الصومال في الاستراتيجية الاسرائيلية..هل تكون السعودية بوابة التطبيع الاسرائيلي -الصومالي؟ (2/2)
محمد محمود مرتضى
تحدثنا في الحلقة الأولى عن محاولات الكيان الاسرائيلي التقرب من الصومال، وعندما فشل تقرب من اثيوبيا ودعمها في حربها.
“إسرائيل” والصومال بعد انهيار الدولة
تمثل الحروب والفوضى بيئة مثالية للكيان الاسرائيلي في محاولات التغلغل والاختراق، وهذا الأمر لا يقتصر على الشرق الاوسط وإنما أيضا على العديد من الدول الإفريقية، وتبرز هذه الحالة بوضوح في السودان ودعم “إسرائيل” لجنوبه إبَّان فترة التمرُّد حتى الانفصال، كما يبرز خارج القارة الافريقية في حالة اقليم كردستان العراق. الا أن الحالة الصومالية تبدو أكثر تعقيدًا؛ اذ إن الدولة الصومالية قد انهارت على نحو كامل بجميع مكوِّناتها ومؤسساتها، ولم تستطع ممارسة وظائفها الرئيسة، لا سيما الأمنية منها؛ ما جعلها “بيئة مثالية” للاختراق الإسرائيلي.
فعقب سقوط نظام سياد بري عام 1991، وقع صراعٌ على السلطة بين الأحزاب والقبائل والعشائر المختلفة، والذي تحوَّل لاحقًا إلى حرب أهلية، أدت الى انفراط عقد الدولة وانهيارها. وقد وجدت “إسرائيل” فيها فرصة مواتية لدخول الصومال عبر آليتين: الأولى الواجهة التجارية، والثانية مساندة فصائل ضد أخرى والاتصال بقوى المعارضة.
في الشأن التجاري، نُشرت تقارير عن وجود عناصر تابعة لـ”الموساد” داخل معسكرات القوات الدولية التي كانت تعمل في الصومال تحت ستار واجهة شركات هولندية معنية بتوفير مستلزمات الجنود. وبرزت في هذا الإطار شخصية “ديفيد مورس” وهو يهودي استرالي له علاقات قوية بـ”الموساد”، بدأ نشاطه مع دخول القوات الدولية للصومال عام 1992م، حيث تغلغل في الوسطين السياسي والتجاري؛ بعد منحه عطاءات من الأمم المتحدة لتوريد المواد الغذائية لقواتها في الصومال، كما تمكَّن من الانتشار في الوسط التجاري في العاصمة مقديشو.
وفيما يتعلق بدعم فصائل مقابل أخرى؛ سعت “إسرائيل” إلى نَسْج علاقات مع قادة الفصائل الصومالية في وقت مبكر من أعقاب انهيار الدولة، وذلك من خلال مشاركتها في المؤتمر الدولي الثاني لتنسيق المساعدات الإنسانية للصومال في أديس أبابا في ديسمبر 1992؛ حيث تبرعت “إسرائيل” في هذا المؤتمر بثلاثة ملايين دولار، كمساعدات إنسانية للاجئين الصوماليين. ولم تحصل على إذن بالمشاركة في المؤتمرات اللاحقة الأخرى، سواء التي عُقِدَت في القاهرة عام 1997، أو طرابلس عام 1998م، أو جيبوتي عام 2000م.
وبعد ذلك، استمرت المحاولات الإسرائيلية للاتصال بقادة الفصائل الصومالية المتمردة، سواءً على نحو مباشر أو غير مباشر من خلال إثيوبيا. وقد حاولت “إسرائيل” المشاركة في مؤتمر الصلح الصومالي الذي انعقد في كينيا عام 2003 بناءً على طلب رسمي لوزير الخارجية الإسرائيلي ـ حينذاك ـ سيلفان شالوم من وزير الخارجية الكيني خلال زيارته لـ”تل أبيب”؛ وذلك عن طريق منحها صفة مراقب إلى جانب المنظمات الإقليمية والدولية المهتمة بالشأن الصومالي.
وخلال الغزو الإثيوبي ـ الأمريكي للصومال في ديسمبر من العام 2006، لعب الكيان الاسرائيلي دورًا في محاربة سلطة المحاكم الاسلامية عن طريق دعمه للجيش الإثيوبي الغازي. وطبقًا لتقرير بثته إذاعة “صوت إسرائيل”؛ فقد شارك العسكريون الإسرائيليون المنحدرون من أصول يهودية (الفلاشا) في خوض الحرب ضد المحاكم.
