حروب أمريكا الخاسرة من فيتنام الى سوريا واليمن (15)
أحمد الحبيشي
بعد نكبة 11 فبراير 2011م التي عصفت باليمن ، نشر موقع وزارة الخارجية الاسرائيلية تقريرا يفيد بوصول آخر يهود اليمن في عملية سرية الى اسرائيل!!
وبحسب مكتب الصحافة الحكومي في مجلس الوزراء، نشرت وزارة الخارجية الاسرائيلية خبرا يفيد بأن هذه المجموعة اليهودية وصلت اسرائيل عبر عملية إنقاذ شملت 19 من اليهود في صنعاء وريدة ، حيث تم نقل القادمين من اليمن الى مركز استيعاب في بئر السبع، ثم استقبلهم في القدس رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي تسلم منهم نسخة قديمة من التوراة يزيد عمرها عن 1800 عام مقرونة بلفيفة “سفر الملكة استير” التي يتم تلاوتها في عيد المساخر (بوريم).
الى ذلك قالت صحيفة يديعوت احرونوت الاسرائيلية ان ناتان شارانسكي المدير التنفيذي للوكالة اليهودية العالمية ، وصف وصول الدفعة الأخيرة من المواطنين اليهود في اليمن مدعومةً بما أسماه (الربيع العبري) ، بأنها ” لحظة هامة للغاية ” في تاريخ اسرائيل ، مشيراً الى انه منذ عام 1949 وحتى اليوم ساعدت الوكالة اليهودية على توطين يهود اليمن في اسرائيل ، واليوم تتم “هذه المهمة التاريخية” ، لتفتح ما أسماه ” فصلا حاسما ” في تدوين تاريخ اقدم الحضارات اليهودية في العالم.
بحسب ناتان شارانسكي وكبار المؤرخين والباحثين في اللاهوت اليهودي ، تجسدت بدايات الحضارات اليهودية القديمة في المساهمة الفريدة ليهود اليمن وملوك بني اسرائيل في بناء صروح تلك الحضارات التي يرجع تاريخها الى الفي عام ، وستستمر في إسرائيل ومحيطها الجيوسياسي الذي بدأ يتقبَّل فكرة “الانفتاح على اسرائيل والتعايش معها ” بحسب قوله!!؟؟
وفي شهر يناير من هذا العام 2019م، قالت صحيفة (هآرتز) الإسرائيلية نقلا عن مصادر عسكرية إن إسرائيل لم تقدم في الحرب على اليمن دعما لوجيستيا فقط ، بل شاركت ميدانيا في عمليات جوية وبحرية في سواحل عدن والحديدة وميدي .
ثمة سؤال مشروع يتعلق بأسرار تزامن العدوان على اليمن، الذي يحظى بدعم سياسي وعسكري وفكري من التيّار الصهيوني المسيحي المحافظ في أمريكا وأوروبا، مع بروز مشروع صفقة القرن وتطبيع العلاقات بين اسرائيل ودول التحالف السعودي الاماراتي بشكل صريح وعلني، تحت مُسمّى (إعادة الشرعية) الى اليمن، بموازاة تصاعد السباق الدولي للسيطرة على طرق الملاحة الدولية في أعالي البحار؟
يزيد من أهمية هذا السؤال ان الدراسات اللاهوتية اليهودية المسيحية بدأت منذ العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006م تحت شعار “بناء الشرق الأوسط الجديد”، تتجه نحو البحث عن مفهوم (اسرائيل المتخيَّلة ) انطلاقا مما تُسمّى فرضية (أرض التوراة في اليمن القديم) ، وصولاً الى المشاركة الاسرائيلية المباشرة في العدوان على اليمن، بهدف تحقيق هدفين استراتيجيين وخطيرين لإسرائيل :
الأول/ يتمثل في التطلع نحو السيطرة على السواحل الغربية اليمنية المطلة على طرق الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وصولا الى السواحل الهندية والافريقية التي تحتوى على مفاتيح التاريخ اليهودي القديم .
والثاني / يتمثل في استعادة الحضور التاريخي في المناطق اليمنية الشرقية الغنية بمصادر الحضارة الحديثة ممثلة ًبالنفط والغاز والماء على تخوم صحراء الربع الخالي في جنوب الجزيرة العربية، حيث أنشأ اليهود وملوك بني اسرائيل أقدم الحضارات اليهودية اليمنية في دول سبأ وحمير القديمة ومعين، حيث يجري التخطيط منذ عام 2011م لإنشاء أقاليم مستقلة في مارب وحضرموت والجوف وحجة ونجران وجزيرة سقطرى، وصولا الى ساحل عُمان وخليج عدن بحسب ما يستهدف العدوان على اليمن تحقيقه.
