السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في محاضرته الرمضانية الـ23:

التكبر على الآخرين آفة خطيرة وخصوصا عندما يكون ذلك السلوك ممن يتبوأون مواقع في السلطة

 

 

 

الثورة /
شدد السيد عبد الملك الحوثي على ضرورة التحلي بقيم الإسلام في السلوك في الحياة والابتعاد عن صفات الكبر والغرور والتعالي ، وخصوصا لمن يتبوأون مواقع المسؤولية ، لأن الآثار السلبية لهذا السلوك تكون خطيرة ومؤثرة على المجتمع بكامله .
وقال في محاضرته الرمضانية مساء أمس ، أن الله يريد لنا كمسلمين وكمجتمعٍ مسلم، ولكلٍ منا كفردٍ مسلم أن يكون منزهاً من هذه الرذيلة، من هذه الصفة السيئة جدًّا، من هذا الخلق الذميم الذي هو الكبر، والذي يظهر أثره في مواقف الإنسان وتصرفاته في هذه الحياة في جوانب متعددة، منها: في تقبله للحق، والبعد عن الإنصاف، والتفاهم .
وحث السيد عبدالملك في محاضرته على أهمية مراعاة النعم التي منَّ الله بها علينا ، وأن لا نسيء توظيف هذه النعم سواء منها المالية أو الاجتماعية أو الفكرية ـ أو نعكسها بالكبر والعجب والتعالي والغطرسة ..
وفي ما يلى نص المحاضرة :
أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ المَلِكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عَبْدُه ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــدٍ، كما صَلَّيْتَ وباركت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛
وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
قال الله -سبحانه وتعالى- في كتابه المبارك: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء: الآية37]، الآية المباركة ضمن التوجيهات الإلهية في سورة الإسراء، وقد تقدَّم الكثير من الآيات تناولت جوانب كثيرة في مختلف شؤون حياة الإنسان، وهذا التوجيه الإلهي المهم الذي ينهى الله فيه عن التحرك والسلوك المعبِّر عن حالة الكبر والغرور، {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} مشية المتكبر المغرور.
السلوك والتحرك والتصرفات التي تعبِّر عن حالة الكبر والغرور محرمةٌ في الإسلام والنهي عنها متكررٌ في القرآن الكريم، والكبر هو من المساوئ والرذائل الخطيرة جدًّا، وأول ما عصي الله به- كما في الروايات- هو الكبر، في معصية إبليس التي أطاحت بكل ما له من مقام ومكان في العبادة بين أوساط الملائكة، وتحوَّل بسبب ذلك إلى ملعون ومطرود من رحمة الله، ورمز للشر والجريمة والرذائل والنقائص.
الله -سبحانه وتعالى- يريد لنا كمسلمين وكمجتمعٍ مسلم، ولكلٍ منا كفردٍ مسلم أن يكون منزهاً من هذه الرذيلة، من هذه الصفة السيئة جدًّا، من هذا الخلق الذميم الذي هو الكبر، والذي يظهر أثره في مواقف الإنسان وتصرفاته في هذه الحياة في جوانب متعددة، منها: في تقبله للحق، الإنسان المتكبر لا يتقبل الحق في كثيرٍ من الأمور، يكون بعيداً عن الإنصاف، بعيداً عن التفاهم، يظهر في سلوكه التغطرس والتعالي على الآخرين، وعدم الاحترام للآخرين، وعدم التقدير للآخرين، والتباهي بنفسه، وصولاً إلى مشيته حتى هي، حتى طريقته في المشي، سواءً في حالة التبختر وهو يتحرك ويظهر تبختره وتعاليه، ويظهر عليه هذا التباهي بنفسه، والكبر بنفسه، أو في حركته في هذا الزمن في السيارة أو في الطائرة… أو في وسيلة من الوسائل التي تستخدم، التي قد تكون معبرة عن لا مبالاته بالآخرين، وعن تكبره على الآخرين، وعن غطرسته على الآخرين.
الكبر صفة سلبية جدًّا، ينشأ عنها سلوكيات وتصرفات سيئة في مجالات كثيرة من مجالات الحياة، ولهذا أتى التحريم له والنهي عنه كثيراً، والتأكيد على ذلك كثيراً في الشريعة الإسلامية وفي القرآن الكريم، والإنسان أيضاً عندما يصل إلى موقع من مواقع المسؤولية وهو متكبر تكون الطامة أكبر، تكون السلبيات أكثر عندما يصل إلى موقع قرار، أو موقع سلطة، أو موقع له فيه تأثير، وله فيه نفوذ، يؤثر هذا حتى في قراراته، حتى في مواقفه، حتى في سياساته وأفكاره وتوجهاته، يؤثِّر عليه الكبر في ذلك؛ فيتصرف تصرفات ظالمة خاطئة، تتسم بالطغيان، ويكون لها أثر سلبي حتى في تعامله مع المواقف، مع القضايا، فهي صفة خطيرة على الإنسان في أي موقعٍ من مواقع المسؤولية، وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة، وعلى كل إنسان، ولكن عندما يكون في موقع المسؤولية تكون المسألة أخطر وأسوء، ونتائجها في الواقع أسوء بكثير، وهذا ما حصل كثيراً في واقع البشر، في واقع البشر كثيرٌ من الزعماء الطغاة هم في واقع الحال أيضاً يتصفون بصفة التكبّر، وأثَّرت عليهم هذه الصفة في قراراتهم، في أعمالهم، في تصرفاتهم، في لا مبالاتهم بالناس، وبحياة الناس، وبأمور الناس، وبشؤون الناس.
