أ.عبدالله هاشم السياني
في الأركان العشرة التي نحن بصدد الحديث عنهاوالكتابة حولها أكملنا الكتابة حول الأركان الثلاثة الأولى منها في الحلقة الماضية لنبدأ في هذه الحلقة الحديث عن الركن الرابع في الصلاة الذي يعد من أهم وأعظم أركانها لأسباب عديدة سنذكرها ونتناولها أثناء الحديث عن هذا الركن في أكثر من حلقة ٠
الإرتقاء بين يدي الخالق
الظاهر أن العبد يرتقي مع كل ركن درجة نحو خالقه وربه وهو في صلاته ثم تضيق المسافة التي تبعده عنه وعن الوصول إلى درجة القرب التي يرضى فيها الملك الجليل ويرضى فيها العبد الفقير (رضي الله عنهم ورضوا عنه) وذلك عند الفراغ من هذه العبادة العظيمة.
فعندما ينوي العبد في الركن الأول بلسان قلبه ويناجي ربه بما هو عازم عليه فإنه يتجاوز مخاطبة المخلوقات التي اعتاد مخاطبتها بلسانه وينتقل إلى مخاطبة الغيب بالغيب فيخاطب من لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار بحديث لا تسمعه الآذان ولا ينطق به اللسان ولا يطلع عليه أحد فهو بذلك يدخل إلى ساحة الحق جل وعلا ويرتقي إلى درجة الحضور بين يدي عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم.
وعندما ينتقل إلى الركن الثاني (تكبيرة الإحرام) فإنه يعلن بلسانه وصوته إقراره بالحقيقة الكبرى (التي يذعن لها كل الوجود) أن الله أكبر وأعظم من كل شيء في الوجود مهما بلغت عظمته مما يعلمه وما لا يعلم فتحرم حينها جوارح العبد وحواسه الظاهرة والباطنة لخالقها وبارئها وتعلن الخضوع لعظمة وكبرياء الحق جل وعلا فتصبح كل ذرة وخلية في جسد العبد معترفة بعظمة خالقها كبقية خلقه في كونه الواسع والفسيح فيرتقي الواقف بين يدي ربه حينها إلى درجة الإقرار بعظمته التي فطرت عليها مخلوقاته.
وبقيام العبد بين يدي بارئه بالكيفية التي أمر بها في الركن الثالث فإنه يدخل ويرتقي إلى درجة الامتثال للخالق وينتقل من دائرة الانقطاع للمخلوقين إلى دائرة الانقطاع للحق جل وعلا ٠ فيتهيأ بذلك للدخول والانتقال إلى الركن الذي يليه وهو مخاطبة الحق جل وعلا بكلامه وهكذا يصل العبد إلى درجة مخاطبة ربه ومناجاة مالك أمره وخالقه في الركن الرابع الذي هو قراءة كلام الحق جل وعلا بين يديه للثناء عليه، “الفاتحة وبضع آيات من كتابه الكريم” بعد سلسلة من المراتب التي سلكها العبد وصعد إليها من مرتبة استجابة الأذان وما بعدها من شروط ومقدمات الصلاة إلى الدخول في مراتب ودرجات أركانها.
قراءة كلامه عزّ وجلّ
وبدخول العبد في الركن الرابع الذي يعد أصل الأذكار وأجلها والجامع لها في هذه العبادة الإلهية العظيمة الذي يأتي متزامناً مع ركن القيام الذي يعد عمود الأفعال وأساسها يتداخل الركن الثالث مع الركن الرابع وكأنهما ركن واحد مع أن الأول من الأفعال والثاني من الأذكار وتختلط في نفس المؤمن مشاعر وقداسة وعظمة القيام بين يدي خالقه ومالك أمره وبين مناجاته بكلامه جل وعلا ومخاطبته فتكتمل صورة القيام الظاهرة والباطنة وحقيقة مناجاة العبد ومخاطبته لربه وتصبح مكتملة العبودية والتذلل والثناء والحمد.