في الدقائق الأولى من يوم السادس والعشرين من مارس 2015م بتوقيت صنعاء، شنت الطائرات السعودية الإماراتية قصفا جويّاً واسعا على كافة المعسكرات والقواعد الجوية والبحرية والموانئ والمطارات والطرقات والجسور ومخازن الأسلحة في عموم الجمهورية اليمنية، بالتزامن مع إعلان السفير السعودي السابق ووزير الخارجية الحالي عادل الجبير من واشنطن عن بدء العدوان على اليمن، وتشكيل ما يُسمّى (التحالف العربي لإعادة الشرعية) بدعم لوجيستي عسكري وسياسي من الولايات المتحدة الأمريكية.
لن نُقارب في هذا البحث أكذوبة (إعادة الشرعية) التي استخدمها المعتدون وداعموهم الدوليون كغطاء للعدوان على اليمن، وما ترتب عليه من تدمير للبنية التحتية لبلادنا وقتل وسفك دماء أبناء وبنات الشعب اليمني رجالا ونساءً وأطفالاً، وفرض حصار بري وبحري وجوي خانق عليهم بهدف تجويعهم وإجبارهم على الركوع والاستسلام.
من نافل القول ان ثمّة أهدافا عسكرية وسياسية وجيوسياسية للعدوان انكشفت وظهرت الى العلن بعد عجز جيوش ما يُسمّى (التحالف العربي لإعادة الشرعية) الى اليمن عن حسم المعركة خلال شهر واحد، وذلك بفضل صمود وبطولات وتضحيات شعبنا والقوى المناهضة للعدوان، وفشل مراهنات العدو السعودي وحلفائه من المرتزقة والنُخب السياسية القديمة في تحقيق أهداف العدوان خلال فترة قصيرة، واقتسام كعكة النصر التي أصبحت بعيدة المنال عليهم.
ولعل أهم ما يُميِّز الأطماع المشتركة لقوى العدوان على اليمن ، هو طابعها (الحلزوني) الذي يُجسِّد هشاشة التحالف السعودي الإماراتي ، وغلبة رواسب الصراعات والمطامع القديمة بين الممالك الوراثية العائلية ، وإصرار النخب العائلية الحاكمة على استعادة تلك الصراعات من خلال تدويرها (حلزونياً) الى بدايات القرن التاسع عشر الميلادي عبر مفاعيل العدوان المشترك على اليمن ، الأمر الي أدى الى دخول الكيان الصهيوني وحسابات الدول الاستعمارية في حقبة الحرب الباردة على خط هذا التدوير (الحلزوني) الانتحاري للمطامع والنزاعات القديمة ، وهو ما سنأتي الى توضيحه لاحقاً.
لم يكن اسلوب قوى العدوان متطابقا في الاستعانة بالجماعات الارهابية في المحافظات الجنوبية المحتلة تحت مُسمّى (المقاومة الشعبية)، فقد اتجهت الامارات الى التعامل مع الجماعات السلفية الجهادية، فيما تعاملت السعودية مع (القاعدة وداعش وأنصار الشريعة)، ما أدّى الى تغوّل هذه الجماعات في بعض المدن والمحافظات الرئيسية وخاصة عدن وحضرموت وأبين وتعز.
كان واضحا ان المستفيد الأكبر من العدوان على اليمن هو الجماعات الإرهابية ، ولم يُخفِ وزراء خارجية بعض الدول الكبرى وبعض وكالات الأنباء الغربية والصحف الأمريكية التعبير عن مشاعر القلق لانتشار وتنامي نفوذ الجماعات الارهابية تحت مظلة العمليات العسكرية للقوات السعودية والاماراتية في اليمن.
لا يمكن تجاهل دور الصمود البطولي للشعب اليمني وانتصاراته في العمق السعودي ومختلف جبهات القتال في صُنع معادلات ومتغيرات جديدة أضغفت بنيان تحالف العدوان السعودي الاماراتي وأصابته بالتصدع، وأظهرت الى السطح تناقضاته وهشاشته ، الأمر الذي أتاح للقوى الامبريالية والصهيونية فرص ابتزاز دول العدوان على اليمن ماليا وأمنياً وجيوسياسيا بذريعة دورها في نشر وتمويل الارهاب ،ومواصلة توريط هذه الدول في مستنقع الحرب العدوانية على اليمن من أجل زيادة فرص ابتزازها ماليا وعسكريا.
