مسؤولية العاملين في الصحة والخدمات الطبية

> التاريخ يصنع وعينا ( ٣٤)

حمود عبدالله الأهنومي

لن يستقيمَ للحياة معنى، وللدين غاية، إلا إذا أخذ الإنسانُ مسؤوليَّتَه التي كُلِّف بها في هذه الحياة على أساس أنه مختار في
عمله، ومسؤول عنه خيرا أو شرا، انطلاقا من الاعتقاد بتمكين الله له في اختيار أيِّ الطريقين، وسلوك أي النجدين، الخير، أو
الشر، وليست قضايا العلاج والتداوي والمرض والحياة والموت ببعيدة عن هذا الناموس الإلهي.
كان لي صديقٌ يمتلئُ شَمَمًا، ويكتظُّ وطنية وغِيرَة، ويفيض من عرْفِ المجْدِ الأثيل، الذي كان ينزِع به نحو العلياء، لقد كان أحد
رجال الأمن، لكنه في ظل هذا العدوان الأفظع والأبشع على مر التاريخ، انطلق يُسابِق الريح على بساط الغاية العظيمة،
ويباري العظماء في ملعب الكرامة، وينافسهم على كؤوس العزة، فكان له مترسُه الذي لم يبارحْه إلاّ شهيدا في الشهر
الماضي، رحمة الله تغشاه.
صديقي البطل منصور الحاشي، ابن القرية المجاورة لقريتي، وصديق الطفولة والمدرسة والشباب، استُشْهِد في مترسه بإصابةٍ
غيرِ قاتلة في العادة، ولكن لأن الإسعاف الحربي في تلك الجبهة الساخنة لم يَستِطع الوصول إليه بسرعة قياسية، نزف من
دمائه الطاهرة، فروّى تلك الأرض المباركة، فأكرمه الله بالشهادة، والتاريخ يُسجّل أن هذا العدوان المَقيت يتعمَّدُ قتل المسعفين
بغاراتٍ حتى في المناطق المدنية، والسكنية، وأما في الجبهات فحدِّث ولا حرج، فهو بشكل مستمر لا يمكن أن يدع جريحا بأن
يخلُص إلى مشفى، ولربما قصف المشفى على رأس مرتاديه والنازلين فيه من أجل مجاهد جريح أُسْعِف لتوّه إليه.
لقد قُتِل صديقي هذا إذن بجريمةِ حربٍ سعوديةٍ أمريكيةٍ إماراتيةٍ، ومن قبله تشرَّفَت أرضُ ميدي بدم الأخوين التقيين، اللّذَينِ
كان النورُ يُشْرِقُ من وَجهيهما، وهما أسعد وأحمد الأهنومي، ابنا إحدى خالاتي، نالا الشهادة وهما يركضان في خدمة الجرحى،
باعتبارهما مُسْعِفَين في الإسعاف الحربي، وكاد أن يلحقَهما وحيدُ أمهم، والبقية الباقية من إخوته، وهو أخوهما الثالث، عبدالله،
لولا إلحاحُنا عليه، بأن توجيهات السيد القائد حفظه الله تقضي بمغادرة أمثالِه للمواقع الأمامية في الجبهة، إلى أعمالٍ جهادية
أخرى.
ذلك مشهد يوميٌّ مصغَّر لكل أحرار اليمن، في ملحمة البطولات العظيمة التي يكتبها التاريخُ بماءٍ من ذهب، يفسِّرُ لنا كيف صنع
هذا اليمني الأصيل هذه الأسطورة اليمانية الخالدة في الصمود والثبات لأربع سنوات، وكيف يبني مجده التليد من تضحيات
العظماء؛ ذلك أن كل تلك الجرائم البشعة، وذلك الإجرام الفظيع لم يصرفا اليمنيَّ المؤمِنَ الحر عن مسؤوليته التي انطلق من
أجلها لا يلوي على شيء سوى رضوان الله والدفاع عن بلده.
لقد وجد التجبُّر والغطرسة والطاغوت والاستكبار هنا أمة تتقدّم إلى الموت وهي تبتسم، وتلقاه بقلوب راضية مطمئنة، وتصنع
من دمائها نهرا خالدا للحرية، وتفتُق من أرواحها فضاء واسعا للاستقلال.
لا جرَم أن المعتدين يتحمَّلون المسؤولية الكاملة تجاه جرائم قتل الجرحى والمُسعفين، وأنهم مسؤولون أمام الله عن هذه
الجريمة، لكنَّ هناك مجرمين آخَرين، قد يحشرُهم الله بجانب القتلة الكبار، وكانوا ما بين مسعف مهمل، أو طبيب غير مبالٍ، أو
جرّاحٍ مُقصِّر، أو ممرِّضة تائهة.
