قضية خاشقجي وحسابات التدويل
مهنا الحبيل
ما هي أبلغ رسالة في الشروع التنفيذي، وبدء التحقيق الدولي في اغتيال الفريق الأمني السعودي الصحافي الشهيد جمال خاشقجي، في مبنى القنصلية في إسطنبول، وبعد الاعتراف بأن القتل قد جرى من هذا الفريق، بغض النظر عن المسؤولية السياسية لمرجعية النظام؟
يركز كل الجدل الدائر اليوم على مسألة الخروج بتقرير دولي، عن الجريمة، أنه قد يكون مقدمةً لتداولٍ سياسي عالمي، بغض النظر عن حصيلة الإدانة الكلية.
لكن هذا الأمر الخطير، وغير المسبوق، يُشير إلى ما هو أعمق في أزمة الحكم السعودي، وخصوصا أن الملف الحقوقي الذي فجرته دماء الشهيد جمال لا يزال يعصف بكل الشرائح الوطنية.
ويزيد ما تعرّضت له لجين الهذلول، بعد شهادة أخويها، اللهيبَ المستعر، ويستفزّ الكرامة الاجتماعية للناس، عن وضع المحتجزات من إسلاميات وحقوقيات، فضلاً عن توتر ملفاتٍ اجتماعيةٍ أخرى، بسبب فوضى الخطاب الإعلامي، وغياب أي رؤيةٍ تجمع الصف وطنياً، بلغة حادبةٍ، لا تهديد أو قمع أمني، وفشل الحكم الجديد، في إلهاء الإعلام الغربي بالبرنامج الترفيهي للدولة.
هناك أسئلة عدة تطرح على مستقبل هذا التحقيق، منها بشأن ما سيصل إليه في نهاية الأمر، وهل يمكن أن تتحول قضايا الرياض المتتابعة إلى ملفٍ في مجلس الأمن، هل ستُدحرج اللعبة لتصل إلى هذا المنعطف، ونحن هنا نجزم أن للغرب مصالح استراتيجية مع الدولة السعودية المتطوّعة لتأمين جشع هذا الغرب الانتهازي. وواشنطن هي الأبرز، بكل تأكيد، غير أن ما يجري اليوم، حتى لو لم يصل الملف إلى إدانةٍ دوليةٍ، تُدرج مسؤولين كبارا تحت مذكرات اعتقال دولي، سيشرّع الباب للتدويل، وهو أمرٌ يمكن حدوثه،.
وهناك توجه ثابت في الرياض، حتى الآن، إلى التعامل مع التصعيد التركي، وصامتٌ حتى اليوم، فالمعادلة فيه، بحسب تفكير الرياض، أن أنقرة التي رفضت قواعد اللعبة، في عرض الرياض للرئاسة التركية، لن تستطيع أن تفعل شيئاً من دون واشنطن، بمعنى أن الحسم، في نهاية الأمر، لدى الأميركيين.
وبالتالي، ما يُفهم من موقف الرياض السياسي هو أن تصعيد تركيا، وهي التي كانت تشكو دائما من تطفيف الغرب معها، وخصوصا من الأميركيين، وإعلانها المجاهرة، بكل وضوح، أنها تنسّق بأعلى مستوى مع الأميركيين إدارةً وكونغرس ضد السعوديين، وبالتالي تُترك قضية الرد، حتى يأتي وقت تُصفّي فيه الرياض حساباتها مع أنقرة، هذه هي الحسابات المتوقعة التي تختفي اليوم دبلوماسيا.
على الرغم من استئناف الحملات الإعلامية ضد الأتراك، بعد هجومهم المستمر على ولي العهد السعودي، وبالطبع لا ننسى هنا حالات التجريح الطويلة التي هيمنت على الإعلام السعودي ضد الرئيس التركي.
واليوم هناك دلائل على أن جزءًا من الموقف التركي، قد حفّزته تلك الحملات، رغم ذلك كله هناك شخصيات عديدة من محيط الرئيس يُحسنون العربية، فضلاً عن الطاقم العربي الجديد، من الحاصلين على الجنسية التركية، الذي يعمل في إسطنبول في دوائر إعلامية مقرّبة.