التكبر هو يتولد – في كثيرٍ من الحالات، أو في كل حالاته- عن العجب والغرور، الإنسان المعجب بنفسه، الذي يعجب بنفسه: إما لوهمٍ عن كمالٍ، يتوهم نفسه أنه صاحب كمالٍ معين، يعتبر نفسه أنه صاحب كمالٍ معين؛ وبالتالي يصاب بالعجب يعجب بنفسه ويغتر بنفسه، وينظر إلى نفسه بأنه أصبح إما ذكياً، أو عالماً، أو أنه أصبح فاهماً، ويحمل معارف، ويحمل علوماً… أو أي صفات أخرى أعجب بنفسه لأجلها، أي صفات أخرى، تختلف الحالة بحسب فئات الناس ومشاربهم وتوجهاتهم في الحياة، البعض قد يكون مغروراً ومعجباً بنفسه فيما يتعلق بالذكاء والفهم والتفكير والمعرفة، البعض لا، قد يكون معجباً بنفسه فيما يتعلق بالشجاعة… يعني صفات نفسية معنوية، فالبعض بصفات معنوية ونفسية معينة يعجب بنفسه، والبعض قد يكون سبب العجب بنفسه الواقع الذي يعيشه أنه ثري، أنه يمتلك أموالاً طائلة، سلطة، أو أن له وجاهة، أو أنه يجمع بين الأمرين: ثروة ووجاهة في المجتمع، وقابلية وتأثير في المجتمع، البعض قد يكون لموقع ديني، عالم ديني، شخصية دينية، إمام مسجد، خطيب جامع، ويرى لنفسه الاحترام من الآخرين, التقدير من الآخرين ويشار إليه بالبنان، فيشعر بالعجب تجاه نفسه، ويرتاح لنفسه كثيراً، ويعتبر نفسه إنساناً مهماً وعظيماً، وينشأ عن هذا حالة نفسية سلبية جدًّا، البعض قد يكون لموقعه مثلاً كقائد أمني، أو قائد عسكري… أو أي موقع من مواقع المسؤولية، عادةً ما يكون هؤلاء الناس من لهم مكانة وأهمية في المجتمع، ونفوذ وتأثير في المجتمع، أو قابلية بين أوساط الناس، أو احترام ومكانة، هم الأقرب إلى أن يصابوا بحالة العجب، الأكثر من غيرهم، والأقرب من غيرهم عرضةً لهذا الداء الخطير جدًّا، لهذا المرض الخبيث، ولهذه الحالة السيئة جدًّا.
الله -سبحانه وتعالى- يعلِّمنا في تربيته لنا من واقع توجيهاته وتزكيته لنا أن نستشعر نعمته علينا في كل نعمةٍ من نعمه، في كل مجالٍ من مجالات النعم، وأن ننطلق على أساس قاعدةٍ مهمة هي: التحميد لله -سبحانه وتعالى- نحن أمة نتعلم أن نقول: (الحمد لله)، أن نكون حامدين لله -سبحانه وتعالى- وهذا مبدأٌ عظيمٌ ومهم إذا استوعبناه جيداً يحمينا من حالة العجب والغرور، (الحمد لله): كل خيرٍ، كل ما يحمد عليه، كل ما يمدح عليه من الخير والفضل والكمال فهو من الله ولله -سبحانه وتعالى- نحن كبشر نحن مصدر النقص والعجز والضعف، نحن لا نملك لأنفسنا لا نفعاً ولا ضراً ولا رشداً، ونحن في واقعنا النفسي في واقع العجز، وواقع الوهن، وواقع الضعف، وواقع العدم، كلما نحصل عليه إنما هو نعمةٌ من الله، عطاءٌ من الله، وفضلٌ من الله -سبحانه وتعالى- فالذي يحمد عليه ويثنى عليه به هو الله؛ لأنه صاحب الفضل، أنت من دون الله لا شيء، أنت عاجز، أنت ضعيف، أنت مفلس، إنَّ كل ما يمكن أن تحصل عليه من مواهب أو قدرات، أو ما تحصل عليه أيضاً من صفات حميدة، إنما هي فضلٌ من الله عليك، إنما هي نعمةٌ من الله عليك، إنما كانت من الله نعمةً أنعم بها عليك، فما نحصل عليه على المستوى المعنوي والنفسي والداخلي في الإنسان: ذكاء، فهم، شجاعة، سخاء… أي صفة حميدة، أو أي جانب معنوي يحصل عليه الإنسان في واقعه الداخلي، أو ما تكسبه وتحصل عليه في الواقع من نعمةٍ مادية: كمال، أو نعمة وجاهة وقابلية في أوساط الناس، كل هذا يعتبر نعمةً أنعم الله بها عليك، ويمكن أن يسلبك هذه النعمة وتبقى لا شيء.
