الواقع الثقافي عند طلائع العمل الثوري في سجون ومعتقلات الإمامة في حجة


تحول سجن حجة إلى مدرسة شعر تبارت فيه القرائح والنزاعات الأدبية حتى أدت إلى اختلاف الرأي في السياسية.
تحت سماء سبتمبر من كل عام تكون الثورة حاصرة في الذهن والذاكرة وحضور الثورة يستدعي بالضرورة المكان كمسرح احتضن الحدث أو كان له حضوره الفاعل في صنعه.
وحجة المكان ترتبط بهذا الحدث التغييري ارتباطا وثيقا وأكثر ما يميز هذا المكان أنه وقف على طرفي نقيض.. هذان الطرفان يتجاذبان الحدث.. طرف يحاول الركض مع ريح العصر وإيقاع التغيير وطرف آخر يحاول الحفاظ على ما هو كائن وذلك التناقض الضدي قد يكون فطرة متأصلة في ذهنية الإنسان العربي الذي يؤمن بالسائد ويرفض الإنزياح أو الخروج عن المألوف.

لم تكن حجة معقلا حصينا وآمنا لبيت حميد الدين أو للنظام المتوكلي قيل عام 1948م ولم تكن كذلك بعد 1948م كما يشاع بل كانت تعاني مما يعاني منه الوطن كله وعلاقتها ببيت حميد الدين لا تخرج عن كونها علاقة وفاق في الرؤية التحررية من الأتراك أولا والتصدي للأدارسة الذين ينقصون البلاد من أطرافها الشمالية ثانيا.
وربما لأن عامل الانتصار على الأتراك على يد الإمام يحيى حميد الدين قد عزز مكانة النظام المتوكلي في نفوس الناس وترك هالة من القداسة والتمجيد شأنه شأن أي حدث كبير آخر لذا كان الولاء المطلق بحكم الانتماء إلى ذات الرؤية والمنهج.
لم يكن الإمام يحيى حميد الدين سوى واحد من جموع الناس صنعه الانتصار في نفوس الناس شيئا عظيما بالإضافة إلى سلالته العريقة ومكانته العلمية لذت كان الخروج عليه بمثابة انقلاب على الدين وخروج على الثابت الذي تتميز به العقلية العربية التي لا تنتظم إلا بالعصبية الدينية كما قال بذلك أبن خلدون. لذا كانت ثورة 1948م بما صاحبها من اختلالات في المنهج والأسلوب فاتحة زمن جديد في الرؤية والفكرة إذ كانت حجة مسرحا لمجمل أحداثها.
ترعرعت على خشبة هذا المسرح ثقافة ثورية غذتها عوامل التثاقف تحت أقبية السجون بين زملاء القضية الوطنية الذين اختلفت مشاربهم فكان فيهم الزيدي والشيعي والسني وكان فيهم العصري وغير العصري وربما أملى أحدهم كتابا لم يكن قد عرفه غيره من قبل وشواهد مثل ذلك كثيرة .. في المذكرات التي ربما صدق بعضها وكذب البعض الآخر منها بحكم اللا موضوعية وقلة الذاتية في صنع الحدث الثوري.
لم تكن حجة كمكان وكإنسان بمعزل عن الحراك الثقافي التاريخي عبر سلسلته الزمنية فقد شهد المكان نزاعا سياسي قائما على أسس فكرية لعل أبرز ذلك حركة علي بن الفضل التي انطلقت من جبال مسور حجة وكانت تستند على أسس فكرية حدث ذلك في القرن الثالث الهجري وترك أثرا له في القرن الخامس الهجري في الصراع الذي حدث بين بني الحفاظ الذين كانوا يحكمون جزءاٍ كبيرا من جغرافية هذه المحافظة والمتمثل في منطقة الشرفين وبعض أجزاء تهامة ذلك الجدل الفكري الذي ساندته سيوف القبائل ومصالح السياسية ترك أثرا سلبيا في الجانب المعرفي والمعلوماتي إذ غالبا ما يعمد الطرف المنتصر طوال الحقب التاريخية التي مرت على هذا الوطن إلى طمس كل المعالم الفكرية والمعرفية والتاريخية للطرف المهزوم حتى تغيب الحقيقة بين رغبات الذات وانكسار الآخر.
ثمة تراكم معرفي في أصقاع الوطن لم تمتد إليه يد البحث الأمينة حتى الآن وهذا التراكم قد يفسر هذا الإنسان لأنه من نتاجه والخوض في هذا الموضوع قد يطول لكن الالماح إليه يصبح من الضرورة بمكان حين نتحدث عن الواقع الثقافي في عقد أو عقدين من الزمان هما عقد الأربعينيات وعقد الخمسينيات من القرن الماضي لأن ثقافة العقدين امتداد لما قبلها وبمعرفتها يمكننا رصد التطور الحاصل في العقدين والأثر الذي طرأ على ما هو سائد.
