الرياض عاصمة الإعلام العربي .. تشريع القمع والفتنة الجوّالة
محمد الحسيني
في إحدى الحفلات جلست امرأة على المائدة بجانب جورج برنارد شو (الكاتب الإيرلندي المشهور بانتقاداته الساخرة واللاذعة) فسألها بهدوء: سيدتي هل تقبلين أن تقضي معي ليلة واحدة بمليون جنيه استرليني؟ فاعتدلت المرأة في جلستها وابتسمت وقالت: طبعاً بكل سرور!!.. وبعد ثوانٍ قليلة عاد وهمس في أذنها: هل من الممكن أن نخفّض المبلغ إلى عشرة جنيهات فقط؟ فغضبت المرأة وصرخت في وجهه قائلة: ومن تظنني أكون؟! فقال لها بهدوء شديد: سيدتي أنا عرفت من تكونين، نحن فقط نختلف على الأجر..
هكذا هي حال الصحافة والإعلام ولا سيما في الوطن العربي، لا بل هي حال السياسة ومعظم السياسيين الذين يرتضون على أنفسهم البيع في سوق المزايدات، أما مانشيتات الحقيقة والشرف والإخلاص والولاء للوطن فباتت لازمة جاهزة مكتوبة ومدّونة، ولكل مانشيت سعره الخاص، يعلو أو ينخفض تبعاً للمبلغ المدفوع والموقف المطلوب.
السعودية.. لا ميثاق ولا أخلاق
مناسبة هذا الحديث هو إعلان مجلس وزراء الإعلام العرب في دورته العادية الـ49 التي عقدت في مقره بجامعة الدول العربية، الرياض “عاصمة للإعلام العربي”، وجاء هذا الإعلان بالتزامن مع رئاسة السعودية للجنة الدائمة للإعلام العربي ورئاسة المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب، وما يجدر التوقّف عنده في سلسلة الاحتفاليات الضخمة التي رافقت هذه “الواقعة”هو ما أكّد عليه وزير الإعلام السعودي عواد العواد من ضرورة “الالتزام بميثاق الشرف الإعلامي العربي وأخلاقيات المهنة والحرص على المصداقية والبعد عن اختلاق القصص لغرض الإثارة”.. صدّق الرجل نفسه بعد أن أتخم نفسه بالأكاذيب، ولكنه لم يفلح في أن يصدّقه الآخرون، ولعلّ أفضل ردّ جاء على لسان وزير الإعلام في حكومة تصريف الاعمال اللبنانية ملحم الرياشي خلال مشاركته في إحدى الندوات التي أقيمت على هامش الاحتفالية بالمناسبة حيث قال: “أنا لست من المؤمنين بمواثيق الشرف، ولا اعتقد أن مواثيق الشرف فعلت فعلها يوماً، فهي لزوم ما لا يلزم.. إنها معاناة حقيقية في عالمنا العربي، إذ أننا لا نلتزم بالقوانين فكيف بالحريّ بالمواثيق؟”.
حرية القمع وكمّ الأفواه
أصاب الوزير الرياشي – من حيث قصد أو لم يقصد – بكلامه في محضر الإعلام السعودي، فكيف للسعودية أن تتحدّث عن إعلام صادق وشريف وهي التي حلّت في ذيل ترتيب الدول في العالم، وحتى في الوطن العربي نفسه في حرية الصحافة والإعلام في مؤشر الصحافة الصادر ربيع عام 2018م؟! ليس فقط بسبب التحكّم والتوجيه المباشر لمؤسسات الإعلام السعودية وشراء الأقلام في المؤسسات الإعلامية العربية والغربية ولا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، بهدف تلميع صورة السعودية وولي العهد فيها محمد بن سلمان، بل أيضاً بسبب عمليات القمع وكمّ الأفواه واعتقال الإعلاميين السعوديين والعرب والتضييق على الناشطين الذين ينتقدون سياسات الرياض وممارستها التعسّفية في مختلف المجالات الداخلية والخارجية، فكيف إذا وصل الحال إلى حد القتل وارتكاب الجرائم بحق معارضيها؟! وهي جرائم قديمة ومستمرة.. ولو لم تندرج عملية مقتل جمال خاشقجي في حسابات شخصية وملفات إقليمية ودولية فلم تكن لتخرج إلى العلن كما هي الحال اليوم.