فالإنسان المؤمن هو يعترف بالنعمة لله، بالفضل لله عليه؛ وبالتالي مهما حصل عليه من نعم، مهما منحه الله من مواهب، وقدرات، وطاقات، وإبداعات، أو إمكانات مكَّنه بها؛ إنما هو يزداد انشداداً إلى الله، إحساسا في وجدانه ومشاعره بالفضل من الله عليه وبالنعمة عليه، يزداد محبةً لله، يزداد توجهاً نحو الله، اعترافاً بالجميل لصاحب الجميل وهو الله -سبحانه وتعالى- لا يتجه إلى نفسه لتعظم نفسه عنده، وأنه وكأنه هو المصدر الأساس لتلك المواهب، أو لتلك القدرات، أو لتلك الطاقات، أو لتلك الإمكانات التي حصل عليها، لا يحصل هذا أبداً، الإنسان المعجب بنفسه هو ناكرٌ للجميل، هو كافرٌ بالنعمة، هو جاحدٌ للفضل من ذي الفضل وهو الله -سبحانه وتعالى- ولهذا نسي الله، غفل عن الله، تنكَّر لمن أسدى عليه تلك النعم، ومنَّ عليه بها، ونظر وكأنها من ذاته، وكأن المصدر هو هو، وليس الله -سبحانه وتعالى-؛ فعظمت نفسه وكبرت نفسه، وهذه حالة سلبية جدًّا.
النماذج التي قدَّمها لنا القرآن الكريم على مستوى الإمكانات، عندما قدم لنا نموذجاً عظيماً هو نبي الله سليمان -عليه السلام- نبي الله سليمان -عليه السلام- مكَّنه الله تمكيناً كبيراً، وملَّكه ملكاً عظيماً، ومنحه قدرات وإمكانات عجيبة جدًّا، ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وتلك القدرات العجيبة التي سُخِّرت له، لدرجة أنَّ الله سخَّر له الرياح، سخَّر له من يمتلكون مواهب وقدرات عجيبة جدًّا، كانوا وزراء في دولته وأعوان له، من بينهم ما حكاه القرآن الكريم عمَّن عنده علمٌ من الكتاب، وهو من رجال دولته ومن أعوانه، في قصة عرش بلقيس عندما قال نبي الله سليمان -عليه السلام- للملأ حوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}[النمل: 38-39]، العفريت الذي من الجن قدَّم عرضاً وهو أنه مستعدٌ أن يبادر هو فيأتي بعرش ملكة سبأ، وخلال فترة وجيزة: قبل نهاية الدوام ، (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ): قبل أن ينتهي الدوام الذي يجلس فيه نبي الله سليمان -عليه السلام- في مقر العمل، وقد يكون هذا خلال ساعات مثلاً والله أعلم، أما الذي عنده علمٌ من الكتاب فاستعد أن يأتي به خلال لحظات، قال: {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، الطرف هو هذا (طرف العين)، وارتداده في حركة الرمش رمش العين، خلال لحظات يعني خلال لحظات، {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} خلال لحظات أتى بالعرش من مأرب في سبأ إلى فلسطين خلال لحظات، يعني: قطع مسافة قد تكون- والله أعلم- ألفين كيلو متر، أو ما يقارب ذلك، أو أقل من ذلك، أو أكثر من ذلك، لا نعرف بالدقة، لكن مسافة بعيدة جدًّا وخلال لحظات أتى بعرشها {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} قدرات عجيبة، إمكانات عجيبة، أصبحت في إطار نبي الله سليمان وتحت أمره وقدرته وسيطرته وتوجيهاته، قدرات خارقة جدًّا وعجيبة، إلى اليوم لم يحصل عليها البشر ولم يصل إلى مستواها البشر، فماذا كانت مشاعره عندما رأى نفسه أصبح يمتلك قدرات كهذه، إمكانات كهذه، وأصبح مسيطراً على جن وإنس وطير وحيوانات، ويمتلك ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، والرياح مسخرةٌ لنقله مع جنوده {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص : من الآية36]: حيث يريد.
في ظل هذا الجو من الإمكانات الهائلة، والقدرات الكبيرة، والتمكين العظيم، والتسخير العجيب، كيف كانت مشاعر نبي الله سليمان -عليه السلام- هل امتلئ بالغرور والعجب والتكبر أم كيف؟ يحكي القرآن الكريم لنا في تلك اللحظة التي بلغت فيها قدراته وإمكاناته التي مكَّنه الله بها الذروة، المستوى الخارق: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}[النمل: من الآية40]، لاحظوا كيف كان منشداً إلى الله، لم يقل: [أصبحت عظيماً، أصبحت مهماً، أصبحت أمتلك إمكانات وقدرات عظيمة، أصبحت مسيطراً على الجن والإنس والطير]، ثم ينسى الله ويتعاظم نفسه، ثم يتصرف في واقع الحياة في قراراته وأعماله وتصرفاته من هذا المنطلق، كيف يعمل اليوم الزعماء المتكبرون المتغطرسون أليست تعاني منهم البشرية من طغيانهم، وعنجهيتهم وكبرهم، والبشرية ضحية لكبرهم وطغيانهم،
أما نبي الله -سليمان -عليه السلام- فعلى العكس من ذلك، قال: (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي): نعمة من الله أنعم بها عليَّ، الفضل له في ذلك، الحمد له في ذلك، (لِيَبْلُوَنِي): ليختبرني بهذه النعمة العظيمة، (أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ): وكان شاكراً، واتجه ليكون شاكراً، فلذلك حالة العجب هي نكرانٌ للنعم، نكرانٌ لفضل الله على الإنسان، وفي نفس الوقت تبعد الإنسان عن الشكر، الشكر حتى في تقدير النعمة على المستوى النفسي والمشاعر، وفي الواقع العملي كذلك تصرفات الإنسان تتأثر بحالته النفسية إلى حدٍ كبير.
