عـبدالله عـلي صبري
أثار إعلان الانسحاب المغربي من تحالف الحرب العدوانية التي تقودها السعودية بزعم محاربة إيران في اليمن واستعادة ما يسمى بالشرعية، جملة من الأسئلة والتساؤلات التي سلكت طريقها إلى الوسائل الإعلامية، لتكشف عن جبل متراكم من الخلافات والتباينات السعودية- المغربية، لم يظهر إلى السطح منها سوى القليل، حتى أن بعض المراقبين لا يرى في الأزمة بين البلدين سوى سحابة صيف عابرة.
صحيح أن مسألة الصحراء المغربية وشعور الرباط بالخذلان السعودي لها في قضية استراتيجية كهذه، كانت بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، إلا أن الرباط لم تكن في الأصل راضية عن المردود السياسي والاقتصادي الذي انتظرته بفعل مشاركتها في تحالف عاصمة الحزم الذي يشن حرباً عدوانية على اليمن منذ أربعة أعوام، ثم بإعلانها عن قطع العلاقات الرسمية والدبلوماسية مع إيران “العدو اللدود للسعودية”، الأمر الذي يفسر خطوة الانسحاب المغربي من التحالف السعودي، الذي سبق ومهدت له الخارجية المغربية قبل نحو شهر من الإعلان عنه، فيما لم يصدر من الرياض ردة فعل بحجم هذه الخطوة التي لا يقتصر تأثيرها على العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، بل يمتد إلى التأثير على خارطة التحالفات التي تتخلق في المنطقة بدعم أمريكي في إطار التهيئة لما يعرف بـ “صفقة القرن”، التي تقضي بالتطبيع مع الكيان الصهيوني وتركيز العداء العربي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
القراءة فيما بين السطور قد تشي أيضاً بتداعيات مباشرة على مستقبل تحالف العدوان على اليمن، ذلك أن الخطوة المغربية سبقها موقف ماليزي مماثل، وتلاها تململ كويتي- سوداني، وتوجه أردني في الانفتاح على سوريا بغض النظر عن موقف الرياض. وقبل ذلك فإن انسحاب قطر ومفاعيل الأزمة الخليجية قد ألقت بظلالها على التحالف السعودي الذي يبدو أنه في طريقه إلى التفكك والانكماش ليقتصر في الأخير على الحلف الرباعي (السعودية، الإمارات، مصر، والبحرين).
في البدء كانت المصالح المشتركة
انتقلت العلاقات السعودية المغربية إلى طور متقدم من التنسيق الاستراتيجي في المواقف السياسية وتبادل المصالح والمنافع الاقتصادية، منذ اندلاع ما يعرف بالربيع العربي الذي ما إن وصلت رياحه إلى اليمن حتى شعرت الرياض بالخطر البالغ، فاتجهت إلى احتواء الحراك الشعبي اليمني من خلال المبادرة الخليجية، لكنها على الصعيد الإقليمي اتجهت إلى مغازلة المملكتين الأردنية والمغربية وعرضت عليهما الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، ثم تحولت الفكرة إلى إعلان تعاون اقتصادي بين الدولتين ومجلس التعاون.
وبالإعلان عن عاصفة الحزم في 26 مارس 2015م، والدول المشاركة في التحالف السعودي ومن ضمنها المغرب، بررت الرباط انخراطها في الحرب تحت يافطة “دعم الشرعية في اليمن والتضامن مع مناصريها”([1])، ولأن مفهوم ومصطلح الشرعية كان ملتبساً مع تداعيات الحراك الشعبي في عدة دول عربية، فقد احتاطت الخارجية المغربية لموقفها، وأضافت سبباً آخراً في إطار تبرير تدخلها العسكري في اليمن، حيث أكد البيان نفسه على “الالتزام بالدفاع عن أمن السعودية والحرم الشريف، وبقية دول مجلس التعاون، الذي تجمعه بالمملكة الغربية شراكة استراتيجية متعددة “([2]).
