عباس السيد
كان البحتري ـ الشاعر العربي اليمنى ـ مقربا للخليفة العباسي “المتوكل”، فلما قُتل المتوكل حزن البحتري لمقتله ورثاه. فضاق به “المنتصر بالله” ابن المتوكل الذي كانت له يد في قتل أبيه، فجفاه وفترت العلاقة بينهما.
فامتلأت نفس البحتري هَمًّا وغمًّا، فذهب إلى المدائن في رحلةٍ يسلي بها نفسه. ونظم هناك سينيته المشهورة ” صُنْتُ نَفْسِي ” في ذكر عظمة الفرس، ووصف “إيوان كسرى”، واختتمها بذكر فضل الفرس في نصرة قومه اليمنيين ومساهمتهم في تحرير اليمن من الأحباش.وقف أبو الوليد البحتري على إيوان كسرى وقال :
أيّدُو مُلْكَنَا، وَشَــــــدّوا قُوَاهُ بكُماةٍ، تحتَ السّنَوّرِ، حُمسِ
وأعَانُوا عَلى كتَائِبِ أرْيَاطَ بطَعنٍ على النّحورِ، وَدَعْسِ (1)
قالها البحتري بعد حوالي قرنين ونصف من الزمان أو أكثر، عن حملة ملك الفرس “كسري أنو شروان” حين استنجد به الملك “سيف بن ذي يزن”، حتى عاد إليه ملكه وعرشه. وبغض النظر عن الجدل الذي دار حول موقف البحترى في هذه القصيدة ، إلا أنها ذلك الجدل لا يخفي تجذر العلاقات وتداخل المصالح المشتركة بين العرب والفرس منذ قرون.
مصير مشترك
على مدى قرون ، شكلت الأمتان العربية والإيرانية ، كما يطلق عليهما المؤرخون ، سداً يحمي كل منهما الأخرى، فـ ” كورش ” ملك فارس حمى بلاده من خطر ما عرف بـ ” يأجوج ومأجوج ” والقبائل البدوية الغازية التي كانت في آسيا الغربية والوسطى وحتى أواسط القارة الهندية، وحتى ما وراءها غرباً من بلاد آشورية وبابلية وكنعانية وفينيقية والتي أطلق عليها فيما بعد اسم البلاد العربية، والإسكندر المقدوني عندما سقطت أمامه مدينة صور سقطت أمامه إيران كلها وبلغ عمق الهند. وأمام انهزام إيران في مواجه المغول وصلت الغزوات المغولية إلى حلب ودمشق، فالامتان العربية والإيرانية المتلاصقتان جغرافياً وبشرياً قدر لهما أن تكون الواحدة سنداً للأخرى، وحاميتها الخلفية لمصيرهما المشترك. (2)
وجدير بالتنويه هنا أنه في الوقت الذي لا تجد سورية أي مبررات لأن تذهب بمفردها لمواجهة الكيان الصهيوني أو إجراء التفاوض معه في مسعاها الدائم لاسترجاع أراضيها المحتلة دون حليفتها الأساسية إيران، فإن إيران هي الأخرى لا تجد مبرراً في مواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والغربية التي تمارس عليها، دون حليفتها الاستراتيجية سورية التي كان لها دور مشهود في توضيح صوابية الموقف الإيراني وتبديد الشكوك المصطنعة التي تسوّقها أمريكا وإسرائيل حول عسكرة برنامجها النووي وايجاد الذرائع للعدوان عليها وتخريب منشآتها.
ساهمت إيران في إفشال الاستفتاء الكردي على الانفصال عن العراق ، ولعبت دورا هاما في هزيمة داعش التي كانت تسيطر على أكثر من نصف مساحة العراق ، وكان لذلك دوره في إبقاء العراق موحدا حتى الآن ، في حين دعمت السعودية والإمارات مشروع انفصال الأكراد عن العراق ، وأنفقت الدولتان المليارات لتخريب سوريا وتفكيكها، بينما وقفت إيران ولا تزال مع سوريا موحدة.
الثورة الإيرانية.. الفرصة التي أهدرها العرب
شكلت الثورة الإيرانية في 11 فبراير 1979م بقيادة الإمام آية الله الخمينى فرصة مناسبة لبدء صفحة جديدة من العلاقات العربية الإيرانية، إذ عملت الثورة الإيرانية على إزالة الشوائب التي كانت تغذي التناقض بينهما من خلال قيامها بإجراءات لإنهاء التحالف الإيراني الغربي المعادي للعرب، وإحداث تغييرات استراتيجية في موازين قوى الصراع العربي الاسرائيلي تم تجسيدها بالآتي:
– غلق السفارة الاسرائيلية في إيران وتحويلها الى سفارة لدولة فلسطين.
- وقف تدفق النفط الايراني الى اسرائيل.
– خروج إيران من الأحلاف المعادية للعرب وتحولها الى قوة مؤيدة للحق العربي والقضايا العربية.
– تطور التوجه الإسلامي الايراني الذي يعطي للغة العربية دوراً متقدماً في الثقافة الاسلامية تم التعبير عنه بإدخال اللغة العربية في المناهج الدراسية وبتدريسها إلزاميا.