النموذج المختلف الآخر: قارون، قارون بما بمكَّنه الله من إمكانات كبيرة، وصلت إمكاناته المادية إلى مستوى عجيب، {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}[القصص: من الآية76]، الْعُصْبَةِ: الجماعة من الناس، أُولِي الْقُوَّةِ: الأقوياء، يعني: لو اجتمع مجموعة من الناس من أقويائهم لشق عليهم وصعب عليهم حمل مفاتيح كنوزه من كثرة المفاتيح، ترى كم كانت هذه الكنوز، إذا كانت مفاتيحه لهذه الكثرة وبهذا الثقل، لأثقلت مجموعة من الناس من أولي القوة، قارون اغتر بهذه النعمة، بهذه الإمكانات، ونظر نظرةً مختلفة، لم يعتبر ذلك نعمةً من الله عليه، لم يعتبر الفضل عليه فيما عنده لله -سبحانه وتعالى- بل اعتبر ذلك فضلاً لنفسه فأعجب بنفسه واغتر بنفسه؛ وبالتالي تكبر، وعندما نصحه قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}[القصص: من الآية77]، في الأخير ماذا قال لهم تجاه نصائحهم بكلها؟ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أنا ذكي، وأنا شاطر، وأنا عبقري، وعندي معرفة، استطعت من خلالها أن أكتسب هذه الثروة الهائلة، فحالة العجب حالة سلبية جدًّا يتولد عنها الكبر، ويتنكر الإنسان فيها لله ولفضله عليه، ويتجه بدلاً من أن يكون منشداً إلى الله، منشداً إلى ذاته، معجباً بنفسه، مغروراً بنفسه، وهذه حالة سلبية جدًّا وخطيرة للغاية، وتسبب مقتاً من الله، يكون الإنسان ممقوتاً من الله، ومكروهاً عند الله -سبحانه وتعالى- .
تكرر في القرآن الكريم التأكيد على أن من يعاني من هذه الحالة: من العجب بالنفس، والاختيال، والغرور بالنفس، ممقوت عند الله، مكروه عند الله -سبحانه وتعالى- أتى في سورة النساء قول الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء: 36]، (لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا): هو ممقوت عند الله، ومكروه عند الله، يكرهه الله، وليس له أي قيمة عند الله، أي قيمة نهائياً، بل إن الله يكرهه ويمقته ويسخط عليه، أتى أيضاً في سورة لقمان كذلك: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[لقمان: الآية18]، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، أتى في سورة الحديد أيضاً: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد: من الآية23]، فهذا- حسب تعبيرنا المحلي- «المنخط « ممقوت عند الله، مكروه عند الله، لا قيمة له عند الله، والإنسان المؤمن حقاً هو من يسعى لأن يكون محبوباً عند الله، وأن يكون له مكانته عند الله وقدره عند الله، هذا هو المهم، أهم من الناس.
والمعجب بنفسه والمتكبر يتوهم أيضاً أنه بتكبره وتصرفاته المطبوعة بطابع الكبر التي فيها نخيط على حسب تعبيرنا المحلي، أنه يصبح له أهمية بنظر الناس، وأنه يلفت انتباههم إليه وينظرون إليه أنه كبير عندما «ينخط «ويتضخم على الناس، والأمر ليس كذلك، يعني: هو مفلس حتى في هذه النقطة، الناس عادةً يكرهون المتكبر، يستاءون منه، ينفرون منه، يعني: هو لا يحظى عندما يتصور أنه سيحظى في نظر الناس بالنظرة بالإكبار إليه، وأنه أصبح شيئاً ضخماً، وشيئاً مهماً، وشيئاً عظيماً. لا، الناس لا يكرهون شيئاً مثلما يكرهون المتكبر، مثلما يمقتون المتكبر، بل تنزل مكانته، قيمته لديهم، جمهور الناس بفطرتهم يحبون المتواضع، ويجلون المتواضع، وينظرون بالاحترام إلى الإنسان المتواضع، قد يكون القلة من الناس من ينظرون بالإكبار إلى المتكبر، من في نفوسهم هم جذور للكبر، البعض يعني «منخطين» وهم، بس ما استطاعوا، يعني: ما أتيحت لهم ظروف («يتضيخموا وينخطوا»، فبن يكيف على ذي منخط، المنخط بن يكيف على ذي منخط، ما بلا إنه ما جاي له فرصة وهو ينخط، لو جت له فرصة وينخط )وهو من عنده، أما جمهور الناس بفطرتهم هم يمقتون ويكرهون ويحتقرون المتكبر، وهذه حالة سلبية، بمعنى: أنَّ المتكبر لا يحقق هدفه بلفت نظر الناس إليه بأن ينظروا إليه بإكبار، إنما يستاءون منه، والكثير من الناس ينفرون منه، إنما- كما يقال في المثل- الطيور على أشكالها تقع، «المنخطون «والمتكبرون من يعجبون به؛ لأنهم البعض لو أتيح لهم لفعلوا كفعلهم.