بدا المغرب في هذا الموقف ممتناً للدعم السعودي الخليجي حين جعل مجلس التعاون الرباط شريكاً استراتيجياً، وأعلن عن صندوق خاص لدعم الرباط بإجمالي 2.5 مليار دولار، إضافة إلى تبنى مغربية الصحراء، واعتبارها قضية مجلس التعاون الخليجي نفسه([3]).
وبلغة الأرقام والمصالح، فإن علاقة المغرب بدول الخليج تركزت بشكل رئيسي على السعودية، فـ 49 % من صادرات المغرب لدول الخليج تذهب إلى السعودية، و79 % من واردات المغرب من دول الخليج تأتي من السعودية أيضاً، ووفقاً لإحصاءات 2015م، تعد السعودية الشريك السادس للمغرب تجارياً والثالث استثمارياً، ومن المشروعات الاستثمارية المشتركة بين الدولتين مشروع “نور” لتوليد الطاقة الشمسية – وهو من أكبر المشاريع عالمياً في هذا المجال- ، وبالإضافة إلى مشاريع أخرى تم إنشاء صندوق استثماري مشترك لدعم القطاع الصناعي بقيمة 500 مليون دولار([4]).
غير أن المصالح المشتركة مع السعودية تعرضت لهزة عنيفة بعيد الأزمة الخليجية في 2017م، فقد اختار المغرب موقفاً محايداً لم يعجب السعودية، بل بدت المملكة وعاهلها محمد السادس أقرب إلى قطر حين قام الأخير بزيارة مفاجئة إلى الدوحة في نوفمبر 2017م، وعرض خلالها الوساطة بين الدول الخليجية المتنازعة.
جاء الرد السعودي موجعاً، ففي يوليو 2018م، قرر العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز قضاء إجازته السنوية داخل السعودية، على عكس ما دأب عليه في السنوات الأخيرة، حين كانت مدينة طنجة المغربية وجهته المفضلة.
بالنسبة للمغرب، فإن مدينة طنجة تنتعش اقتصادياً مع حلول الإجازة السنوية للملك السعودي، الذي يصل متوسط ما ينفقه وحاشيته في كل زيارة إلى مائة مليون دولار، ما يشكل 1.5% من إجمالي إيرادات قطاع السياحة الأجنبية للبلاد([5])، وفوق ذلك فقد تراجعت الرياض عن التزاماتها المالية التي تعهدت بها للمغرب، مع تفاقم عجز الموازنة السنوية للدولة السعودية.
على هذا الصعيد فإن الانحياز المغربي غير المرئي نوعاً ما، يخفي أهدافاً اقتصادية تتعلق بتجارة الغاز العالمية والتي تعد قطر الأولى عالمياً في انتاجه وتصديره، بينما يتطلع المغرب ويعتزم بمساندة قطرية التحول إلى دولة لتخزين الغاز إقليمياً، في مشروع طموح يجري التكتم عن تفاصيله إعلامياً([6]).
فتش عن “الإخوان المسلمين”
لم تكن المغرب بمعزل عن تداعيات الربيع العربي، حيث شهدت البلاد حراكاً شعبياً كبيراً، سرعان ما احتواه العاهل المغربي بالتقارب مع حزب العدالة والتنمية (الذراع السياسي للإخوان المسلمين في المغرب)، والوصول إلى حلول وسط في إطار توافق وطني، أفضى إلى انتخابات برلمانية فاز الإخوان بالأغلبية فيها، وقد باركت الحكومة المغربية “عاصفة الحزم” ومشاركة الرباط في التحالف السعودي كما سبق، وتعزيزاً لهذا الموقف أكد مصطفى الخلفي الناطق الرسمي باسم الحكومة والقيادي في حزب العدالة والتنمية أن المشاركة المغربية في التحالف “تأتي في إطار العمل العربي المشترك الذي تقوده السعودية، وتدخل في سياق واجب التضامن والدفاع عن الشرعية ورفض أي سلوكيات تؤدي إلى المس بالوحدة الترابية لليمن”([7]).
