الصوم بين العادةِ والعبادةْ!
- عبدالعزيز البغدادي
من أعقد المشكلات التي هجمت على كثير من المجتمعات الإسلامية بفعل طغيان بعض مظاهر العادات على مخ العبادات، بحيث تغلبت الغريزة على العقل وانحرفت الفرائض إلى الضد من عللها وتفوَّق المظهر على الجوهر وضاعت الحكمة في زحام ثقافة التسوق والتسويق ونشوء العادات الاستهلاكية القاتلة !.
فكلما شارف شهر شعبان على الأفول ودنا شهر رمضان نحو الظهور زادت شدة الزحام في محلات الأطعمة والبهارات التي تشهد في هذه الأيام سباقاً على شراء أكبر قدر ممكن منها لتخزينها استعدادا للصيام وكأننا نتهيأ لدخول مارثون (سباق في الإقبال على شراء الأطعمة بأشكالها وألوانها) ، ونرى ربات البيوت يعلنّ حالة الطوارئ والاستنفار وتجنيد كل طاقاتهن في الإثقال على أرباب البيوت استعداداً لهذا السباق القاتل لملء بيت الداء والتفاخر بما يعد مما لذ وطاب خلافاً للأدبيات الدينية والأخلاقية التي تنهى عن هذا السلوك ، وهذه واحدة من مظاهر الفصل بين الأقوال والأفعال ، ولا ابالغ إن قلت بأن ما تنفقه الأسر في هذا الشهر قد يصل إلى ما تنفقه في ستة أشهر في غير رمضان لدرجة تلجأ معها بعض البيوت إلى بيع بعض المقتنيات لمواجهة متطلبات السباق، وبذلك يتحول شهر رمضان الكريم المعتدى عليه إلى معتد ، إلى شهرٍ للنوم بدلاً عن القيام والجهاد بكل معانيه وإلى موسم للمغالاة واتساع عدد التجار اللصوص المغالين لأن المغالاة ليست سوى شكل بذيء من أشكال اللصوصية وخاصة أولئك الذين يحرِّفون الدين ليجعلوه مدافعاً عنهم وعن أي محاولة للحد من لصوصيتهم وجشعهم فنراهم ينتقون مما ينسب للسنة ما يخدم هذا النهم والجشع الذي استفحل بسبب سعيهم إلى الربح السريع ، يحرقون مراحل السعي نحو الغنى كما يحرقون ضمائرهم وشعورهم بالرحمة فلا يفرقون بين الرزق الحلال والحرام !!
في هذا الشهر الذي تغلبت فيه أسوأ العادات على أنقى العبادات وأطهرها مما أضاع الحكمة من الصوم، واختفي الإحساس بكونه فرصة للتقليل من عادة الاستهلاك والتخفيف من الأكل بما يؤدي إليه ذلك من تنقية الروح والجسد إذ المفترض أنه عوضاًعن الثلاث الوجبات التي يتناولها الناس في الفطر يتناول الصائم وجبتين فقط وهذا بالطبع يخفض الإنفاق ثلث مما ينفقه في الأشهر الأخرى!
وفي ذلك منافع جليلة وعديدة منها التخفيف على رب الأسرة من آثار عادة الجنون الجماعي الذي يصيب الأسر المشاركة في السباق المحموم وغير المحمود الذي نلحظ مظاهره في شدة الزحام في الأسواق ومحطات الوقود وفي كل مكان،
الصوم يدخل الاطمئنان والسكينة إلى النفوس المقبلة عليه بمعناه العبادي الحقيقي. فهو شهر للنشاط الجسدي والذهني لمن يعي تجلياته كعبادة وليس مجرد عادة ، لكن قوة طغيان العادة أفقدته مع الأيام روحه لدى من ينجر وراء غرائز العادات، مثلاً نجد من المظاهر المخالفة لحكمة الصوم تغيير أوقات الدوام والعمل والنوم لدرجة أن كثيراً من الشباب بالذات من يسهرون الليل لمتابعة بعض الحلقات والبرامج السخيفة أو اللعب إلى وقت السحور ثم ينام على الفور بعد أن يملأ معدته ويواصل النوم بعد الظهر وكثير منهم إلى قرب المغرب وبهذا السلوك فإن ساعات توقفه عن الطعام في الفطر أكثر منها في رمضان!
وإذا استيقظ فإنه يعجز عن ضبط سلوكه وتعامله مع الأخرين، يقابل الناس مكشرا عابساً مستعداً للعراك باللسان واليد مع أي شخص يستفزه أو يعتقد أنه يستفزه غافلاً عن الحديث الشريف (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلِيقْ)!
لكي يكون الصوم عبادة تؤدي الغرض الذي من أجله شُرّع اجتماعياً وصحياً ينبغي على الصائم أن يعمل بنفس القدرة التي يعمل فيها في بقية أيام السنة بل وأكثر لأن ملْء المعدة ينتج عنه خمول في العقل والجسد، والعمل والحركة والمعدة فارغة يحفز الغدد وخلايا الجسم وأجهزته على النشاط وطرد مخلفات العام من الطعام المتكدس ولهذا جاء في الحديث (صوموا تصحوا).
عادة الصيام القائمة اليوم لدى الغالبية مع الأسف الشديد لا تجعله صياما صحيا بل ينقلب إلى العكس حيث يجلب المرض بدلا عن الصحة والخمول عوضاً عن النشاط وسوء الخلق والغلظة بدلاً عن السماحة والصبر وحسن التعامل.
تحدث الفقهاء كثيراً عن أهمية الصوم كعبادة في التفكير في الفقراء وكيف يعيشون وما الذي يمكن عمله لمساعدتهم ، ومن المفترض لصحة النفس والروح وبناء الذات الجماعية أن يدرك الصائم في ظروف هذا العدوان الذي تعيش اليمن ويلاته ، أهمية إنفاق ما يوفره الصائم من الوجبة التي توقف عن تناولها كما هو مفترض أو جزء منه وأن يتذكر من يدافعون عنا في الجبهات ويسعى للتعرف على أحوالهم ويجود بما يوفره على من يجودون بأرواحهم ودمائهم فهم أكرم الناس وأحقهم بالرعاية هم وأسرهم ولو تأملنا أخلاقهم وسلوكهم وطريقة صيامهم لتعلمنا منهم الكثير ولأدركنا أنهم وحدهم من يعرفون معنى الحياة الكريمة ومعنى الصوم كعبادة فلا يبذل حياته من أجل أن يحيا غيره إلا ذو النفس العالية والروح الوثابة والعقل النير .
نُسِبً إلى الحسن البصري قوله في فضل الصوم:
(مسكينٌ ابن آدم، محتوم الأجلْ، مكتومُ الأملْ، مستور العِلَلْ، يتكلمُ ِبلَحمْ وينظُرُ بشحمْ، ويَسمعُ بعظم أسير جوعة وصريعُ شبعة، تؤذيه بقًّة وتنتنه العرقَةْ، وتقتلُه الشرقةْ، لا يملك لنفسه ضرّاً ولانفعاً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، فانظر إلى لطف الله بنا في ما أوجبَهُ من الصيام علينا، كيف أيقظ العقول لهُ وقد كانت عنه غافلة أو متغافلة، ونفع النفوس به ولم تكن لولاه نافعة أو منتفعة) الحسن البصري – أدب الدنيا والدين لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي ص (97).