فلذلك ممقوت كل سلوك يعبر عن التكبر ويعتاد عليه أهل الكبر، مذموم، وينبغي الحذر منه، والتجنب له، والحذر من حالة العجب، وأن يدرك الإنسان إذا منَّ الله عليه بنعمة: نعمة معنوية، أو نعمة مادية، أو إمكانات معينة، أو مكانة معينة، أنَّ الفضل لله، أن ينشد إلى الله، وأن يحمد الله -سبحانه وتعالى- إذا وفقه الله لتحقيق أي إنجاز مهما كان هذا الإنجاز، قدَّم القرآن نموذجاً راقياً وعجيباً في هذا الجانب هو: ذو القرنين، ذو القرنين: ملك صالح مكَّنه الله تمكيناً عظيماً، قال الله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ}: تمكين كبير من الله {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}[الكهف: الآية84]: أعطاه الله قدرات عجيبة وواسعة، قال عنها: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}: قدرات واسعة.
ذو القرنين هذا عندما صنع إنجازاً عظيماً وكبيراً ومهماً، هو السد الحديدي، الردم الحديدي الذي عمله كحاجز ليحمي به مجتمعاً من المجتمعات كان يعاني من هجمات سنوية من جانب يأجوج ومأجوج، فعمل سداً حديدياً من قطع الحديد التي أوقد النار عليها، ثم أفرغ عليها القطر، فأصبح ردماً حديدياً متماسكاً، وعجزت يأجوج مأجوج عن اختراقه، وعن كسره، وعن خرقه، وعن الصعود أو التسلق من خلاله، هذا الإنجاز العملاق الذي حمى به مجتمعاً من المجتمعات، لم يركِّز حتى أن يكتب عليه: [هذا الإنجاز العظيم من ذي القرنين، والفضل له، وهذا من محامده وإنجازاته…وإلخ]. ماذا قال ذو القرنين بعد إنجاز أو بعد تحقيق هذا الإنجاز الكبير؟ {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}[الكهف: من الآية98]، انظروا، البعض لإنجاز بسيط، أو عمل بسيط يتحقق على يديه بتوفيق من الله، ينسى الله، ينسى الله، ويرى الفضل فيما تحقق لنفسه هو، ثم يصبح حتى مستاءً من الآخرين أنهم لم يقدِّروا له ذلك الإنجاز، ومغروراً بنفسه، وهذه الحالة خطيرة على الإنسان في كل مجال من مجالات الحياة:
في المجال العسكري، في موقف الحق، إذا أنت مجاهدٌ في سبيل الله -سبحانه وتعالى- وفقك الله لإنجازات عسكرية معينة؛ فاعرف واعلم وتيّقن أنَّ ذلك إنما كان بتوفيقٍ من الله، لا تنظر إلى نفسك أنك أنت أصبحت شجاعاً، ومخططاً عسكرياً، وبارعاً، وأنك وأنك وأنك… فتتمحور حول ذاتك وتنسى الله، ثم تصاب بالغرور، ثم تتكبر في سلوكك، وفي تعاملك مع الناس، هذه حالة خطرة جدًّا.
في الجانب الأمني، إذا وفقك الله لإنجازات أمنية، وأعمال مهمة، واكتشاف خلايا، وتثبيت للأمن والاستقرار، وبناء للعمل الأمني، هذا بتوفيق من الله -سبحانه وتعالى- لا تأتي لتغتر بنفسك، وتعجب بنفسك، وتعتبر نفسك أنك أنت وأنت وأنت وأنت… وتنسى الله، تنسى أنه من وفقك، أنه من مكَّنك، أنه من هيأ لك، أنك في نفسك أنت مصدر العجز والضعف والتلاشي، وهكذا في الجانب الاقتصادي، في الجانب الإداري، في الجانب الاجتماعي، في الجانب الثقافي… في كل مجال من مجالات الحياة، يجب أن يحترس الإنسان من العجب؛ لأنه يتولد عنه الكبر والسلوكيات المتغطرسة التي ينعدم فيها الاحترام للناس تطاولاً عليهم، يتعطل عندك الاحترام للناس، لماذا؟ ترى نفسك أنك أصبحت بمستوى تُحتَرم ولا تَحتَرم، ترى نفسك هكذا أنك أصبحت، على الآخرين فقط أن يحترموك، وأن يقدِّروك، أما أنت فليس عليك أن تحترم الآخرين، لماذا؟ لأنك في نفسك أصبحت شيئاً عظيماً ومهماً، كما يقولون: شخصية متورِّمة، التورم في الذات، هذه حالة سلبية جدًّا جدًّا.