وعلى الرغم من أهمية هذه التوجهات في السياسة الإيرانية فإن ذلك لم يمنع من ظهور بعض الأصوات والتوجهات غير المؤيدة للثورة وأهدافها ومن كلا الطرفين ـ العربي والإيراني ـ فكما راح بعض الإيرانيين للتشكيك بالثورة وأهدافها واتهامها بالانحياز الى العرب، برزت بالمقابل في الجانب العربي بعض المواقف السلبية المشككة بالثورة تبنتها وسائل الإعلام في أكثر من بلد عربي وبدأت مظاهر التناقض والخلاف تشتد مابين العرب والايرانيين. وبدلاً من التخلي عن الصور السابقة للعلاقات العربية – الايرانية فإنها ازدادت تشوهاً وارتباكاً إلى أن وصلت الى درجة القطيعة بالحرب العراقية – الايرانية التي أريد منها ان تشكل حداً فاصلاً بين العرب والايرانيين ومدخلاً لاستبدال الصراع العربي – الاسرائيلي بصراع عربي- فارسي(3)
قرار العرب ليس في يدهم
أحدثت الثورة الإسلامية انقلابا في السياسة الإيرانية الرسمية من ثلاث زوايا. من ناحية لأنها أعادت الدين والمذهب إلى الواجهة مرة أخرى. ومن ناحية ثانية، لأنها جاءت ممدودة اليد لأهل السنة وليست في عداء لهم كما كان الحال في المرحلة الصفوية ومن ناحية ثالثة، لأنها جاءت رافضة للهيمنة الأمريكية ومتحدية لها ومعادية لإسرائيل.
لكن شاءت المقادير أن تظهر الثورة في الأفق في الوقت الذي هيمنت فيه الإرادة الأمريكية على العالم العربي في حين دخلت بعض دوله المهمة فيما سمى بمحور الاعتدال الموالي للأمريكيين والإسرائيليين، الأمر الذي جدد الاشتباك بين إيران وتلك الدول العربية المهمة، واستدعى أسلحة الخصام العرقي والمذهبي، كما استدعى مختلف مصادر التقاطع والنزاع ، فأثيرت المخاوف من التهديد الإيراني للخليج، وتم تصعيد النزاع حول مصير الجزر الثلاث. وجرى التلويح بما سمى الهلال الشيعي لاستثارة أهل السنة، وشحن الأجواء ضد إيران على نحو سمح بالترويج للادعاء بأن العدو الحقيقي للأمة هو إيران وليس إسرائيل. وهي المقولة التي دفعتها واحتفت بها إسرائيل، التي أزعجها التحدي الإيراني كثيرا، وتضاعف إزعاجها حين ذاع أمر المشروع النووي الإيراني، حتى أصبح وقف ذلك المشروع وتدميره هدفا استراتيجيا رئيسيا لإسرائيل.
– إن الأمر لا ينبغي أن يترك للانفعالات والأهواء، كما لا ينبغي أن تحدد الوجهة المرجوة طبقا لما تقتضيه مصالح الدول الكبرى، وإنما تحديد الوجهة يجب أن يتحرى المصالح العليا للأمة، وينطلق من رؤية استراتيجية واضحة لا تحدد الأهداف فحسب، وإنما ترتب أولويات تلك الأهداف أيضا.
وهذه الاستراتيجية لا تغفل عوامل التاريخ ممثلة في الوشائج التي تربط بين الشعوب على الطرفين، ووحدة الدين على رأسها. كما أنها لا تغفل عامل الجغرافيا المتمثل في الجوار الطبيعي، الأمر الذي يجعل من إيران ليس عمقا حضاريا للعرب فحسب «والعكس صحيح أيضا»، ولكنها تمثل عمقا استراتيجيا أيضا. ويبقى بعد ذلك السؤال: كيف يمكن أن تستثمر عناصر التاريخ والجغرافيا لصالح مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
إيران تشكل تحديا وليست تهديدا
منطقة الشرق الأوسط في التفكير الاستراتيجي لها ثلاثة أعمدة أساسية، تمثلها مصر وتركيا وإيران، والوفاق بين هذه الدول يفتح الباب واسعا للنهوض بالمنطقة بأسرها، في حين أن الشقاق بينها يشكل عائقا أساسيا يحول دون تقدمها واستقرارها.
ليس مطلوبا إنهاء كل خلافات بين العرب وإيران لكي يستقيم التعاون بينهما، ولكن المطلوب توفير قدر من الثقة بين الطرفين يسمح بإدارة الخلافات بأسلوب سلمى وحضاري، حتى لا تتحول إلى صراعات. ما هو السبيل لأن نتعامل مع إيران باعتبارها تحديا وليس تهديدا، وهل يمكن التوصل إلى موقف عربي من إيران يحقق المصالح العليا للأمة ويخدم العيش المشترك؟ هذا من قبيل الأسئلة الصعبة. لسبب جوهري هو أن الموقف العربي الرسمي على جملته ـ بصرف النظر عن الاستثناء ـ فيه من التعبير عن مصالح القوى الأجنبية بأكثر مما فيه من رعاية للمصالح العليا للأمة.