وقد يرقى إهمالُ الجريح من قبل الدكتور أو الجرّاح أو المُسعف أو الممرّضة إلى درجة القتل، وهو ما يسمى اليوم بالمسؤولية
التقصيرية، وهي من المسؤوليات التي سيُسْأَلُ عنها المرء أمام الله تعالى، الذي يعلم السر وأخفى.
عقيدة الجبر (العقيدة التي تزعم أن الله يُجبِرُ الإنسانَ على أعماله الخيِّرة والشريرة) والتي يبشِّر بها دعاة وعلماء البلاط
السعودي الوهابيون منذ عقود ، لو كانت صحيحة لما تحمّل المجرمون ولا المقصّرون أية مسؤولية؛ فمَنْ قتل من الشهداء ومن
الجرحى حتى وإن كان بسبب إهمالِ مَن ذكرنا، فإنما مات بقضاء الله وقدره، ووافاه أجلُه الجبري، لكن ذلك بالتأكيد ينسِفُ مبدأ
التكليفِ الإلهي للإنسان، واستخلافِه، على أساس عقله واختيارِه أيَّ النجدين، نجد الخير ونجد الشر، ويدمِّر العقيدة القائمة
على أساسِ مبدأ الثواب للمحسن، والعقاب للمسيء، وهي مبادئ أساسية في الإسلام وفي القرآن الكريم.
ومن هذا المنطلق يأتي قولُ الله تعالى في الآية ال( 32 ) من سورة المائدة، (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ
نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرَضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ
إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرَضِ لَمُسْرِفُونَ).
تتحدّث الآية الكريمة أن على الأمة جميعا أن لا تستهين بقتلِ نفسٍ واحدة ظلما وعدوانا، وتحثُّ جميعَ الأمة على تعقُّب قاتلِ
النفس وأخذِه أينما تقف، والامتناع من إيوائه، أو السّتر عليه، أو الكون معه، أو الانضواء تحت لوائه، وكلٌّ مخاطَبٌ على
حسب مقدرته، وبقدر بسطة يده في الأرض، .. فكيف لو كان الحال أن ذلك المجرم الطاغية يقتل الآلاف من الأبرياء،
والمظلومين، بغيا وعدوانا؟.
إن الآية لا تنظر إلى كمِّ القتل، ولكن إلى كيفيته، فمن استهان بمبدأ حرمة النفس الإنسانية الواحدة فقد استهان بكل البشرية؛ لذا
فإن على البشرية أن لا تضيع دم إنسان واحد، ويجب أن تعتبر نفسها مسؤولة عن ذلك.
كما تبيِّن الآية أيضا أهمية أن يتحرّك الناسُ جميعا من أجلِ إنقاذِ حياةِ نفسٍ واحدةٍ، (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)،
والإحياءُ هنا هو الإنقاذُ من الموت، وهو أنواع كثيرة، إنقاذ الغريق، والجريح، والمريض، من الشيء الذي كان سيتسبَّب في
قتله، وإزهاق روحه، بل وتوحي الآية بأهمية إنقاذِ الضال أيضا، والذي يوشك أن يسقط في بحار الهاوية، وأودية الضلال،
وموت الكفر، فالكفر والضلال والزيغ والقتال تحت رايات المستكبرين من أشدِّ الموت، وأبشع النهايات، وأفظَعِ الخواتم، ومَنْ
يتحرَّك لإنقاذ نفسٍ من ذلك فإنه في الحقيقة يُحييها، وكأنه يحيى البشرية كلها؛ ومن هذا الباب جاء قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا .[ يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24
إن تقبيح القرآن الكريم للقتل، بتلك الصورة التي صوّرَها القرآن، وكأن قتلَ شخصٍ هو قتلٌ للبشرية، وتحسينُ الإحياء والإنقاذ
بتلك الصورةِ الجميلةِ والرائعة، لهو دليلٌ قطعي يُبيِّن أهميةَ تحمُّل المسؤولية في الإسلام، وأن الناسَ مُخَيَّرون في أفعالهم،
وبالتالي فهم مسؤولون عنها، ويُشِيرُ إلى أن عقيدة الجَبْرِ من الضلال المُبِين، الذي يَشْعُرُ كلُّ إنسان منا قطعا بانحرافها عن