اكتسبت حجة مكانتها التاريخية في القرن العشرين من كونها كانت مسرحا للحدث السياسي وقد تلاقت كل الأطياف الفكرية لتحدث جدلا بين الجديد والقديم .
هذا الجدل أثمر شيئا جديدا في سماء الثقافة الوطنية وربما كان يحمل بعض سمات المغايرة كما قال بذلك عبدالله البردوني عند حديثه عن مدرسة حجة الشعرية.
مدرسة حجة الشعرية
من الثابت تاريخيا أن وجود الطليعة المثقفة داخل قلعة القاهرة بحجة لا سيما بعد انتفاضة 1948م قد فجر الكوامن الشعرية عند معظم الأسماء الشعرية التي ارتبطت شعريا بحركة التحرر- يقول البردوني وقد تلاقى كل الشعراء إلى سجن حجة فتوحدوا توحد الزنود في القيد ثم توحد العصافير في الخميلة وإذا بسجن حجة يتحول إلى مدرسة شعرية تمد عهدها الأول وتستجد عهدا جديدا أو قريبا إلى الجديد وقد استضاف السجن معظم الأعلام الأدبية المعروفة وبعض تلك الأعلام تعاملت مع القصيدة لأول مرة داخل جدران المدرسة الفكرية والأدبية يقول البردوني.
فقد تحول سجن حجة إلى مدرسة شعر تبارت فيها القرائح والنزاعات الأدبية حتى أدت إلى اختلاف الرأي في السياسة وذهاب المودة أحيانا مع أن اختلاف الرأي لا يذهب للود قضية إلا أن هذا الاختلاف والتكاره لم يمنع من الاستمرار في الشعر كل على طريقته”.
ومهما اختلف مؤرخو الأدب حول مصطلح التسمية وجدلهم حول هذا التصنيف مع البردوني إلا أن الأمر يظل يحمل تلك الخصوصية المرجعية والمكانية يقول أحمد الشامي:
وفرض أدب حجة سلطانه حتى على عقول المبعدين الشاردين من أبناء اليمن فإذا بالشاعر محمد محمود الزبيري يدبج الرسائل مستعطفا الإمام مستشفعا إليه في نعمان وصحبه.
ولعل المكان كان له دور محمود في بلورة نتاج ثقافة فرض وجوده في تاريخ الحركة الأدبية بقوة وجدارة وقد دل على ذلك قول أحمد الشامي في مذاكراته حيث يقول:
هناك في قمة الجبل -يقصد القاهرة – وفي الجو المفعم بالنقاوة الصحية والحرية السماوية والانطلاق الشعري وتهاويل المناظر الطبيعية وخاصة وقت الغروب.. هناك نظم الشعراء أجمل قصائدهم وأروع الحانهم وأغزروا ثقافتهم ووسعوا معلوماتهم بالقراءة والدرس والحوار.
ثمار النشاط الثقافي بحجة
أثمر النشاط الثقافي والأدبي بحجة في الفترة الممتدة بين 1948-1958م مجموعة كبيرة من أنماط المعرفة المختلفة يمكن إيجازها في التالي:
1- إصدار مجلة الندوة الخطية.
2- إصدار مجلة السلوة الخطية.
3- تشكيل الندوة الثقافية والأدبية برئاسة أحمد محمد الشامي.
4- تأليف كتاب الإمام أحمد حميد الدين للشاعر أحمد محمد الشامي.
5- تحقيق وضبط ديوان القاضي عبدالرحمن الآنسي الموسوم ترجيع الإطيار بمراقص الأشعار قام بتحقيقه وضبطه القاضي عبدالرحمن الإرياني والقاضي عبدالإله الأغبري وطبع على نققة الإمام أحمد.
6- ضبط وتحقيق ديوان الشاعر عماره اليمني وقام بذلك القاضي محمد علي الأكوع والقاضي عبدالرحمن الإرياني.
7- تحقيق وضبط بعض أجزاء كتاب الاكليل للهمداني وقام بذلك القاضي محمد علي الأكوع.
أمام في المجال الأدبي فقد كان نتاج تلك المرحلة يمكن إيجازه في النقاط التالية:
1- قصائد الاستعطاف لنزلاء سجن قلعة القاهرة نشر أحمد محمد الشامي ما نظمه هو وضمنها ديوانه الموسوم “ديوان اليمن”.