والحال أن تحالف العدوان غير المقدّس على اليمن كشف تناقضات الطبيعة البدوية التناحرية للمالك العائلية الوراثية التي أضفت عليها الثروة النفطية قبل 50 عاما بعض القشور الحداثية الشكلية والمظهرية التي تُخفي تحتها ندوباَ من الثأرات البدوية والأطماع التوسعية ، تعود جذورها الى عهود الغزوات الداخلية في نجد وصحراء وسواحل الخليج بين عبس وذبيان وكندة وربيعة ، بهدف السيطرة على المراعي ومصادر المياه وطرق القوافل التجارية ، قبل أن يأتي الإسلام ليدفع بالعشائر البدوية المتنازعة الى فضاء الفتوحات والغزوات الخارجية ، ثم عادت ًوبصورة حلزونية الى التنازع مجددا على ملكية الأراضي وقطع الطرق ونهب القوافل والمراكب التجارية ، بعد أفول عصر اقتصاد الخراج وظهور الاستعمار الذي أخضع مشائخ العشائر البدوية في اتفاقيات الحماية ودفع الرواتب ، مقابل الطاعة والولاء والخضوع والتبعية للمتروبول الاستعماري.
في هذا السياق كشفت العمليات العسكرية لقوى العدوان عدم تطابق المصالح الإماراتية مع الأهداف السعودية التي تريد ضمان حدودها الجنوبية ، واستعادة أطماعها التاريخية في مد شبكة أنابيب لنقل النفط من شرق ووسط المملكة السعودية والربع الخالي الى المحيط الهندي عبر محافظة حضرموت اليمنية.
لم يعُد خافيا على أحد أن الحاكم الفعلي لإمارة (أبو ظبي) محمد بن زايد بنى منظومة من الأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية أثناء الحرب في المحافظات الجنوبية المحتلة ، لا علاقة لها بالأهداف المحددة في إعلانات “عاصفة الحزم” أو “إعادة الأمل” لاحقاً.
كانت السواحل والموانئ والجزر اليمنية، عقدةً لحكام أبو ظبي منذ عقود، كما أن تمدُّد النفوذ الإماراتي نحو الجنوب الشرقي، باتجاه الحدود العمانية تحديداً، ظل حلماً عتيقاً لآل نهيان الذين كانوا حتى منتصف القرن الثامن عشر جزءا لا يتجزأ من الامبراطورية البحرية العمانية التي امتد نفوذها من السواحل العربية على ضفاف الخليج الفارسي والمحيط الهندي ، الى ولاية زنجبار في شرق أفريقيا قبل أن يسيطر الاستعمار البريطاني على هذه السواحل في القزن السابع عشر.
تأسيساً على ذلك وفّر العدوان على اليمن فرصة غير مسبوقة ساعدت حكام إمارة (أبو ظبي) على الوصول الى حدود سلطنة عُمان وميناء صلالة ، والسيطرة الكاملة على كافة موانئ خليج عدن والبحر الأحمر والبحر العربي التي تنافس ميناءي دبي وأبوظبي ، باسنثناء ميناء الحديدة الذي فشلت قوى العدوان في السيطرة العسكرية عليه!!
لا ريب في أن ميناء عدن يُعد من أكبر الموانئ الطبيعية في العالم، وقد تم تصنيفه في الخمسينيات من القرن الماضي كثاني ميناء في العالم لتزويد السفن بالوقود بعد ميناء نيويورك. ويقع ميناء عدن على الخط الملاحي الدولي رابطاً بين الشرق ووالغرب ، ولا تحتاج السفن فيه لأكثر من 4 أميال بحرية فقط لتغيير اتجاهها للوصول إلى محطة إرشاد الميناء.
ولأهمية هذا الميناء الاستراتيجي، ترى الإمارات، أن ميناء عدن يشكل أبرز التهديدات والتخديات بحيث يمكن أن يقضي على الأهمية الاستراتيجية لمدينة دبي، ولهذا فقد سعت باكراً لتعطيل الميناء المطل على مضيق باب المندب غربي محافظة تعز اليمنية، بما يحمله من أهمية استراتيجية كممر للتجارة العالمية، ومن ثم السيطرة العسكرية والسياسية على مدينة عدن عبر تواجدها الميداني الذي أتاحه لها العدوان على اليمن ، واستكمال سيطرتها عبر حلفائها من بعض فصائل الحراك الجنوبي والحركات السلفية.
