلي بحسب ما ينقله (أحمد الجبلي ) في مؤلفه هذا ،نقلا عن (عدرة)”أن القبيلي (في شمال البلاد)هو مزارع ومحارب في نفس الوقت ،ولذا فهو يٌطعِم فئتي السادة والقضاة ،وبني الخُمس، وهو من يحميهم ،ويميز القبائل أنفسهم بالانتساب إلى القبائل القحطانية ،وبدورهم التقليدي كمحاربين ،وبسكنهم في الريف ،مقابل سكان المدن والبلدات التي يسكنها السادة والقضاة وبنو الخمس”ص191-ج1-قاموس العرف القبلي…
الإمام يحيى وسلب المشائخ سلطاتهم:
عمل الإمام يحيى منذ بداية عشرينيات القرن العشرين على سحب صلاحيات وسلطات المشائخ ،بأن أرسل عاملا وحاكما وكاتبا لكل قضاء ،ما جعل المشيخ دون وظيفة فعلية تمس الناس ،ولعل ما أشار إليه المؤلف (أحمد الجبلي) من أن علي الوزير أمير تعز قد أنشأ ما يسمى بنظام “الأمين” ليقوم مقام الشيخ بالنسبة لعلاقة المواطن بالدولة ،وهو ينقل ذلك عن الوزير المحقق “ولكنه أبقى للمشائخ وجاهتهم الاجتماعية ،وأبقى أيضا حصة معينة من حاصل الزكاة مقابل شل أيديهم من أي تصرف يمس المواطن مباشرة أو غير مباشر (الوزير :129)ولكني لم أجد ما يؤيد هذه المعلومة في أي مصدر أو مرجع متاح لي”ص235-ج1-قاموس العرف القبلي…
أظن أن ما قاله المحقق الوزير هو الصحيح ،لكن بتسمية مختلفة “عدل القرية” وليس الأمين ،فقد كان جدي (محمد سعيد عبد الله) أخو جدي (أحمد سعيد )عدلا لـ(نباهنة )عزلة (قدس)ناحية (المواسط) قضاء الحجرية-يقوم بوظيفة جمع الزكاة ،وتمثيل النباهنة لدى الدولة ،فقد طلبه الإمام أحمد إلى المقام في تعز لمحاسبته عن زكاة النباهنة …أما عقود الزواج والبيع والشراء فلم تكن من اختصاصات (عدل القرية ) بل من اختصاص الفقهاء والقضاء .
السيد والعربي:
في أكثر من موضع من كتاب (قاموس العرف القبلي في اليمن)يقف المؤلف متسائلا أحيانا ومحتملا أحيانا بأن “شريف وعربي “أو “سادة وعرب” حين ترد “فكأنها” تعني أن الشريف ليس بعربي ،ويورد شواهد عديدة على ذلك في ص268-ج2.. ولو عاد المؤلف إلى ما كتبه المفكر علي الوردي ،حين ناقش مفهوم العرب والبدو والحضر في كتابه عن ابن خلدون ،لوجد أن لفظة “عربي” يقصد بها أحيانا “البدوي” وليس المعنى المتعارف عليه في أيامنا ،وفي التراث اليمني فإن التمييز من وجهة نظري بين السادة والعرب هو تمييز بين شريحة السادة وشريحة القبائل، فالعربي مرادف للقبيلي ،تمييزا له عن بقية الشرائح من سادة و(بني الخُمْس ،الثلث ،الطرف ،القرار، المساكين ،الضعفاء)
فإيحاء المؤلف بأن السادة ليسوا عرباً في تساؤله عن خروج السادة من دلالة العربي في التقسيم الاجتماعي هو إيحاء خاطئ ،فلقد استخدم ابن خلدون مصطلح(العربي)في (مقدمته)بدلالات منها ما يقابل العجم ،ومنها ما يقابل البدو ضمن ثنائية البدوي /الحضري، وكذلك كان التعداد السكاني في عشرينيات القرن العشرين في عدن إبان الاستعمار البريطاني يقسَّم السكان إلى :هنود وصومال وعرب ويهود، والمقصود بالعرب الذين ينتمون إلى اليمن وسوريا ومصر وغيرها من البلدان العربية ،أي العرب في مقابل الجنسيات الأخرى.