2- قصائد الرثاء وهي مجموعة من القصائد ترثي زملاء القضية الوطنية الذين جز رقابهم سيف الإمام وقد تميز الشاعر إبراهيم الحضراني بذلك أكثر من غيره وله في ذلك غرر من مثل قوله في رثاء عبدالله الوزير: عليك وإلا فالبكاء حرام وفيك وإلا فالرثاء آثام
3- مجموعة من القصائد عن ثورة يوليو بمصر صدرت في ما بعد في كتاب بعناية الشاعر أحمد عبدالرحمن المعلمي بعنوان “ثورة مصر في الشعر اليمني”.
4- ملحمة من ألف بيت للقاضي عبدالرحمن الإرياني صدر بعضها في كتاب بعنوان “ملحمة من سجون حجة” بعناية أحمد عبدالرحمن المعلمي وغير ذلك مما هو طي النسيان أو الإهمال أو مما لم ير النور حتى الآن أو غاب عنا.
البعد الثقافي الكائن عند طلائع العمل
الثوري في سجون حجة
لم يكن ذلك الرصد الآنف ذكره للنتاج الثقافي والأدبي من فراع ولكنه كان عن نشاط غير عادي لكل طلائع العمل الثوري في سبيل خلق وعي اجتماعي وسياسي للقضية الوطنية.. لذلك تحول سجن قاهرة حجة إلى منارة علمية وثقافية أدبية يقول الشامي:
كونا مجموعة فريدة فيهم العالم والمؤرخ والفقيه والشاعر والضابط والمقرئ والفنان والمهرج والظريف إلى أن يقول وتحول السجن إلى مدرسة واشتغلت تلميذا ومدرسا في وقت معا فأمليت مع القاضي الشماحي الروض النضير شرح مجموعة الإمام زيد بن علي عليه السلام على العلامة حسن الحوثي وقرأت تفسير الإمام “المنار” على القاضي عبدالرحمن الإرياني وأملينا عشرات الكتب كالهدي النبوي لابن القيم وسيرة ابن هشام وبعض الأمهات وجزءا من الكشاف وأملينا مغنى اللبيب لابن هشام على القاضي العلامة محمد الأكوع وقرأنا السيد محمد الغفاري نظام الغريب للإمام الرابعي نقابله على النسخة الأصلية ملك السيد حسن الحوثي ثم ضبطته وحققته وترجمت لبعض رجاله وكنت أدرس النحو الواضح والبلاغة الواضحة وتاريخ الأدب العربي للزيات والنشر الفني لمجموعة من الزملاء والتلاميذ إلى أن يقول: “وقرأنا بعض كتب التاريخ اليمني لعمارة والهمداني والدبيع والخزرجي وزبارة والجرافي وضجت القاهرة بالنقاش والجدل والحوار ولما وصلت إلينا كتب الأستاذ خالد محمد خالد |من هنا نبدأ ومواطنون لا رعايا” اشتد الجدل بين المختلفين رأيا ولقافة في حوار أدبي رائع”.
نلحظ في كلام الشامي اختلاط المؤثر الثقافي على أدباء ومثقفي الحركة الوطنية الذين يقبعون في سجون النظام المتوكلي في نهاية عقد الأربعينيات وبداية الخمسينيات.. يقول البردوني إن زمن الثورة امتداد طبيعي لعهد النهضة مهما حدث من تعرج وقت لأن الامتداد من النهضة يؤدي إلى نتيجتين: أما الثورة عن نظريات وأما امتداد الإصلاح كإجهاض للثورة وقد زخر عهد النهضة في بلادنا بشعراء تفاوتوا في مقادير القوة والضعف إلا أنهم كلهم من صنع بيئة واحدة ساعدت على نموها وإخراجها مجلة الحكمة أولا والبريد الأدبي ومدرسة حجة ثالثا ومجالس القات رابعا والبيئة سريعة العدوى فهي تحمل الأصيل على أن يبوح بأصالته وترغم قليل الأصالة على أن يشارك وهذا ما حدث فقد كان كل حامل عمامة تقريبا يمارس الشعر أو يتكلف ممارسته مجاراة للبيئة والسؤال الذي يطرأ في إطار السياق يقول متى بدأ عهد النهضة في اليمن¿
يقول البردوني “بدأ عهد النهضة في بلادنا بنهاية إعلام النهضة في مصر والعراق.. ومصر كما نعلم أم النهضة المعاصرة لاستقلالها النسبي عن الحكم العثماني حتى لجأ إليها أدباء سوريا ولبنان ونقلوا معهم روائع الأدب الفرنسي”.