موقف حزب العدالة المنسجم مع الديوان الملكي، كان في نفس الوقت منسجماً مع الدوحة وموقفها الداعم للإخوان المسلمين في اليمن، الأمر الذي يفسر جنوح المغرب نحو قطر في الأزمة الخليجية الأخيرة، مع الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع السعودية في ذات الوقت.
أضف إلى ذلك فإن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – وهو كيان محسوب على قطر والإخوان المسلمين- انتخب مؤخراً الفقيه المغربي أحمد الريسوني، رئيساً له، ويعرف عن الريسوني مهاجمته للنظام السعودي، ومعارضته لتدخل السفير السعودي في الشؤون الداخلية للرباط([8]).
وبانسحاب قطر من تحالف العدوان في اليمن، وانقلابها الإعلامي على الدور السعودي -الإماراتي الذي خرج عن الإطار المرسوم، وفي ظل الاستهداف الإماراتي المتوالي للإخوان المسلمين وعناصر حزب الإصلاح في اليمن، مضافاً إليه خسارة الرباط عدداً من جنودها وطائراتها، بدأ التململ المغربي، والتفكير الجاد في الخروج من مأزق حرب اليمن، وحسب الباحث المغربي خالد الشيات، فإن بقاء المغرب في التحالف السعودي وحرب اليمن، أصبح بدون معنى، وبلا أفق من الناحية العملية([9]).
ملف “خاشقجي” الحاضر الغائب
توالت الأحداث الدراماتيكية التي بلغت ذروتها مع جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، إلا أن الرباط التزمت الصمت الإعلامي، وانتظرت المغرب فرصة أخرى حتى أعلنت انسحابها من التحالف السعودي.
قبل هذا الإعلان كان الفتور في العلاقات السعودية المغربية يأخذ منحى تصاعدياً، فحين اختار ولي العهد السعودي مغادرة مخبأه بعد عاصفة “خاشقجي” وقرر زيارة عدد من الدول العربية فقد استثنى المغرب من جولته الخارجية، أما السبب فلم يكن سعودياً؛ فقد قالت مصادر إعلامية إن الرباط اعتذرت عن مقابلة العاهل المغربي لمحمد بن سلمان الملطخة يديه بدم خاشقجي، وكان من الصعب على رئيس الحكومة – أمين عام حزب العدالة والتنمية – أن يستقبل ويصافح شخصية سعودية تتهمها تركيا وقطر بقتل صحفي محسوب على الإخوان المسلمين، وبالموازاة مع المواقف الدولية المنددة بهذه الجريمة وجد الملف اليمني فرصة مضافة للتداول من الزاوية الإنسانية أولاً، ومن خلال زاوية جرائم السعودية والتحالف في اليمن ثانياً.
ظهر الموقف الغربي الجديد جلياً على لسان وزير الخارجية ناصر بوريطة، حيث أشار في مقابلة متلفزة مع شبكة “الجزيرة” إلى أن بلاده غيّرت مشاركتها في التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن، انطلاقاً من تقييم التطورات، خصوصاً الجانب الإنساني، وأكد بوريطة عدم مشاركة بلاده في المناورات العسكرية الأخيرة التي شاركت فيها دول الخليج. وأضاف إن الرباط لم تشارك أيضاً في عدد من الاجتماعات الوزارية لدول التحالف([10]).
ما لم يقله الوزير أن الرباط مثلها مثل عواصم أخرى وجدت نفسها في مأزق إن هي راهنت على الحصان الخاسر، خاصة أن السعودية وهي تخسر تباعاً في الملف اليمني عسكرياً وإنسانياً، دخلت في أزمة عصية مع الولايات المتحدة، التي بدورها تعيش وضعاً متأرجحاً على صعيد السياسات الداخلية والخارجية في ظل تقلبات البيت الأبيض والرئيس المثير للجدل دونالد ترامب.