ومن هنا فإن التمييز الاجتماعي في اليمن للسادة والأشراف عن العرب يقصد به تمييزهم عن القبائل ،لا توصيفهم بأنهم عجم ،فالمصطلحات والمفردات تأخذ معانيها من سياق العبارة ،والعبارة تأخذ دلالاتها من السياق الاجتماعي والزمني الذي قيلت فيه.
يذكر المؤلف في الجزء الثالث من الكتاب في مادة (عرب) نقلا عن دريش عن جرهولم” أنه في الجبال الغربية يسمى أهل المدن هناك “عَرَب” وهم يدَّعون غالبا أنهم كانوا قبائلا، ويبدو أنه يعترف بهم باعتبارهم منفصلين تماما عن أولئك الذين ليس لهم تماما لاشرف ولا أصول”(دريش 1993:154 الحاشية(22)وانظر “سيد”)ص14-ج3-قاموس العرف القبلي في اليمن.
الدوشان /الإعلامي:
من وظائف الدوشان -وهو من بني الخمس أي المستضعفين الذين لا يحملون السلاح ، ويعطون من خمس الغنائم- القيام بوظيفة الإعلامي في نشر الأخبار على الملأ ،فعندما أراد النقيب يحيى أبو عروق –وهو أحد نقباء خميس آل أحمد بن كول من ذي محمد –التبرؤ من الإمام القاسم ،”أمر “الدوشان ” أن ينادي بـ”ظاهرة ” في السوق توضح تخليه عن مسؤولية الدفاع عن الإمام القاسم وأتباعه “ص232-ج1-قاموس العرف القبلي.
حكاية مثل:
“من غرائب الحكم العرفي بالعوالق أن الحاكم العرفي حديج بن حسين الجارضي كان في بيته عندما جاء خصمان ادعى أحدهما أن الآخر عضه بأسنانه ،وادعى الثاني أن الآخر رمحه برجله ،فلما فرغا من الدعوى والإجابة بينهما قال الحاكم بالبديهة :العضة بالرمحة ،وقرشين لحديج ،فذهبت مثلا في إهدار الحدود وتغريم الخصوم”ص182-ج1-قاموس العرف القبلي.
نخيط برطي :
نقتبس من الكتاب ما ذكره المؤلف عن مادة :برط .البريط :هو الإبراق والإرعاد بالكلام (النخيط) وقد اشتقت اللفظة –كما يذهب الإرياني –من طريقة أهل برط في الحديث المليء بالفخر والاعتزاز ،ويراد بها التفكه ،وسكان جبل برط هم “ذو محمد “بن غيلان و” ذو حسين “بن غيلان” ولعل “ذو حسين “هم أول من تفكه على إخوانهم “ذو محمد” بأهزوجة يترنمون بها ،موضوعة على لسان أحدهم من “ذو محمد” يرويها بفخر ،وليس بها من الفخر ،بل هي ضرب من “البريط” إذ يقول:
إحنا عشرة من “ذو محمد”
لقينا قُمْعِثي من “ذو حسين”
هاشنا وهشناه
مننا ومنه
قتل مننا واحد بقينا تسعة
وحنا تسعة من “ذو محمد”
لقينا قمعثي من “ذو حسين”
هاشنا وهشناه
مننا ومنه
قتل منا واحد
بقينا ثمانية من “ذو محمد”
لقينا قمعثي، إلخ
وتستمر الأهزوجة إلى أن يبقى واحد:
ما زاد بقي إلا أنا
ومن شجاعتي وقحامتي
تِربّعْتِه ودخلت من بين ارْجلِهْ
أي أنني توسلت إليه واستجرت به ربيعا ،وزيادة في التعبير عن خضوعي له دخلت من بين رجليه”ص256-257-ج1-قاموس العرف القبلي-نقلا عن الإرياني :مادة “برط”65-66.