إعلام الفتنة والتطبيع
بات محمد بن سلمان مصنّفاً بأنه الشخص الأكثر دموية في العالم، وشهد إذلالاً لا سابق له خلال مشاركته في قمة العشرين في بيونس آيريس، ولم يترك هذا الموتور سبيلاً إلا وسلكه من أجل تلميع صورة السعودية وصورته شخصياً، وأهدر في ذلك مئات المليارات من الدولارات، وجاء اليوم دور الإعلام الذي يأمل أن يسهم في استعادة شيء من الكرامة السعودية المهدورة، ولعلّ أكثر ما يدفع للضحك المؤسف في هذا المعرض ما ذكرته صحيفة “الوطن” البحرانية أن “للإعلام السعودي فضلاً على كل دول المنطقة، ولهذا قرّر وزراء الإعلام العرب تكريمه وتكريم السعودية وإعلاميها بإعلان الرياض عاصمة للإعلام العربي، وهو بمثابة اعتراف عربي رسمي بأن المملكة العربية السعودية مدرسة في الإعلام وقائدة له وهو دعوة صريحة للاستفادة من هذه المدرسة والتعلم منها”.. صدق الكاتب فإن مدرسة السعودية لم تدع مؤسسة إعلامية ومراكز دراسات وأبحاث عربية وغربية إلا وزارها مندوب منها متأبطاً حقيبة الرشاوى، كما لم تدع أي كاتب أو إعلامي إلا ووضعت له أجندة كلماته، حتى أن هناك أقلاماً كبيرة ومعروفة سقطت في فخ الاستلزام السعودي، فراحت تبرّر لجرائم السعودية وحلفائها في اليمن، وتتبنّى المصطلحات السياسية التي يطلقها البلاط الملكي، وتروّج لثقافة العداء والكراهية للجمهورية الإسلامية الإيرانية نحت عناوين مذهبية – عرقية، في مقابل التطبيع السعودي – الإسرائيلي الذي يجري على قدم وساق في الغرف المغلقة تمهيداً للكشف عنه جهراً بعد أن تكون هذه الأقلام والمؤسسات قد قامت بواجبها في تطويع الرأي العام العربي.
تاريخ من الفتن
لم يساور وزير الإعلام السعودي أي شك في أن “تاريخ المملكة في دعم صناعة الإعلام تاريخ حافل لكونها ساهمت في تأسيس وتطوير كبريات الصحف والمؤسسات الإعلامية العربية داخل وخارج الوطن العربي”، وهذه حقيقة ملموسة نشهدها لدى الاطلاع على الكثير من الصحف والفضائيات والمواقع الالكترونية العربية – واللبنانية أيضاً – فكيف بالإعلام السعودي الذي ينسجم ويترجم أداءها السياسي، ولا سيما مع تعيين محمد بن سلمان ولياً العهد، وهو الذي بات يطبق على كل المؤسسات؟! وكيف تستقيم هذه الحرية مع إنشاء السعودية لتنظيم داعش الإرهابي ودعمه ونشر عناصره الإجرامية في الدول العربية ودول العالم؟! وأين هي هذه الحرية في تمويل استقدام مئات الآلاف من الإرهابيين لإشعال الحرب في سوريا والسعي إلى تفتيت اليمن وقتل شعبه وتجويعه واحتلاله وحصاره؟! وهل تعمل السعودية لنشر الحرية في العراق من خلال تأليب الأطراف والأحزاب بعضها على بعض؟! أم أن حصار قطر واشتراط وقف بث قناة “الجزيرة” لرفع الحصار عنها تعبير عن الحرية السعودية؟! وهل واقعة احتجاز الأمراء ورجال الأعمال وإهانتهم و”تشلحيهم” أموالهم، ومنهم رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، نموذج عن هذه الحرية؟! وكيف تعطي الرياض الحرية للصحافي جمال خاشقجي بتكليف ابن سلمان مجموعته الخاصة لاعتقاله وقتله وتقطيع جثته وإذابتها بالأسيد؟! وماذا نصنّف اعتبار الرياض حركات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال في قطاع غزة بأنها إرهابية؟! وكيف تبرّر السعودية الفتنة التي تعمل على زرعها بين الفصائل الفلسطينية وسلطة محمود عباس؟! وكيف نفسّر الضغط السعودي على السلطة الفلسطينية والأردن للقبول بصفقة القرن؟!
لبنان عقدة السعودية
لعل التجربة اللبنانية خير مثال على “الحرية” السعودية في الإعلام والسياسة وفي الحرب أيضاً، فقد عانى اللبنانيون ويلات الحرب الأهلية التي موّلتها السعودية، وعملت على إضعاف الانتماء القومي والناصري بهدف تحويل الاتجاه نحو الإذعان لقيادتها العالم العربي والإسلامي، وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م وما بعده من اجتياحات جويّة وبريّة مموّلة سعودياً، استهدفت تفتيت النسيج الوطني اللبناني والقضاء على المقاومة. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي حتى اليوم استقطبت السعودية وسائل إعلام وإعلاميين لبنانيين، وجيّرت الكثير من الشخصيات السياسية والحزبية والإعلامية، بشكل مباشر عبر سفيرها في بيروت أو بالواسطة من خلال السفراء العرب والغربيين، وتبنّى هؤلاء الخطاب السعودي بحذافيره وتفاصيله دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الانتماء الوطني، وما لم تستطع تطويعه قامت بحصاره والتضييق عليه، فأوقفت مصالح رجال الأعمال اللبنانيين وطردتهم من أراضيها، وحظرت القنوات اللبنانية (وفي مقدّمتها قناة المنار) والعربية المعارضة لها بمنعها من البث على قمري عربسات ونايلسات.. ولكن لبنان في طليعة البلدان العصيّة على التأثر بالفتن السعودية، وهو الأمر الذي لا يزال يؤرق حكّامها وسيبقى يؤرقها ويرفض “حريتها”.