وهذا لا يُلغي أن لدى أنقرة حساباتها السياسية المصلحية، والتي حين تُطرح للتفاوض تتجاوز الموقف النفسي، لكن الأجواء العامة اليوم تشير إلى توترٍ حادٍّ بين الدولتين، يحتقن منذ زمن، وفجرته قضية الشهيد خاشقجي، خصوصاً لغة الانحطاط الإعلامي مع أنقرة وشخصياتها.
والحقيقة أن هناك علامات استفهام كبرى في تصعيد الأتراك، أقلها أن يقال: ماذا لو اصطدم المشهد الإقليمي، مع واشنطن مرة أخرى؟ وماذا لو تبنّى الديمقراطيون، في المستقبل مشروعاً أو حراكاً، يعزّز موقف حركة الخدمة التي يرأسها الداعية الصوفي فتح الله غولن، المقيم في بلنسفانيا الأميركية؟
وعادت الجسور الأميركية التي شكا منها الأتراك مرة أخرى مع حزب العمال الكردستاني، فكيف سيتم التعامل في حينها، بعد التعاون الأمني المفتوح بين أنقرة وواشنطن ضد الرياض، وكيف يُفصل بين السعودية الدولة والسعودية المسؤولة عن الجريمة، ما دام نظام الحكم نفسه قائماً بالشخصيات نفسها؟
المساحة الأهم هنا يملكها الأميركيون بالفعل، والملف يتدحرج اليوم في أيديهم وبالتالي لن يكون في يد الأتراك وحدهم، وهنا الحسابات الصعبة، فقد تصح مراهنة ولي العهد السعودي على خسارة الأتراك ملف القضية معه، غير أن حسابات واشنطن وتطورات الأوضاع، بين الداخل والإقليم والخارج، باتت اليوم تحت عناية الميديا الغربية، بكثافةٍ غير مسبوقة.
ولم تعد السعودية هي السعودية القديمة قطعاً، فهناك جَسرَة دولية متزايدة عليها، وهناك انحطاط لسمعتها في العالم الإسلامي، لم تعد تُغيّر فيه المساعدات المالية السياسية الموظفة.
مع ذلك، يصرّ النظام على تصفية ضغوطه بتطويل المعركة مع قطر، وهو يشهد هزائم وتعقيدات كبيرة، لم تحقق له أي معادلة مع الدوحة. بمعنى أنه يخلق أزمات خارجية ويستفز شعبه داخلياً، في توقيت مختلف لتاريخه السياسي، وكأنما تدور عجلة الزمان من دون أن يفقه ما يدور من حوله.
فبعد أن كان حجراً في قاعدة اللعبة الكبرى على العراق، كما هي شراكة بلدان خليجية أخرى، أصبحت دولته ميدان اللعبة القادمة، والتي لا تتضح معالمها النهائية اليوم.
وهل يمكن أن تتطور إلى وضعِ مضطرب، يُعطي مؤشّرات أكبر لخللٍ لا يمكن إصلاحه، ولا التماهي معه بسبب النظام نفسه، وأطراف النظام وبعض المحللين يرفضون ذلك بشدة، وأن جولات الصراع بين الغرب والأنظمة المارقة، بحسب توصيف واشنطن، أمضت زمناً طويلاً، وبالتالي مم تخاف السعودية الجديدة، وهي مخزن النفط الغربي؟
هناك أمرٌ واضح يرد على هذه المغامرة السعودية، هو أن مؤشرات الداخل والخارج تتدحرج، في لعبة أممٍ غابت عنها السعودية القديمة، وعبر قواعد طفوليةٍ لا تزال تخاض هذه المعركة!
فهنا لحظة انكشاف الفشل الكبير، قد تكون هي لحظة السقوط التي سبقت هدم سور برلين، لكن برلين توحدت، أما هنا فكراسي الدم والرمال المتحركة لن تنتظر رشدهم.
* كاتب عربي مستقل مهاجر في كندا