أيام السلام في العرف القبلي في جبل( برط):
“أيام السلام :في جبل “برط” ثمة عشرة أيام يمنع فيها العدوان فيما بينهم مهما كانت القضية ،حتى وإن كان بين الطرفين ذحل(قتل)حتى ولو كان من عنده الذحل منفردا وسنحت لغريمه الفرصة لقتله ,وإذا حصل القتل في هذه الأيام ،فإن الجماعة القبلية التي ينتمي إليها القاتل تقبض عليه وتسوقه إلى جماعة المقتول لتحم فيه ما شاءت ،إما القتل قصاصا ،وإما تسليم الدية المضاعفة ،وهي عشر ديات مع ضمان العاقلة ،ولا أحفظ من هذه الأيام العشر إلاَّ :يوم الجراد ،يوم السيل ،يوم السوق، يوم الغارة ،يوم الملقا (وهو يوم الوعد بين قبيلتين لأمر ما )(الأكوع (محمد):1/122)ص199-ج2-قاموس العرف القبلي في اليمن.
مكانة الحرب في القبيلة:
الحرايب: في قبائل المشرق هي الحروب ،يشير متزمل إلى مكانة الحرب المحورية في حياتهم اليومية ،وان الغاية من تربية الأبناء هي لكي يصبحوا رجالا أشداء عند القتال :
يا سلامي على من هو رفيق صحبته ما نَبَا بدّالها
عند شب الحرايب ما نضيق ما نربي العيال إلاَّ لها
ولتثبيت قيم الاستبسال والشجاعة في نفوس القبائل ،تسمع الأمهات ،عندما يلاعبن أولادهن “يجعلك ربي قتيل ولا يميتك ميتة الدواب” وإذا مات الرجل ميتة طبيعية ،فمن جُملة ما تعدِّده المرأة عند رثائه قولها :”ليته اغتسل بالدماء ،ولا مات حرمة”ص352 .
وإذا أرادت القبائل صلحا ،قالت “حرب طول الزمن عيب” ويضرب عند عرض الصلح على أطراف الصراع ،بغرض استمالتهم إلى الصلح .ص352-ج1-قاموس العرف القبلي. ومن أمثالهم “من حل وسط القوم شل بلاهم”
رفض الهادي مناداته بالسيد:
جاء في سيرة “الهادي إلى الحق” يحيى بن الحسين الرسي بشأن لقب “السيد” حيث يذكر صاحب سيرة “الهادي “أنه “سمعت رجلا يقول له “جعلت فداء للسيد .فقال له الهادي إلى الحق :لا تعد تقول هذا مرة أخرى فإنما السيد هو الله ،وإنما أنا عبد ذليل ،فقال له رجل ممن حضر المجلس :جعلت فداك قال الله “وسيدا وحصورا” فقال :نعم ،ولكن لا أحب أن يقال لي هكذا “(العلوي :53) ص211-ج2-قاموس العرف القبلي في اليمن.
رقصة الشرح:
هناك العديد من الألفاظ ذات معان واحدة ،في جغرافيات متعددة في اليمن ،ومن ذلك لفظة (الشَرْح)يعرِّفها المؤلف بأنها “إحدى الرقصات الشعبية الشهيرة في الجنوب والمشرق وحضرموت .ويبدو أن المعنى يعود إلى الانشراح ؛أي الفرح والانبساط”ص261-ج2-قاموس العرف القبلي ،لكنه لا يشير إلى أن للفظة (الشرح)ذات المعنى في منطقة الحجرية ،إلا إذا كان يدرج قضاء الحجرية ضمن الجنوب ،كجهة جغرافية ،فالحجرية تقع في الجنوب الغربي .