غاب (القادة) العرب وحضر القائد ابيي أحمد (الحبشي) في السودان

 

د.عبدالعزيز صالح بن حبتور*

يتذكّر المواطنون العرب من المحيط إلى الخليج ذلك اليوم الأسود في صبيحة الـ 30 يونيو 1989م، حينما انقض بوحشية مُفرطة ذلك الضابط المغمور المدعو عمر حسن البشير على السلطة المدنية المُنتخبة واغتصبها لمدة ثلاثين عاماً بالكمال والتمام، في ذلك اليوم المشؤوم استطاع شلة العسكر من الجيش السوداني وبتخطيط مُحكم من قبل الجبهة القومية الإسلامية ورئيسها حسن الترابي من إيقاف حركة الزمن لثلاثة عقود متتالية في الجزء الجميل من وطننا العربي.
استطاع حكم العسكر أن يوقف العمل بمشروع بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة، وبسبب ذلك الانقلاب المشؤوم تم إنهاك قوى التغيير السياسي والاجتماعي والتنموي في المجتمع المدني الناهض آنذاك، وتم العمل على إيقاف مبدأ التداول السلمي للسلطة وإضعاف المؤسسات العامة والخاصة المهتمة بالشأن الثقافي والعلمي وحتى الإنساني، إلى أن وصل الحال إلى ظهور حركات تمرد مسلحة في كل أجزاء السودان من شرق السودان إلى غربها في دار فور وفي جنوبها المختلف أصلا عن بقية تضاريس السودان العرقية والدينية والنفسية إلى أن تدخلت الدول الغربية بعد أن فاحت جرائم نظام عمر البشير ضد المواطنين في جنوب السودان وتم الضغط عليه من خلال سلسلة القرارات الأممية وصولاً إلى مبدأ الاستفتاء الشعبي الذي بلغ ذروته في انفصال جنوب السودان عن شماله عام 2011م.
إلا أن التزاوج غير الشرعي بين العسكر وحركة الإخوان المسلمين في السلطة كان قد أنتج مجموعة من التحديات والإجراءات التعسفية كادت أن تقضي على الإرث الطويل للعمل الحزبي السلمي في السودان ولولا تحول العمل السياسي الحزبي إلى العمل السري لتم القضاء على ذلك التراث الجميل في العمل السياسي التعددي الذي تميز به أهلنا بالسودان الشقيق، وبرغم المطاردات الدائمة والتعسف البوليسي الذي مارسه تحالف الإخوان والعسكر، إلا أن رسوخ التجربة وعمق تجذرها في النسيج الاجتماعي السوداني متماهية مع صلابة المناضلين السودانيين من كل المشارب الفكرية، كانت هي العنصر الفاعل في مقاومة التصحر الإنساني والقيمي لحكم العسكر الإخواني، إنها ليست مبالغة في تصوير واقع ثلاثة عقود عجاف عاشها المجتمع السوداني المتحضّر والذي أُريد له أن يعود بإجراءاتهم التعسفية العسكرية إلى المربع الأول.
لعب الجنرال عُمر البشير ومجموعته دوراً محورياً فاعلاً في كل ما جرى للشعب السوداني طيلة تلك العقود السوداء، وفي فترة هيمنتهم على مقاليد السلطة قد عبثوا وعاثوا فساداً في كل مناحي الحياة الإنسانية في السودان الإنساني الجميل، إذ عمل على تفجير الصراعات العرقية والمناطقية والطائفية والمذهبية وحتى الدينية، وكانت سياساتهم مدروسة بعناية وإتقان، حيث أبرزت جميع التقارير الصادرة عن منظمات المجتمع المدني المحلي والمنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية، بأن عمر البشير ومجموعته قد عبثوا بقضية السلم الأهلي والتعايش الوطني في المجتمع السوداني وارتكبوا جرائم حرب بحق الإنسان السوداني وبذلك أصبحوا مطلوبين دولياً بفعل تلك الجرائم الوحشية التي تجاوزت كل حدود المنطق.