الحق؛ كونها نتاجًا خبيثا لأنظمة الطغيان، بقصد استغباء المغفَّلين، وقتل كل إرادة حرة تنزع نحو التحرر والثورة على
الظالمين.
وجريا على منهج القرآن في تحميل الإنسانِ مسؤولية أفعاله وتروكه، جاء النص للشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي بشأن
الصحة في الإسلام متقدما جدا، وهو نص في الدرس التاسع من دروس رمضان، أنقله هنا بتصرُّفٍ غير مخل، حيث ذكر “أن
دين الله يتناول بناءَ الإنسان من كل جهة”، وأن من أهداف تشريعات الله “الجانب الصحي بالنسبة لجسم الإنسان، والجسم
الصحيح، والجسم السليم”، وأن “الصحة، وسلامة الجسم هي أيضاً هامة في مجال الالتزام بهُدى الله، في مجال العمل في سبيل
الله، في إقامة دين الله”، وذكر في مسألة المرض “أنه لا يصح أن ننسب كلَّ مَرَضٍ إلى الله، ونحن نرى في تشريعاته ما هي
ذاتُ أهميةٍ كبرى في مجال صحة الجسم”.
وتقييدُه المسألةَ ب(دائما) إشارة إلى أنه في بعض الأحيان، وربما النادرة، قد تتدخل الإرادة الإلهية لإيقاف هذه النواميس
الكونية عن فطرتها التي فطرها، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وهذا ما أطلق عليه في تاريخ الفلسفة الإسلامية (الاختراع)،
ومنه جاءت فرقة (المختَرِعة) في اليمن؛ إذ لربما منَعَ اللهُ أثرَ الدواء من التفاعل مع الجسم المريض، أو العكس.
وهذا أمر خلافُ الأصل؛ لأن كلَّ شيءٍ مرتبط بنواميس وقوانين، وأسبابٍ ومسبَّبات، وبالطبع لن تخرج في مجملها عن المشيئة
الإلهية العامة.
يُضيفُ الشهيدُ القائد في توضيح رؤيته حول المرض والصحة وأهمية الاهتمام بها: “نحن نرى في تشريعاتِه ما هي بحاجة
للنهوض بها إلى أجسامٍ صحيحةٍ وسليمة، كالجهاد في سبيل الله، وهي تتنافى مع القول بأن الله هو الذي يصبُّ الأمراضَ صبًّا
على الناس، أو على الإنسان المؤمن، وأن علامة الإنسان المؤمن أنه يصب عليه المرض صبًّا”.
ويضيف بأن “كثيراً من المسؤوليات في دين الله تحتاج إلى صحة الجسم، فإذا كان الجسم منهكا تتأثر تلك المسؤوليات أيضاً
بالنسبة لغالب الناس، وتتأثر حتى اهتمامات الإنسان، تقصُر نظرتُه، ويكون قريباً من الملل والضجر. أما إذا كان جسمه سليماً
فإن ذهنيته تكون صافية، مُتَفتِّحة”.
وبهذا يتبيَّن:
-أن المُسْعْفين ورجال الصحة في الجبهات وفي المشافي هم أحد صناع الأسطورة اليمانية المعاصرة، التي تستلزم المزيد من
الجهود والإخلاص والمبادرة منه أيضا.
-وأن أي تقصير أو إهمال في معالجة جريح أو مريض من أي طبيب أو جراح أو مسعف أو ممرضة أو أي شخص مسؤول،
بحيث يؤدي إلى موته، أو إصابته بإعاقة، فإنهم يعتبرون كسائر القتلة والجناة، الذين آذوا الأبرياء، وشاركوا في مآسيهم.
-وأنه كلما بادر مبادر من أولئك العاملين في الصحة لإنقاذ جريح، بأي جهد، فإنه حظي بفضل الله، حيث كتب الله له أنه أحياه،
وأنقذه، وكأنه إنما شارك في إحياء البشرية كلها، وأن على الأمة جمعاء الاهتمام بهذا الجانب، فلا يسمحوا للمقصر أن يقصر،
ويعملوا على تشجيع المبادر في الاستمرار في مبادرته.
-وأن الشهيدَ القائد رضوانُ الله عليه كانت لديه رؤية متقدّمة في الجانب الصحي، وهي رؤية ضمن رؤية شاملة لنهضة الأمة
من خلال القرآن الكريم، وذلك أمرٌ خليقٌ بالاطَّلاعِ عليه، والعملِ به.

Hamoodalahnomi@gmail.com

قد يعجبك ايضا