فما الحكمة الربانية وما الأسرار الإلهية من وراء ذلك الأمر الإلهي؟ وهل لنا نحن العبيد أن نسعى لمعرفة مراد الباري عز وجل ونتطلع إلى آفاق رحمته وفضله من وراء أمره هذا الذي اختصنا به؟ واختار لنا قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلوات الخمس في الليل والنهار وترك لنا اختيار ثلاث آيات بعد الفاتحة أو أكثر ٠
أي أن العبد منا سوف يقرأ الفاتحة التي هي من أعظم سور القرآن الكريم سبعة عشر مرة في صلاته الواجبة وثلاثة عشرة مرة في سننها مع متوسط خمس آيات في الركعتين الأولى والثانية في مجموع الركعات الواجبة والمسنونة، وبهذا تصبح الآيات التي نقرأها كل يوم من كتابه الكريم في الصلاة تصل إلى أكثر من ثلاثمائة آية، جزأين تقريباً أما إذا كان الانسان يقوم الليل ويؤدي جميع السنن فإن الأمر يختلف وما سيتلوه من كلام ربه وهو قائم بين يديه سيكون أكثر من ذلك وقد يصل إلى الضعف.
فما الحكمة الربانية وما الأسرار الإلهية من وراء اختيار المولى عز وجل لآيات كتابه الكريم لتكون هي الكلمات التي يخاطب العبد بها ربه وهو بين يديه وفي مقام وساحة قدسه في كل الصلوات وفي كل الأوقات؟
هل يريد الحق جل وعلا من عباده أن يستحضروا كلامه وهم قيامٌ بين يديه في الصلاة وهو الذي يعلم أنه أنزله عليهم ليكون لهم دستوراً وتشريعاً وقانوناً يعملون به في حياتهم ويحتكمون إليه في كل شؤونهم حتى يؤكدوا بذلك عبوديتهم وعهدهم وميثاقهم بالقرأن الكريم وبالالتزام به وبصدق إيمانهم بما أنزل عليهم عبر صلاتهم كل يوم خمس مرات من خلال هذه العبادة الإلهية العظيمة؟
أم أن الحق جل وعلا أراد أن نتعبده ونثني عليه بكلامه هو لتترسخ وتتجذر في نفوسنا معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته فتنمو وتكبر تلك المعرفة مع كل يوم نمضيه في حياتنا ونقف فيه بين يديه حتى إذا جاء وقت لقائه تكون معرفتنا به قد اكتملت وأصبح إيماننا متصفاً باليقين فنعود إليه بقلوب سليمة مطمئنة عارفة؟
أم أن المولى عز وجل أراد من خلال هذا الركن أن نتعرف على حقيقة كتابه الكريم وندرك مكانته ومنزلته وعظمته لديه حتى تستقر في قلوبنا هذه المنزلة العالية ونتعامل معه على أساس هذه المكانة الإلهية وننظر إليه بالمنظور الإلهي فيأخذ مكانه في حياتنا وإيماننا؟
أم أن الرحمن الرحيم أراد أن يُشرِّف عبيده حين المثول بين يديه وحال الثناء عليه وأن يخاطبوه بكلامه لا بكلام أحد سواه فيتقبل طاعتهم وعبادتهم ويستجيب لدعائهم ويغفر ذنوبهم وينشر رحمته عليهم ويرضى عنهم فيرتفعوا إلى منزلة ومقام مخاطبته والحضور بين يديه دون حجاب أو ستر؟
إن مراد الله في ذلك متصل بعلمه المطلق جل وعلا وبرحمته الواسعة التي وسعت كل شيء وبتكريمه للإنسان الذي نفخ فيه من روحه وفضله على كثير من خلقه والذي لا يمكن الوصول إلى حدوده ولا الإشراف على بداياته ، ومع ذلك فليس أمامنا نحن الفقراء إليه المأمورون بالتأمل والتفكر والتدبر في آياته ومنها أوامره، إلا السير في ما أمرنا به مع أن ما أمرنا به ليس سوى اليسير من بحر أسراره كل ذلك رحمة منه حتى نسبح في فضاء فضله ومن ثم نعبر من أبواب سماواته التي فتحها لعباده من خلال هذه العبادة الإلهية وأركانها التي من ّ الله علينا بالعيش في رحاب عظمتها ليل ونهار لعلنا نرتشف من فيض ما أطلقه من علمه فيها لعامة عباده وأولياءه.