الإنسان المؤمن حقاً كلما منَّ الله عليه بقدرات، بمواهب، أو إمكانات، أو وفقه لتحقيق إنجازات؛ يزداد محبةً لله، وإقبالاً إلى الله، يرى كل ذلك فضلاً من الله عليه، والحالة هي حالة أن يتوجه بالشكر نحو الله -سبحانه وتعالى- وأن يقول: هذا فضل من الله، هذه نعمة من الله، عليَّ أن أشكر{ِيَبْلُوَنِي} كما قال نبي الله سليمان {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، فيزداد محبةً لله وتواضعاً مع عباد الله.
البعض بمجرد أن يمتلك سيارة موديل حديث، أو طقما عسكريا أو أمني خلاص إذا أصبح خلف المقود والسيارة من موديل حديث جديدة ضخمة، والبترول متوفر، سيتحرك بشكلٍ عنيف جدًّا، بشكلٍ لم يقتضيه الواقع، إنما كان يعبِّر به عن البطر، عن الغرور، عن التكبر بهذه الوسيلة، قد يمر من السوق فيتحرك في واقع السوق في داخل السوق بين أوساط الناس بسرعة هائلة يصيب البعض، أو يجعل الناس يهربون من أمامه بشكل مخجل ومؤلم ومؤسف، هذه الحالة من السلوكيات حالة مقيتة، اللامبالاة بالناس، عدم الاحترام للناس، عدم التقدير للناس، السلوكيات هذه سلبية جدًّا، يتوقف في الطريق في الشارع العام؛ لأنه يريد أن يتحدث إلى شخص آخر أيضاً، فيقطع الطريق أمام المارة، ويبقى من خلفه عدد كبير من السيارات ينتظرون لحضرته أن يكمل حديثه مع من يتحدث إليه، ويقطع عليهم الطريق، وهو يرتكب بذلك جريمةً، كان بإمكانه ألا  يقطع الطريق على المارة، وإذا كان يريد أن يتحدث مع شخص آخر فلينعزل، وليخرج من الطريق ليجنب من الطريق ويفتح الطريق للمارة، ويذهب ليتحدث مع ذلك الشخص، مما يعبِّر عن حالة التكبر والغرور والحالة الممقوتة: عدم المبالاة بالناس، وعدم الاحترام للناس، ألا تبالي بهم، تتصرف مثل هذه التصرفات، حتى في حركتك، في السرعة المفرطة، أو في قطع الطريق العام على المارة، أو في المرور من مناطق سكنية بطريقة لا تبالي بها، قد تصيب البعض، قد تدهس البعض بسيارتك وأنت مسرع في منطقة آهلة بالسكان، أو سوق، أو مدينة، ولكن هذه الحالة من عدم الاكتراث بالناس هي حالة خطيرة جدًّا، هي حالة تكبر.
الإنسان المؤمن حقاً لا يعيش حالة التكبر لا في الغرور بنفسه، ولا في الاحتقار للناس، يحترم الناس، يحترم كرامة الناس، فلذلك في كل السلوكيات، في التخاطب، في توجيه الكلام نحو الآخرين، الإنسان المتكبر والمغرور قد يحتقر الآخرين، ويتكلم عليهم بأي كلامٍ جارح، أو فيه تعبير عن حالة الاحتقار، أو الإساءة والانتقاص بغير حق، بغير حق، إنما لا مبالاة بهم… وهكذا كل هذه السلوكيات في التخاطب، أو في حركتك في الحياة بكل أشكالها، بكل أسلوبٍ في التعامل، حتى في الإقبال بالوجه والإعراض به {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}: لا تُشِحْ بوجهك هكذا عنهم وحضرتك لا تتنازل حتى في أن تنظر إليهم، فترفع رأسك إلى الأعلى، كل هذه السلوكيات سيئة جدًّا، الله يقول: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}، اعرف قدرك، اعرف صغرك وما أنت في هذه الأرض، هل تستطيع أن تخرقها لو ضربتها برجلك فتخرق الأرض إلى عمقها الأسفل، تخرج رجلك من تحت الأرض من كبرك وعظمتك وقدرتك، {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}: مهما تعاليت، مهما رفعت رأسك نحو الأعلى وأشحت بوجهك وتعاظمت نفسك، ما أنت في هذه الحياة، إذا رفعت رأسك مهما رفعته قد يرتفع سنتيمترات بسيطة جدًّا لو قد (باينتتف) وهو مرتفع نحو الأعلى، وأنت تشيح بوجهك عن الآخرين، سنتيمترات بسيطة، قد تكون عند جبل من الجبال، لو تسير جبل النبي شعيب في صنعاء، والا تسير جبلا من الجبال في أي محافظة من المحافظات، قد تكون لا تُرى بالعين المجردة من مسافة معينة من صغرك، يحتاجوا ناظور والا شيء لأجل يشاهدوك، صغير جدًّا، أنت في هذا الكون أنت على هذه الأرض أنت صغيرٌ جدًّا، الأرض بكلها صغيرة أمام سائر ملكوت الله -سبحانه وتعالى- أمام غيرها من الأجرام والكتل السماوية التي بعضها أكبر من الأرض بمليون مرة، وأنت ما أنت، اعرف قدرك، خلقت من نطفة، شيءٌ إذا أنعم الله عليك بما كرَّمك به فالفضل له، لا تمتلك ذاتياً لا القدرة، ولا الفضل، ولا الموهبة، إنما بما أعطاك الله، وأنعم به عليك، ذكِّر نفسك بكل هذه الحقائق: {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}، اعرف قدرك.
