خُلُق الإسلام الحياء وبشروا ولا تنفروا
محمد ناجي أحمد
جوهر الدين الإسلامي مبني على الحياء ،وبه تتعزز الأخوة واللحمة ،لننال الرحمة ،فمن كلام النبوة قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء ) فقليل من الحياء يلجم الكثير من الفجور ويهذب من الخصومات .فالحياء نتاج قلب رحيم، قريب من الله ،والبذاء يجعل القلب قاسيا ،والقسوة تجعل صاحبها أبعد الناس من الله تعالى، كما جاء في الحديث (أبعد الناس من الله تعالى القاسي القلب) ومما رواه ابن أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار ).
هذه هي الثقافة القرآنية والنبوية ،التي تبني الأوطان على الحياء والرحمة والأخوة والإخلاص وإتقان العمل والرفق، كما ورد في الحديث ( من أعطى حظه في الرفق فقد أعطي حظه من الدنيا والآخرة وصلة الرحم ) .فتأليف القلوب وتصفيتها مؤشر قوة وحيوية كل حركة ثورية ،واتساع التناقضات يؤدي إلى مراكمة الكراهية ،التي يتسلل منها الأعداء والغزاة والمرجفون في الأرض.
خسارة الرجال في أي حركة ثورية ليس مؤشرا إيجابيا ،بل إنه يمثل خصما من رأس المال الثوري.
يفترض بكل حركة ثورية أن تدرس كل الحالات التي انتقلت من بنية الحركة أو نصرتها إلى ضدها ونقيضها ،فأزمة الأحزاب والتنظيمات السياسية في اليمن أنها خلال العقود المنصرمة كانت ترى الخطأ والخطيئة في الأفراد الذين شردوا ،ولا تبذل عناء وجهدا في استقصاء أسباب هذا الشرود ،وهذا التسرب من بنية تنظيماتهم إلى جبهة خصومهم .
كانت الأحزاب والتنظيمات السياسية بسلوكها هذا تماثل الجغرافيا الطاردة بفعل محدودية مقدراتها ،وكذلك كانت الأحزاب ومازالت طاردة للعديد من الكوادر بفعل محدودية وضيق أفقها وبداوة التفكير وعجزها عن توسيع دائرة الانتماء ،فالانتماءات إن لم تتسع كدوائر الماء فإنها تسقط في الركود .
لنا في التاريخ السياسي المعاصر نموذجان، أحدهما جسده (الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ) والذي تأسس في يونيو 1968م ،فقد استطاع الانتشار خلال عامين ليكون متواجدا في كل المدن والقرى ،وكان عامل الانتشار السريع يعود إلى تكوين الكادر القيادي الذي يتميز بسعة الوعي والقدرة على المبادرة وتأليف قلوب المستضعفين حول القضية الوطنية والاجتماعية الجامعة.
فكل شخصية قيادية في الحزب الديمقراطي الثوري اليمني كانت كارزما جامعة ومقربة بحيائها ووعيها وإنسانيتها ،شخصيات مبشرة لا منفِّرة، ولهذا انتشر هذا الحزب بتلك السرعة ،رغم بساطة وسائل التواصل والاتصال والتنقل في الجغرافيات المدينية والفلاحية .
ولنا في تجربة الإخوان المسلمين في اليمن نموذج آخر في انتشاره ثم انكماشه، فلقد كان انتشاره يعتمد على توسيع تحالفاته ،فمنذ الستينيات تحالف مع القبيلة السياسية وحزب البعث؛ أي أنه انطلق في مسار العمل الجبهوي أو التجمعي منذ وقت مبكر .ومن هنا كان اختيار اسم (التجمع اليمني للإصلاح ) فهو تجمع جبهوي التكوين ،لقوى يجمعها رابط المصالح المشتركة ،والموقف الاجتماعي المشترك .
لهذا كانت أولى تحالفاته المعلنة عام 1993م مع حزب البعث ،وكان المؤتمر الشعبي العام مظلته التي تعينه على الحركة والاتساع والتأثير من خلال توظيف المؤسسة العسكرية والمدنية في انتشار التنظيم .
وحين شعر تجمع الإصلاح -وهي التسمية العلنية لتحالفات تنظيم الإخوان المسلمين في اليمن – منذ انتخابات 1997م أن تحالفه مع الرئيس علي عبدالله صالح وتنظيم المؤتمر الشعبي يتجه نحو فك الارتباط ،اتجه نحو تأسيس المجلس الأعلى لتنسيق الأحزاب، ثم أسهم في تأسيس اللقاء المشترك لأحزاب المعارضة ،ووصلت ذرونه وذكاؤه السياسي أن طالب بعد أحداث 2011م أن يتحول (اللقاء المشترك ) إلى حزب تنصهر فيه جميع الأحزاب ،وحين تلاشت عنه مظلة (اللقاء المشترك)وفقد بوصلة الوطن الجامع ليسقط في ضيق (الهويات الطاردة ) وأصبحت المناطقية والمذهبية موقفه ومنظوره ،وشهوة السلطة الانفرادية ولو بإمارات صغيرة ومفككة غايته- أصبح في أوهن حالاته ،وتحولت الجغرافيات الضيقة والرؤى المذهبية المعتمة معتقلا له.
وهكذا فإن قوة كل حركة سياسية باتساع دوائر انتمائها وطنيا وعروبيا وإنسانيا ،وعلى النقيض من ذلك تصبح كل حركة سياسية في حالة ضمور وانكماش حين تفقد بوصلتها الوطنية ،وتضيق الرؤية المنطلقة من الهويات الصغيرة .
كل حركة سياسية حين تنكفئ على ذاتها بفعل عدم قدرتها على تجسير علاقتها مع المغاير تعكس أزمة تكوينها ،وتستسلم لضجيج الخيرية ،فتدخل في طور الشيخوخة.