وهذا لاشك يحتم علينا المضي في مناقشة تلك الأسئلة التي أوردناها وغيرها من التساؤلات المتعلقة بهذا الركن في هذه العبادة الإلهية من منظورنا البشري المحدود.
القرآن والتسمية
لعل أول عناوين عظمة كتابه الكريم التي أراد الحق أن يلفتنا إليها تسميته الإلهية لكتابه الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث سماه (القرآن) وكذا طريقة نزوله على خاتم أنبيائه ورسله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم والتي لها صلة واضحة بقراءة المؤمنين له في هذا الركن من هذه العبادة العظيمة،٠
فمن المعروف أن المولى جل ثناؤه أخبرنا بأسماء بعض الكتب السماوية السابقة التي أنزلها على رسله وأمرنا بالإيمان بها، فقد سمى ما أنزله على خليله إبراهيم صلوات الله عليه صحف إبراهيم، وما سمى ماأنزله على موسى بالتوراة، وما أنزله على داود بالزبور، وما أنزله على عيسى بالإنجيل.
وقد لا نعرف العلاقة بين تسمية تلك الكتب السماوية ومضمون تلك الكتب نفسها ومراد الحق جل وعلا من ذلك، وهل لتلك الأسماء معاني في اللغات التي نزلت بها وما ذا تعني؟ وهل لتلك الأسماء علاقة بطبيعة نزولها أم لا؟
ومع اختلاف الأسماء التي سمي بها كلام الحق جل وعلا الذي أنزله على قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسمعه واختلاف العلماء في معانيها إلا أن اسم (القرآن) جاء لآخر الكتب السماوية وهو الاسم الجامع،لهذا الكتاب الخاتم قال تعالى في سورة الإنسان: (نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً) وقال جل وعلا في سورة الواقعة: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم، فِي كِتَابٍ مَّكْنُون)، وذكر ذلك الاسم في مواضع متعددة وكثيرة قد نتعرض لبعضها في سياق حديثنا هذا.
والذي يهمنا هنا الإشارة إليه هو أن أهل اللغة ذكروا أن مصدر الفعل قرأ – يقرأ هو: قراءة وقرآنا، وأن تسمية القرآن الكريم جاءت منه، وهذا يعني أن القراءة والقرآن مصدر لفعل قرأ ومعناهما واحد.
ونحن نعلم أن الحق جل وعلا أخبرنا في كتابه العزيز أن جبريل عليه السلام هو المكلف بتبليغ القرآن إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان يقرأ القرآن على قلب المصطفى وسمعه، أي أنه بلّغ رسول الله جِبْرِيل آيات ربه بالسماع، وعلى ذلك فقد سمع المصطفى كتاب ربه من جبريل ثم حدَّث به الناس وبلغهم إياه ونقله إليهم فسمعوه منه وهو يتلوه عليهم، وهم بدورهم تناقلوه فيما بينهم ومن بعضهم البعض كما سمعوه من رسول الله حتى تمت كتابته وتدوينه، ولذا يقال القرآن سماعي، أي لم يتم نقله إلينا من الله مكتوباً، ولذلك جاءت كتابته مٌعتمدة على نقله سماعياً ولم تراع فيه قواعد الكتابة المعروفة حينها، ووصل إلينا كذلك.