*جريمة إرسال الجنود السودانيين إلى اليمن
لعب عُمر البشير دوراً هاماً وأساسياً في الحرب على الشعب اليمني المجاهد ، إذ أرسل وحدات من الجيش السوداني ومن فِرق الموت من جنود الجنجويد، وزجٓ بهم في أتون محرقة مُضطرمة راح ضحيتها منهم الآلاف بين قتيل وجريح ومفقود، وحتى أن بعض جثث الجنود الضحايا تُركت أجسادهم في الصحاري وبطون الأودية تلتهمها الوحوش وعوامل التعرية وهي جثث بلغت المئات ، وقد بلغ عدد الجنود السودانيين في اليمن 30 الف جندي بحسب تصريح مُعلن للجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس المجلس العسكري الحالي، إنه عدد مُخيف بأن يتم إرسال كل هذه الأعداد من المقاتلين السودانيين كمرتزقة مأجورين (بالأجر الشهري) يقاتلون إلى جانب السعودية لحماية حدودها الجنوبية.
كل تلك الجرائم المُقترفة من شُلة العسكر دفعت بالشعب السوداني بجميع أطيافه إلى الخروج والانتفاضة والعصيان بشكل سلمي فأعلنوا بدء انتفاضتهم ومسيراتهم وثورتهم في تاريخ 19 ديسمبر 2018م، حيث خرج الشعب السوداني بقضه وقضيضه مطالباً بحكم مدني وعودة العسكر إلى ثكناتهم والقيام بمهامهم الروتينية بحماية الحدود السيادية للدولة غيرها.
وعقب ذلك جاء انقلاب على حكم البشير من قبل مجلس عسكري انتقالي كما سموا أنفسهم بتاريخ 11 إبريل 2019م ، وهم مجموعة من طغمته المُقربة ومن رفاق مسيرته الممتدة لكل تلك العقود من الظلم والمعاناة وحتى الجرائم وتولى قيادة مؤسسات الدولة، وترأس المجلس العسكري الجنرال/ عبدالفتاح برهان ونائبه الجنرال/ محمد حمدان دقلو ( حميدتي) وكلاهما مرتبطان بالنظام السعودي والإماراتي وداعمان مباشران للعدوان على اليمن.
وفور إعلان الانقلاب العسكري وبهدف تثبيت أركان حكمه وتمكينه من السيطرة على مقاليد السلطة سارعت المملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى تخصيص ثلاثة مليارات دولار ووضعها في حسابات بالبنك المركزي السوداني بحجة مساعدة الشعب السوداني، لكن الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية ظلت مستمرة ومتواصلة للمطالبة بعودة السلطة من قبضة العسكر إلى نظام مدني دستوري، لكن العسكر ظلوا متشبثين بالحكم بالرغم من مرور أشهر على الاحتجاجات الشعبية السلمية.
*جريمة فض الاعتصام من ساحة القيادة بالخرطوم
استيقظ العالم في صبيحة يوم الاثنين 3 يونيو 2019م على صدمة مروعة وهو يشاهد جريمة بشعة تُرتكب بحق المُعتصمين السلميين، ففي ذلك اليوم قُتِل العشرات وضرب وجرح الآلاف من المواطنين السودانيين المُحتجين سلمياً على ظُلم وجبروت حكم العسكر الإرهابية المتوحشة، وشاهد العالم قيام الضباط والجنود من الجيش والأمن وما يُسمى قوات التدخل السريع (الجنجويد) وكلها تتبع الوحدات العسكرية النظامية السودانية بهذه الجريمة النكراء بحق المواطن وتم كل ذلك في وضح النهار وهم متمنطقين بزيهم العسكري الرسمي وعتادهم وأسلحتهم، ومعظم تلك المشاهد تم تصويره ونقله عبر شاشات القنوات الأجنبية والعربية ومنصات التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام، هذه دلالة إضافية على همجية النظام العسكري في السودان وعدم احترامه للنظام والقانون وحرمة الدم وإزهاق الأرواح بوحشية كبيرة، لكن الشعب الصابر على جور الحكام العسكر واصل نضاله السلمي المعتاد برغم الخسائر البشرية الكبيرة التي تمثلت في القتل والتشريد والزج بالقيادات بالسجون وحتى النفي وكرر خروجه بالملايين لتأكيد حق نقل السلطة من أيدي العسكر إلى سلطةٍ مدنية عادلة، لكن اللافت في هذا المشهد القائم على الصراع المفتوح بين شعب أعزل وسلطة عسكرية انقلابية تمتلك كل أدوات القوة من جهة، ويقف بالجهة المقابلة جميع المؤسسات العربية الرسمية برمتها المكونة من مؤسسات جامعة الدول العربية (المنتهية الصلاحية) والقادة (العرب) من المحيط إلى الخليج لم تحرك ساكناً وكأن ما يحدث في هذا القطر العزيز لا يعنيها على الإطلاق، و بقي الأمر في حالة ركود الصراع بين الشعب السوداني وشلة العسكر من بقايا نظام حكم عمر البشير الانقلابي، إلى أن تدخلت مؤسسات الإتحاد الإفريقي والسيد ابيي أحمد رئيس وزراء جمهورية إثيوبيا، وبذلك تتجدد نبوءة الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم من جديد حينما قال حديثه النبوي الشريف (اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده احد).