وحين تغيب الإرادة المستقلة ولا تكون مصالح الأمة العليا هي المنارة التي يمكن الاهتداء والاسترشاد بها، فإن الطرف العربي لا يكون مؤهلا لتحديد ما إذا كانت إيران تحديا وليست تهديدا. باعتبار أن ذلك موقف ترسمه الأطراف الأجنبية المهيمنة وليس الطرف العربي.
لقد سبقت الإشارة إلى أهمية استقلال الإرادة السياسية، والدور الذي تمثله قضية الوحدة في تبديد المخاوف وكبح جماح تطلعات الطامعين. وأضيف إن إجراءات بناء الثقة على الجانبين تحتاج إلى تفاهم وتوافق، كما أن فكرة التكامل يمكن أن تكون صيغة وسطا بين التحدي والتهديد.
لكن كل هذه الأفكار تظل بلا قيمة إذا كان قرار العرب بيد غيرهم، وإذا كان كل أصحاب المصالح يرتعون في مختلف الساحات العربية، ولا ترتفع الأصوات إلا لإقصاء الإيرانيين وحدهم، ليس دفاعا عن الاستقلال، ولكن لكي تخلو الساحات للاعبين الغربيين لكي ينفردوا بتلك الساحات ويوظفوها لخدمة مخططاتهم ومصالحهم (4)
البرلمان العربي : إيران عمق استراتيجي للعرب
بخلاف المواقف المشبوهة التي تسوقها الجامعة العربية عن الجمهورية الإسلامية في إيران ، يتبنى البرلمان العربي الانتقالي مواقف إيجابية من إيران باعتبارها عمقا استراتيجيا للأمن القومي العربي. وحذر قبل إثنى عشر عاما من مغبة استدراج الدول العربية إلى عمل عدائي ضد أي من هذه الدول لصالح قوى عالمية.
وفي هذا السياق جاء تقرير لجنة الشؤون الخارجية والسياسية والأمن القومي بالبرلمان العربي الانتقالي التي انعقدت في العاصمة الليبية طرابلس في أغسطس 2007م حول مصادر تهديد الأمن القومي العربي الإقليمية ، حيث أجمعت اللجنة على أن الكيان الصهيوني يشكل أول مصادر التهديد للأمن القومي العربي على المستوى الإقليمي وأشده خطورة وشراسة باحتلاله للأراضي العربية وممارسته لأشكال وحشية من العدوان في فلسطين ولبنان والجولان السوري المحتل مع امتلاكه للسلاح النووي والبيولوجي مما يشكل تهديداً صارخاً للمنطقة برمتها ، بل وللسلم والأمن العالميين. ويشير التقرير إلى أن مصادر التهديد العالمية تفاقمت في ظل بروز قطب واحد متمثل في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتبع سياسة خارجية عدوانية لا تتوانى عن استخدام القوة العسكرية والتدخل السافر في الشؤون الداخلية للأقطار العربية وتتلهف إلى المزيد من الهيمنة على العالم العربي الذي يشغل موقعاً بالغ الأهمية في خريطة مصادر الطاقة العالمية يضاف إلى ذلك حالة التردي والانقسامات والخلافات التي يعيشها العالم العربي على نحو يشجع ويدفع باتجاه التدخل الخارجي.
واتفقت اللجنة على أن دول الجوار يمكن أن تمثل عمقاً استراتيجيا للأمن القومي العربي مع الاعتراف بوجود تناقضات ثانوية ومشكلات قائمة مع هذه الدول وتعتبر اللجنة أن هذه التناقضات والمشكلات يجب أن تحل في إطار الحوار على أساس من تحقيق المصالح المشتركة لطرفيها مع الأخذ في الاعتبار مغبة استدراج الدول العربية إلى عمل عدائي ضد أي من هذه الدول لصالح قوى عالمية. (5)
الهوامش والمراجع :
(1) كُماة والسَنوَّر: أشياء من سترة الحرب تٌلبس كالدرع. وحُمس: من الحماسة والشجاعة. كتائب أرياط : إشارة إلى القائد الحبشي ارياط الذي حكم اليمن قبل أبرهة ، وقد ارتكب ارياط جرائم إبادة بحق اليمنيين.
(2) فهد العرابي الحارثي ـ العلاقات العربية الإيرانية ، 16 مايو2011م
(3) موسى الغريرـ العلاقات العربية – الإيرانية (السورية – الإيرانية نموذجاً)17 يناير 2011م
المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات ، المادة متوفرة على الرابط :
https://www.dohainstitute.org/ar/ResearchAndStudies//Pages/art9.aspx.
(4) فهمي هويدي ، التاريخ والدين في العلاقة بين العرب وإيران
المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 17 يناير ، 2011م، المادة متوفرة على الرابط :
https://www.dohainstitute.org/ar/ResearchAndStudies/Pages/art14.aspx
(5) تقرير لجنة الشؤون الخارجية والسياسية والأمن القومي بالبرلمان العربي الانتقالي حول الأمن القومي العربي. طرابلس ليبيا ـ6 أغسطس 2007م