إلى أن يقول “وقد كان لشوقي والمنفلوطي ومحمد عبده أثر كبير في أدب بلادنا آخر العشرينات هذا من جهة ومن جهة ثانية كان للكواكبي وجرجي زيدان أثر سياسي وأدبي فيمكن أن يكون كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي أول ضوء كشف عيوب استبداد الإمام يحيى كما كان كتاب الانقلاب العثماني لجرجي زيدان أول إثارة فكرية تعليمية”.
في عهد النهضة لم يكن الفاصل قائما بين السياسة والأدب لأن الأدباء هم زعماء السياسة لهذا كان الأدب نضالا كما كانت السياسة نضالا وأول رعيل من أدباء السياسة أحمد عبدالوهاب الوريث أحمد المطاع عبدالله العزب وعبدالرحمن الإرياني وعلي يحيى الإرياني ومحمد محمود الزبيري وزيد الموشكي وهؤلاء أدباء وساسة ورجال فقه ومعاصرون قدماء.
السمات الفنية
القارئ للنتاج الأدبي اليمني في النصف الأول من القرن العشرين يلمس دون عناء غلبة أسلوب عصر الاجترار على مجمل النتاج الأدبي وربما حاول البعض تقليد بعض الرموز الإبداعية من العصر العباسي في غير أصالة ثم كان لشوقي بعض التأثير وليس كله وبعد اتصال اليمن بالخارج في النصف الثاني لعقد الثلاثينيات وتلاه عقد الأربعينيات إذ توالت البعثات الثقافية إلى الخارج في هذا العقد رأينا تأثرا ملحوظا بالتيار الرومانسي لكنه كان تأثرا مضطرا لعدم القدرة على استيعاب الأبعاد الفنية لهذا التيار لانعدام وسائل المعرفة حينها وأقرب مثل على ذلك أحمد محمد الشامي يقول البردوني:
أما في سجن حجة فقد جدت عليه ثقافة غريبة على فهمه إلى حد ما قريبة إلى طموحه فامتزجت فيه المؤثرات وصعب عليه هضمها حتى نحس تقليده في غموض ولا نحس تجديده ونلمس تأثره ولانلمس أثره وقريب من أحمد الشامي أحمد عبدالرحمن المعلمي وقد ترك محمود حسن إسماعيل أثرا على معظم شعراء مدرسة حجة وكذلك الدكتور إبراهيم ناجي الذي يبدو أثره واضحا على إبراهيم الحضراني إبان تلك الفترة.
ما يمكن قوله أن مدرسة حجة الشعرية فضلت الانزياح إلى الأساليب الفنية الجديدة واستطاعت الخروج من تحت أعطاف أحمد الأنسي الملقب بالزنمة الذي ظل أثره واضحا في الاتجاه الأدبي الفقهي نظرا لطبيعة التلقي وتقليدية التعليم والثقافة حينها.
ذلك الخروج ظل قلقا وخائفا لظروف موضوعية فرضها الظرف السياسي حينها والذي كان يجد نفسه مشدودا إلى الماضي إلا أن الانعتاق ظل هاجسا لدى الطليعة المثقفة إذ أن بعض الأسماء امتلكت أدواتها الفنية مع تغاير المكان واتصالها بالاتجاهات الثقافية الجديدة أمثال أحمد الشامي وأحمد المعلمي والحضراني والبردوني والزبيري تلك الأسماء وغيرها ما عدا البردوني شاءت لها الأقدار الخروج إلى خارج الوطن والاطلاع على الثقافات العصرية ومن ثم النسيج على منواها.
ختاما أقول ما كان لذلك الثراء الفكري والأدبي أن يتحقق لو لم تتلاق الأطياف الإبداعية والثقافية من أصقاع اليمن وتجتمع تحت سقف واحد يحركها الدافع النفسي الراغب في إثبات الذات والشعور بالتمايز.
كما أن المكان كان له دور فاعل في مثل ذلك إذ أننا لم نسمع بشيء تحقق في أقبية سجن نافع المظلم والموجود في وسط المدينة ولعل المقادير قد لعبت دورا في ذلك إذ شاءت الأقدار أن يتصدع سجن نافع لينقل الثوار إلى قلعة القاهرة فكانت تلك الحصيلة المعرفية.
كما أن الموضوع بحاجة إلى بحث دقيق حتى يمكن الإلمام بجميع أطرافه ولعل مثل ذلك سيكون ميسورا لنا أو لغيرنا إن شاء الله لإيفائه حقه من الإفاضة والإسهاب نظرا لأهميته في التاريخ اليمني المعاصر.

قد يعجبك ايضا