فهل هناك علاقة بين آخر الكتب السماوية التي أنزلها الحق جل وعلا على الناس وبين تسميته بـ(القرآن) وبين طريقة نزوله ومن ثم حفظه من قبل الله من التغيير والتحريف وما الحكمة الإلهية في ذلك؟ ثم وهو الأهم هل هناك علاقة بين تلاوتنا لكتابه الكريم وقراءة آياته بين يديه في هذه العبادة العظيمة وبين تسميته؟ حيث نحن العبيد الفقراء نقوم بتلاوته وقراءته بين يديه في هذه العبادة وفي هذا الركن كما أنزله الحق جل وعلا على جبريل عليه السلام وأنزله على محمد صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، وأننا نخاطبه بكلامه كما خاطب هو به جبريل وسيد الخلق محمد عند نزول القرآن إلى الأرض.
فهل لذلك الحق جل وعلا في هذا الركن الذي نقرأ فيه الفاتحة وآيات من كتابه الكريم صلة بطريقة نزوله ووحيه وتشريف الخالق لكل من يقف بين يديه ويثني عليه كما أراد وأمر؟ وهل يدرك من يقوم في ليله ونهاره خمس مرات عظمة أن ينطق ويتكلم بكلام الحق بالطريقة التي أنزل بها كلامه وهو بين يديه وفي حال مخاطبته جل وعلا ومناجاته؟
إن الحق جل وعلا أراد ونحن نقرأ كلامه في الصلاة ونحن بين يديه أن نعظم كتابه الذي أنزله إلينا، وأن تستوعب عقولنا وقلوبنا مكانة آياته وكلماته وألفاظه وحروفه التي جاءت إلينا من لدن عليم حكيم، وأن تملأ حياتنا النظرة الإلهية لهذا الكتاب العزيز وأن تستحوذ على كل لحظة نتعامل فيها مع كلامه جل وعلا.
ولأن الباري عز وجل يعلم مدى الغفلة التي تصيب عباده في عدم إستحضار تعظيم كتابه الكريم ومعرفة منزلته ومكانته عنده فقد جاءت كثير من الإشارات الربانية التي تهدف إلى صياغة هذه الحقيقة في إيمان المؤمنين منتشرة بين آيات القرآن الكريم، بل لم تخلو منها سورة، بل إن الحق جل وعلا قد ذكرّ المؤمنين بعظمة كتابه وصفات كلامه وما أنزله عليهم في أوائل معظم سور القرآن الكريم كما أقسم في بعضها بالقرآن الكريم وصفاته بحيث لا يبدأ العبد بقراءة سورة من سور القرآن الكريم إلا وقد وقر في قلب المؤمن عظمة القرأن وقرأ وصف الحق جل وعلا لكلامه وقرآنه أو علم بعظمة أسماء وصفات من أنزله -وهو الحق جل وعلا- فتترسخ في قلوب عباده عظمة القرآن من خلال عظمة وصفات من أنزله.
ويكفي المؤمن أن يتنقل بين سور القرآن الكريم بعينه في أوائل سور القرآن الكريم ليقرأ الآية الأولى والثانية من كل سورة ليعرف عظمة صفات الكتاب الذي بين يديه والذي جعله الله في متناوله وهو في هذه الدنيا.
وسأتطرق إلى ذكر بعض أوائل السور وبعض الآيات التي تضمنتها بعض السور المتصلة بمكانة القرآن الكريم وعظمته في الحلقة القادمة لعل قلوبنا تستشعر تلك العظمة الإلهية لكلامه جل وعلا وتلتفت أنظارنا إلى بعض أسرار أمره الإلهي الذي أمرنا فيه بتلاوة كلامه عند وقوفنا بين يديه وحال عبادته له والثناء عليه في الركن الرابع من الصلاة هذه العبادة العظيمة (ذكر الله الأكبر).