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء: الآية38]: كلما مضى مما نهى الله عنه في الآيات المباركة الماضية هو من الأشياء السيئة والقبيحة والمكروهة عند الله -سبحانه وتعالى- والنهي عنها نهي شديد يسبب مقت الله، وسخط الله، وغضب الله.
{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (ذَلِكَ): هذه التوجيهات بكلها وحي إلهي أنزله الله إلى عبده ورسوله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- ليس من مجرد كاتب، أو صحفي، أو أستاذ متفلسف قدَّمه من واقع أفكاره المحدودة والضعيفة، هذا من الله، وحي من الله، توجيهات من الله، الذي هو -سبحانه وتعالى- عالم الغيب والشهادة، من يعلم السر في السماوات والأرض، أحكم الحاكمين، ملك السماوات والأرض، رب العالمين، علينا أن نعرف أنه هو مصدر هذه التوجيهات المهمة، ولها كل هذه الأهمية، فهي وحيٌ من الله إلى عبده ورسوله محمد خاتم أنبيائه وسيد رسله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- وهو الرب ربنا -سبحانه وتعالى- ولي نعمتنا، والمالك لنا، والمنعم علينا، والذي يملك أمرنا، وله الحق في أن يصدر التوجيهات والأوامر والقرارات التي يأمرنا فيها بما يريد أن يأمرنا به بمقتضى الحكمة والرحمة.
{مِنَ الْحِكْمَةِ}: وهي كلها توجيهات حكيمة، ليست مجرد تشريعات إلزامية هكذا لنلتزم بها فحسب، إنما هي أيضاً توجيهات حكيمة، صائبة، رشيدة، تصلح بها حياة الفرد، وحياة المجتمع، تنتظم بها الحياة، وفعلاً عندما نبدأ من مسألة المنع لكل أشكال العبودية لغير الله، ثم نظم العلاقة في الواقع الاجتماعي مع الوالدين، مع الأقارب… مع غيرهم، ثم نأتي إلى ما جاء من توجيهات تتعلق بالتصرف المالي والاقتصادي، وما يتعلق به من ترشيد وحكمة وحسن تصرف، ثم جرائم القتل والتحذير عنها، والتحذير عن جريمة الزنا، وحماية الفئات المستضعفة في المجتمع: المسكين، ابن السبيل… غيرهم، المعاملات الاقتصادية فيما يتعلق بالوفاء، بالكيل والوزن والتعاملات هذه التي أيضاً يلحظ فيها المقادير والكميات، ومع المقادير والكميات أيضاً الجودة: جودة المنتج والأمانة في المعاملة، والسلامة من الغش، عندما تعبئ اسطوانة الغاز ثم لا تضخ فيها إلا دون الكمية المفترضة؛ هذه جريمة، يذهب إلى المنزل صاحبها الذي اشتراها ثاني يوم ثالث يوم ( والمرأة) بن تقول له: [نجح اسطوانة الغاز]، كيف نجحت بذا السرعة؟ لأن صاحب المحطة مثلاً لم يضخ فيها الكمية المتفق عليها المفترضة، المقادير والكميات الغش فيها جريمة كبيرة في الإسلام، ولو كان شيئاً يسيراً، ستغش على هذا، وعلى هذا، وعلى ذاك، وعلى ذاك، وعلى ذاك، يصبح في الأخير جريمة فظيعة، في الجودة أيضاً في جودة المنتج، لا يليق بنا كمجتمعٍ مسلم أن تكون المنتجات التي تأتينا مثلاً من اليابان أو من دول أخرى محل ثقة واطمئنان، يشتريها الإنسان وهو مطمئن إلى جودتها، وإذا كانت من بلد إسلامي قلق، هل هي بذات الجودة، قد تكون مغشوشة، قد تكون جودتها ليست بالشكل المطلوب، قد تكون في الواقع رديئة، لا يليق، المفترض أن إنتاجاتنا ومنتجاتنا تفوق في جودتها وفي الأمانة والإتقان ما يتقنه الآخرون، وما يصنعه الآخرون، وما ينتجه الآخرون، الذين أتقنوا بدافع الربح، ونحن علينا أن نتقن أيضاً بدافع الإيمان والتقوى والقيم وسنستفيد الربح في نفس الوقت.
مجموعة هذه التوجيهات الإلهية يترتب عليها الحرية والكرامة في تخليصنا من كل أشكال العبودية لغير الله -سبحانه وتعالى- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، تؤدي إلى استقرار اجتماعي بدءاً في المنزل داخل الأسرة، ثم استقرار في العلاقة مع المجتمع، استقرار اقتصادي ونمو اقتصادي، استقرار أمني، استقرار سياسي، استقرار في كل واقع الحياة، وشؤون الحياة، وتبنينا أمة متآلفة، متعاونة، متآخية، قوية، تتحرك في مسيرة الحياة تبني نفسها وتكون حاضرة بقوة في واقع الحياة، تحمي نفسها من الأخطار، تواجه التحديات والصعوبات، لها أهمية كبيرة، فهي توجيهات كلها حكيمة.