ورغم أن الوقائع تشير الى تعاون أمني مباشر أو غير مباشر بين الكيان الاسرائيلي وبعض الحركات التكفيرية الارهابية، وتجلى هذا التعاون في سوريا، فإن تصاعد لهجة “حركة الشباب الصومالية” ضد “اسرائيل” مثيرة للريبة، وقد وظفتها الكيان الصهيوني في الآونة الأخيرة عبر تشكيل تحالف أمني إقليمي بدعوى مواجهة “حركة الشباب” بحجة أنها تمثل تهديدًا لمصالحها المختلفة في القارة الإفريقية، ولا سيما القرن الإفريقي؛ فخلال حفل الإعلان عن تشكيل لوبي “إفريقيا ـ إسرائيل” في الكنيست، في التاسع والعشرين من فبراير من العام 2016، أكد رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتانياهو على أهمية التعاون الأمني، في مواجهة ما أطلق عليه “التشدد الإسلامي والإرهاب” والذي اعتبره يهدد أيّ دولة إفريقية، مخصصاً حركة الشباب الصومالية. وأعلن استعداده للتعاون مع دول شرق إفريقيا ـ بصفة خاصة ـ وبوضع “خبرتها” تحت تصرُّف تلك الدول.
ومهما يكن من أمر، فقد استغلت “إسرائيل” الحرب الأهلية، وتمكَّنت من مدِّ جسور التواصل مع أول إقليم أعلن انفصاله في الصومال في مايو عام 1991، عقب سقوط نظام سياد بري، تحت مسمى “جمهورية أرض الصومال” شمال البلاد، وقد اختير “محمد عقال” رئيسًا لها.
لقد كان “عقال” مهيأً للتواصل مع الكيان الصهيوني في الوقت الذي أدار ظهره للعالم العربي؛ ثم بادر الى إرسال خطاب لرئيس الوزراء الاسرائيلي إسحاق رابين في الثالث من شهر يوليو من العام 1995، طالباً فيه عقد اتفاقية استراتيجية مع “إسرائيل” لمواجهة ما أطلق عليه “الأصولية الإسلامية”، طالبًا منه التدخل لوقف هذا “الخطر”. وحدد في نهاية خطابه مطالبه الثلاثة: امداد “جمهورية أرض الصومال” بالمعدات العسكرية والخبراء، إدارة ومراقبة الاستفتاء فيها نهاية عام 1996م، وأخيراً تقديم المعونات لها.
لقد كانت مطالبة “عقال” لـ”إسرائيل” على نحو صريح بالتدخل في الصومال، فرصة ذهبية استراتيجيا؛ فـ”إسرائيل” تسعى للحصول على تسهيلات في ميناء بربرة، لكنها كانت حذرة في الاستجابة لمطالب “عقال” لأن الاستجابة ستعزز موقفه الانفصالي، وهذا، اضافة الى الانخراط الاسرائيلي، سيدفع بقية الفصائل الصومالية للتوحد لمجابهته، بل ربما كان سيدفع بقوى أخرى بالمنطقة إلى التضامن مع الفصائل، ما سَيُعَرِّض “المصالح الإسرائيلية” بالقرن الإفريقي للخطر.
حاولت “اسرائيل” تعويض مساعدتها لـ”عقال” بإيجاد أرضية لها في أرض الصومال بسبل أخرى، ولا افضل من ذلك من العمل من خلال رجال الأعمال “الإسرائيليين”، وفي هذا السياق زار رجال أعمال تابعين لشركة “شاليفيت. أيه.أس إنترناشيونال القابضة” أرض الصومال عام 2001 بحجة الاستثمار فيها، والتي اشتملت على توسعة مطار بربرة ومينائها، وإعادة تأهيلهما، وإقامة مكتب اتصال فيهما، وتعبيد الطرق المؤدية إلى المطار والميناء وتحسينها، وإعادة بناء وسط المدينة التي دمَّرته الحرب الأهلية، فضلًا عن إقامة المشاريع الزراعية والاستثمار في مجال التعدين.
ثم بدأت العلاقات الإسرائيلية بأرض الصومال تأخذ بُعدًا جديدًا، تمثَّل في توقيع “محمد عقال” اتفاقية معها في نوفمبر من العام 2001، تضمنت تقديم مساعدات عسكرية لأرض الصومال وتدريب أفرادها. ثم زار مبعوث خاص للرئيس السابق لـ”أرض الصومال” طاهر ريالي كاهين تل أبيب عدة مرات طالباً الاعتراف بها، إلا أن ذلك لم يحصل لأسباب تتعلق بعدم رغبة “اسرئيل” في الصدام مع المجتمع الدولي الذي لن يعترف بها بعد.