مما له دلالة على ان الإمارات عززت قبضتها الأمنية عن طريق تشكيل ما تسمى قوات الحزام الأمني التي تتبعها مباشرة. وأوكلت مهمة إدارة “الحزام الأمني” إلى فصائل سلفية وحراكية موالية لها، ومن خلال هذا الحزام تتحكم بالداخلين والخارجين إلى مدينة عدن، ويكون تعاملها مع المواطنين بالغالب وفقاً للهوية، إذ سُجِّلت مضايقات تعرض لها أبناء المحافظات الشمالية خصوصاً الوافدين من تعز، ومنعهم من دخول عدن.
ويعد محافظ عدن السابق عيدروس الزبيدي، والوزير السلفي السابق هاني بن بريك، أهم الشخصيات المتحالفة مع الإمارات والمدافعة عن مصالحها في اليمن، إذ أديا الدور المنوط بهما من خلال منصبيهما السياديين في عدن المحتلة ، قبل أن يقوم (الفار هادي) بإقالتهما وإحالة الوزير بن بريك للتحقيق.
وبعد إقالة هادي للرجلين من منصبيهما أطلقت سلطات الاحتلال الإماراتية الضوء الأخضر لتشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي، بما يتيح للإمارات، أن تبقى اللاعب المتحكم بتصاعد أو انخفاض الأصوات المطالبة بالانفصال حسبما تقتضي مصالح تواجدها العسكري والاقتصادي والسياسي في اليمن جنوباً.
وتهدف الإمارات، من خلال فرض تواجد مجلس الزبيدي وبن بريك والكيانات الأمنية الموازية ، الى توسيع نفوذها العسكري في المناطق الساحلية والسيطرة على الموانئ اليمنية وهو هدف استراتيجي لتدخلها في الجنوب اليمني المحتل ، حيث قامت بالسيطرة على مضيق باب المندب الذي يعد من أهم منافذ التجارة العالمية ، و تفصل بين ضفتيه مسافة 30 كيلومتراً (20 ميلا) تقريباً من رأس منهالي في الساحل الآسيوي إلى رأس سيان على الساحل الأفريقي . فيما تفصل جزيرة بريم (مَيّون) اليمنية هذا المضيق إلى قناتين، الشرقية منها تعرف باسم باب اسكندر وعرضها 3 كيلومترات وعمقها 30متراً. أما القناة الغربية فهي “دقة المايون” وعرضها 25 كيلومتراً وعمقها يصل إلى 31 متراً، ما يمنح الجمهورية اليمنية أفضلية استراتيجية في السيطرة على الممر لامتلاكها جزيرة “بريم” .
وباتت الإمارات، بالسيطرة على المضيق البحري، تتحكم في حركة السفن التجارية مع حلفائها الدوليين والإقليميين بما فيهم اسرائيل، ما مكّنها أيضاً من التوجه شمالاً نحو باب المندب وميناء المخا والسيطرة عليهما لاستكمال هدفها المتمثل بالسيطرة على الموانئ اليمنية في السواحل اليمنية الغربية التي تُطل على البحر الأحمر وعلى رأسها ميناء الحديدة وميناء ميدي.
وخلال دخول قواتها إلى سواحل المخا الاستراتيجية، عملت الإمارات على الاستعانة بقوات جنوبية حليفة لها في معركة المخا بقيادة وزير الدفاع الأسبق هيثم قاسم طاهر الذي عاد أخيراً لقيادة قوات جنوبية تعتبر جزءا من قوات الإمارات، على الرغم من أن سواحل المخا تتبع جغرافياً محافظة تعز اليمنية، وهو ما أثار المخاوف لدى الكثيرين من بروز الأطماع التوسعية للإمارات والتي تنفذها عبر حلفائها الرئيسيين المتمثلين بالحراك الجنوبي والجماعات السلفية، في إطار دورها الذي انحصر في العمليات العسكرية على المناطق الساحلية قبل ان تتدخل أخيراً في مارب، وتمسك ملف تعز رسمياً.
وتسعى الإمارات اليوم للسيطرة على ميناء الحديدة في إطار معركة الساحل الغربي والتي أعلن عنها قبل أشهر، وهو الميناء الذي يتبنى المبعوث الأممي مشروعا تسعى قوى العدوان من خلاله الى تحقيق نصر بلا حرب ، من حلال المطالبة بتسليمه لطرف ثالث ، وهو ما ترفضه بحزم القوى الوطنية المناهضة للعدوان.
يتبع..