الإنسان كفرد، والمجتمع كمجتمع في مسيرة حياته، في مختلف مجالات الحياة وشؤونها، أو في بعضٍ منها، إما أنه قد يتصرف بناءً على مزاجه الشخصي، والحالة المزاجية حالة شنيعة جدًّا؛ لأنه مثلاً سيتصرف في حالة الغضب بحسب غضبه، يريد أن يرضي غضبه، وهذا سيجعله يتجاوز في كثيرٍ من التصرفات، قد يظلم الآخرين، وقد يظلم نفسه، قد يرتكب الجرائم، قد يأثم، قد يدمِّر علاقته مع الآخرين بدون مبرر، بدون ما يكلف، هذه حالة الغضب والانفعال التي قد يتصرف فيها تصرفات خاطئة، يتجاوز فيها تجاوزات سلبية، يحدث من جانبه تصرفات مهينة مسيئة إليه، إلى أخلاقه، إلى دينه، إلى كرامته، إلى علاقته، إلى موقعه، إلى احترامه… إلى غير ذلك، أو في حالة الشهوة والرغبة والتي قد يتصرف بناءً عليها تصرفات سلبية، أو تصرفات قذرة، أو تصرفات دنيئة ومنحطة، أو تصرفات خسيسة… أو غير ذلك، أو الأطماع وما يتعلق بها، وقد ينتج عنها تصرفات كذلك سلبية جدًّا.
فهذه الحالة التي يتصرف فيها الناس بغرائزهم يصبحون كالحيوانات، لا فرق بين الإنسان الذي أصبح غريزياً، يعني: يتحرك بالغريزة، بالمزاج النفسي، وقت الغضب يتصرف بما يتناسب أو بحسب الغضب، ووقت الرضا والشهوة والرغبة، يحاول أن يسير على أساس ذلك، ويتحرك على أساس ذلك، ويتصرف على حسب ذلك، هذه حالة.
الحالة الأخرى قد يحاول الناس أن يضبطوا حياتهم، وأن يضبطوا تصرفاتهم وأعمالهم ومواقفهم بأفكار وقواعد وأعراف أو قوانين ونظم، يقولون: [لا ينبغي للإنسان- الإنسان في موقع المسؤولية ليس كالحيوانات- لا ينبغي أن يتصرف فقط بحسب الحالة الغريزية، إنما يفترض أن يكون هناك نظام ينظم شؤوننا وحياتنا، ويضبط أعمالنا وتصرفاتنا]، حينها قد يحاول الناس أن يضبطوا ذلك وفق أفكار وتعليمات معينة، قد تكون صدرت من شخص هنا أو شخص هناك، شخصية ذات موهبة قانونية، أو ذات موهبة عرفية، ومعرفة وإلمام بهذا الجانب.
أما الله -سبحانه وتعالى- فما يأتينا منه فهو الحكمة، الحكمة بنفسها، يعني: التصرف الصحيح، الصائب، الموزون، في كل مقامٍ بما يستحقه وما يناسبه؛ لأنك قد تتجاوز الحكمة، قد تتجاوز الصواب، قد تتجاوز ما يستحقه الموقف بميزان الحكمة الذي يلحظ فيه: مشروعيه التصرف، أن يكن تصرفاً مشروعاً، ويلحظ فيه: الجانب المبدئي والأخلاقي للتصرف، ثم يلحظ فيه: الصواب ما يتناسب مع المقام، ما يحقق الهدف المشروع أيضاً.
فالله -جلَّ شأنه- يرشدنا إلى التصرفات والأخلاق والمعاملات الصائبة، الصحيحة، الموزونة، الرشيدة، التي تصلح بها حياتنا على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، والمضبوطة بضابط المبادئ والأخلاق والمصلحة الحقيقية للمجتمع.
{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}، ما يضبط مسيرتنا في الحياة في التوجيهات والأعمال والمواقف كمسيرة إيمانية هو مبدأ التوحيد؛ لأن الانحراف في مبدأ التوحيد يكون أصلاً وسبباً للانحراف في كل شيء، انحراف شامل، لكن مبدأ التوحيد ثمرته العملية هو أنه يضبط مسيرتك على أساسٍ من توجيهات الله وتعليماته، بوصلتك متجه نحو الله دائماً، وما يأتي منه، هو إلهك، وربك الذي تعبده، تخضع له، تدين له، تلتزم بأمره ونهيه، وهذا له أهمية في الدنيا، وله أهمية في الآخرة، الانحراف في مبدأ التوحيد عاقبته: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ} نعوذ بالله {مَلُومًا مَدْحُورًا}.
أكملنا الحديث عن هذه الآيات المباركة وباختصار شديد، وبتركيز على بعض المواضيع التي نرى لها أهمية أو صلة بواقعنا الحالي، القرآن هدْيُه واسعٌ جدًّا، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}[لقمان: من الآية27]، هدي الله واسعٌ جدًّا جدًّا، يواكب كل زمن، وكل مرحلة، وكل ظرف، وكل واقع، إنما تعرضنا لبعضٍ مما نستفيده على ضوء هذه الآيات المباركة فيما تفيده، فيما ترشد إليه، فيما تدل عليه، فيما تهدي إليه بشكلٍ أو بآخر.
أسأل الله أن يهدينا بهذه الآيات المباركة، وأن يوفقنا لطاعته وما يرضيه، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛

قد يعجبك ايضا