وبعد تعرض بعض المصالح الاسرائيلية للخطرـ لا سيما تعرض إحدى سفنها المسماة “أفريكا ستار” للقرصنة قبالة تلك السواحل- عمدت “إسرائيل” إلى اطلاق بالون اختبار تمثل باعلان استعدادها للاعتراف بأرض الصومال، ورغبتها في أن تجد دولة إسلامية صديقة في القرن الإفريقي، مشبِّهة الصومال بأفغانستان أخرى بالمنطقة.
من الواضح أن “إسرائيل” تعمل على السيطرة على مضيق باب المندب، البوابة الجنوبية للبحر الأحمر؛ حيث إن مراقبة هذا الممر ستعني القدرة على عرقلة الحركة الملاحية الآتية من منطقة الشمال، وتحديدًا من قناة السويس، كما تهدف إلى استثمار هذه المنطقة لإقامة قاعدة عسكرية وإرساء الغواصات الحربية في ميناء بربرة، وهو ما يعني – في مجمله – محاولة خلق وجود عسكري إسرائيلي في الصومال.
من الواضح أن اعلان “اسرائيل” استعدادها للاعتراف بأرض الصومال يأتي في سياق محاولات الضغط على الحكومة المركزية في مقديشو لتطبيع العلاقات معها، وهذا ما بدفع بالأخيرة لفتح قنوات تواصل مع “إسرائيل” بخطى بطيئة، أنتج لقاءً بين مسؤولين رسميين – وإن كان على مستوى منخفض – في “إسرائيل” في ديسمبر من العام 2015، شارك فيه ممثلون من وزارة المالية الإسرائيلية ومسؤولين بالحكومة الصومالية. وأعقبه لقاء آخر، ورغم ندرة المعلومات عن هذا اللقاء، إلا انه من المرجح أن كل طرف عرض مطالبه للآخر، وبعد ستة أشهر من هذا اللقاء، ذكرت مصادر إسرائيلية أن لقاءً رفيع المستوى عُقِدَ في “إسرائيل” في يونيو عام 2016 بين رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو والرئيس الصومالي السابق حسن شيخ محمود ـ اثناء وجوده في السلطة ـ اضافة الى ثلاثة مسؤولين صوماليين.
لقد تسرب خبر اللقاء إبَّان زيارة نتانياهو لمنطقتي حوض النيل والقرن الإفريقي في مطلع يوليو عام 2016، حيث سارعت وزارة الخارجية الصومالية إلى نفي هذا اللقاء، رغم انها ذيلت نفيها بالتأكيد على حق الحكومة في بناء علاقات مع دول الحلفاء أو دول الجوار؛ لحاجة البلاد إلى الخروج من العزلة الإقليمية. وهو تذييل يشي باعتراف مبطن بهذا اللقاء.
وعلى أي حال، وخلافا لسياسات سلفه، بدت سياسة الرئيس الصومالي الحالي محمد عبد الله فرماجو، تجاه إسرائيل قاطعة ـ حتى الآن ـ ولم تترك مجالاً للتواصل معها، وكان أول اختبار لهذه السياسة رفضه المشاركة في اجتماع ضم نتنياهو وعددًا من القادة الأفارقة، ممن شاركوا في حفل تنصيب الرئيس الكيني أوهورو كينياتا في نوفمبر من العام 2017. إلا أنه من المفارقات أن هذه السياسة الجديدة كان ثمنها تصاعد عمليات حركة الشباب، والمزيد من الانتشار لتنظيم “داعش” في الصومال. هل هي مصادفة؟ ربما. صحيح أن عقلية المؤامرات ليست صحيحة، إلا أنه من المقطوع به أن تكرار المصادفات ليس صحيحا ايضا، وإلا كيف نفسر هذه المصادفات المتكررة من انه حيثما انتشر داعش كان المستفيد الاكبر طرفان: الولايات المتحدة الاميركية و”إسرائيل”؟!
إن المساعي الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع الصومال لن تتوقف، لا سيما في ظل هذه الهرولة العربية الخليجية للتطبيع معها، واذا كانت الصومال تتداعى تحت وطأة الارهاب والتكفير، وقد تسقط في براثن “اسرائيل”، فإن السبب الرئيس سيكون هو تقاعس العرب والجامعة العربية عن احتضانها وحمايتها وتقديم المساعدات اليها.
فهل ستكون هرولة الخليج الى “اسرائيل” بوابة لتطبيع السودان معها؟ ذلك هو الأرجح في ظل سياسات ولي العهد السعودي الذي يريد بيع كل القضايا والشعوب لقاء كرسي العرش.