نعم هذه هي الحبشة مُنذ فجر التاريخ كانت هي ولا زالت تشكل السند والمدد للأمة الإسلامية، نعم لقد حضر الأخ الإنسان ابيي أحمد (الحبشي) في مشهد الوساطة الأخوية لحقن دماء أهلنا بالسودان الشقيق وغاب تماماً (القادة العرب) وجامعتهم المُهترئة عن الحدث، ألا يثبت ذلك مرة أخرى عجز النظام الرسمي العربي عن الوقوف إلى جانب القضايا والحقوق المشروعة والمصيرية للأمة العربية قاطبة، و أن العدد الكبير من هؤلاء الرؤساء لم يمثلوا أي شيء مقابل موقف حازم وشجاع تبناه أشقاؤنا وجيراننا الأحباش الإثيوبيون للتوسط وحقن دماء أهلنا بالسودان الجميل.
هذا الموقف العظيم للقادة الإثيوبيين في التوسط للحل بين قوى التغيير والحريّة المدني وشلة العسكر من بقايا الانقلابي عمر البشير يحسبه الشعب العربي من أقصاه إلى أقصاه بمثابة اجتهاد محمود، فإن اخفقوا بسبب الظروف وتعقيداتها فلهم الأجر والثواب عند الله عز وجل، و أن أصابوا ونجحوا بالحل فلهم أجران بإذن الله تعالى، أما القادة (العرب) فقد بينت مواقفهم الشخصية وعوامل عديدة منها الأحقاد والخصومات الشخصية والارتهان للمشاريع الخارجية، إنهم قادة مشتتون ومهزومون نفسياً من الداخل وتحولوا إلى موضوع تندُّر وحتى استهزاء من قبل الرأي العام، إلا العدد المحدود منهم !!!
*الخلاصة
إن المال الخليجي (العربي) حضر في جميع أزمات الأمة العربية بهدف خلق الحروب والصراعات والمآسي الداخلية داخل أقطارنا العربية وبين شعوبنا العربية ولكم أن تراقبوا دورهم التمزيقي الحاقد في العراق وسوريا ولبنان ومصر وليبيا واليمن وأخيراً السودان، وقد عاثوا في جميع هذه الأقطار العربية تآمراً وتدميراً ووظفوا الأموال والإمكانات المادية واللوجستية بأمر مباشر من الغرب الاستعماري المتصهين بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت النتيجة قتل وتشريد وتهجير الملايين من شعبنا العربي إلى خارج حدوده وتدمير الدول الوطنية فيها!!!، أليست هذه جرائم مُثبتة يحاسب عليها القانون الإنساني الدولي؟؟؟.
أما الجامعة (العربية) فلم تعد لها قيمة تُذكر بعد أن أصبحت جزءاً مباشراً من المشروع الغربي الاستعماري وتعمل ضد إرادة الأمة العربية برمتها، وبذلك قد أصابها الهوان والسقوط والارتهان، والله أعلم منا جميعاً.
“فوق كُلّ ذيِ عِلمٍ عَلِيم”
* رئيس مجلس الوزراء

قد يعجبك ايضا