صفقة القرن وزيارة كوشنر.. البوصلة أمريكية
في مطلع الجاري أعلنت الرباط انسحابها من حرب اليمن، ومع نهاية هذا الشهر تترقب عدة دول بينها المغرب زيارة صهر ومستشار الرئيس الامريكي جاريد كوشنر على رأس وفد رفيع المستوى بهدف بحث الدعم المالي والاقتصادي لخطة الإدارة الأمريكية للسلام في “الشرق الأوسط” ضمن أجندة ما بات يعرف بـ “صفقة القرن”.
يأتي ذلك فيما أعلنت بولندا مشاركة المغرب في مؤتمر وارسو للشرق الأوسط الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية بهدف مواجهة إيران، والذي عقد الشهر الجاري بمشاركة ستين دولة بينها إسرائيل.
في الأثناء وفي ظل الأزمة السياسية المعلنة، وللتعريض أكثر بالسياسة السعودية، تحدثت صحف مغربية عن خلاف بين “أمير المؤمنين” المغربي، و”خادم الحرمين” السعودي، بشأن “صفقة القرن” والقضية الفلسطينية.
يترأس المغرب لجنة القدس في منظمة المؤتمر الإسلامي منذ 1975م، غير أن ذلك لم يمنع الرباط من التطبيع السياسي والاقتصادي مع الكيان الصهيوني وبشكل معلن، على عكس الرياض التي لا تزال حريصة على علاقات من تحت الطاولة، بانتظار فرصة الإعلان الرسمي عنها.
لا شك أن المغرب ستخسر اقتصادياً في علاقتها بالسعودية، ولولا أن الرياض تعدت الخطوط الحمراء بالتلميح إلى دعم حق تقرير المصير لسكان “الصحراء المغربية”، لما تشجعت الرباط على إعلان الانسحاب من حرب اليمن.
غير أن البلدين مهمان بالنسبة للسياسة الأمريكية وضمان تفوق إسرائيل في المنطقة، وإذا كان بإمكان الرباط أن تناور بين العاصمتين الخليجيتين الدوحة والرياض، فإن العواصم العربية الثلاث لا يمكنها التحليق خارج توقيت واشنطن أو البوصلة الأمريكية.
هوامش:
[1] – المغرب يعلن تضامنه الكامل والمطلق مع المملكة العربية السعودية في مواجهة التطورات الخطيرة بالجمهورية اليمنية، بلاغ صادر عن وزارة الخارجية، الرباط 23 3- – 2015م
https://www.diplomatie.ma/Portals/12/agenda/communiqué arabie.pdf
[2] – المصدر نفسه.
[3] – عبدالله بن صالح الحقيل: هل العلاقات المغربية السعودية في أزمة؟، موقع هسبرس الالكتروني، 2 يونيو 2018م
https://www.hespress.com/writers/396837.html
[4] – المصدر نفسه.
[5] – عمر الطالب: بين المغرب والسعودية… أزمة صامتة يُعكّر صفْوَها ضجيجٌ مدروس، موقع رصيف 22 الإليكتروني، 1 ديسمبر 2018م
https://raseef22.com/politics/2018/12/01
[6] – خالد مجدوب: العلاقة بين الرباط والرياض تدخل المساحة الرمادية
https://www.raialyoum.com/index.php
[7] – https://www.al-sharq.com/article/2015-4-1
[8] – عمر الطالب: بين المغرب والسعودية… أزمة صامتة يُعكّر صفْوَها ضجيجٌ مدروس، مصدر سابق.
[9] – العلاقة بين الرباط والرياض تدخل المساحة الرمادية، مصدر سابق.
[10] – مقابلة تلفزيونية مع برنامج بلا حدود، شبكة الجزيرة -1-23 2019
https://www.aljazeera.net/programs/withoutbounds2018-12-1