طرق وأساليب اكتشاف المبدعين بالمقارنة مع تجارب دولية

 

د. محمد العقيلي

المقدمة:
يتعين على كل المسؤولين والمتخصصين العمل على اكتشاف المبدعين بشتى الطرق والأساليب واعداد الأدوات المناسبة واللازمة لتحديد ما لديهم من المواهب والقدرات التي تظهر على شكل طاقات واستعدادات فطرية كامنة، ومن ثم توفير الأوعية والبيئة المناسبة لبلورة واستثمار تلك الطاقات والمواهب وتوجيهها عملياً نحو الابداع والابتكار والاختراع، الذي يسهم في نهوض الوطن وتقدمه.
المبدعون هم صانعو الطفرات الصناعية والتكنولوجية والحضارات المادية التي وصلت إليها البشرية بشتى أنواعها، وهم الثروة الحقيقية لكل أمة، في حالة رعايتهم واستثمار طاقاتهم وتشجيع قدراتهم.
من خلال تشجيع ورعاية ودعم المخترعين والمبدعين لتحويل ابتكاراتهم واختراعاتهم إلى منتجات وصناعات تتميز بالجودة والكفاءة معتمدين بشكل كبير على الموارد المتوفرة محلياً للوصول إلى قدر كبير من الاكتفاء الذاتي ولدعم اقتصاد اليمن.
يُعد اكتشاف وتبني المبدعين أفضل انواع الاستثمار في رأس المال البشري، لأنه استثمار للثروة العقلية التي لا يجب أن يخسرها أي مجتمع طامح للنهوض والتقدم، وعليه يتوجب على الأنظمة أو الدول تقديم الاهتمام الخاص والسخي لمثل هذه الاستثمارات وعدم إهمالها لما تُمثله من فرض للقوة والوجود في المستقبل.
بداية لا بد أن نعي وندرك أن القرآن الكريم قد وضع اللبنات الأولي للاهتمام بالمبدعين ورعايتهم، فقال الله تعالى متحدثاً عن نفسه: “يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ” والمراد من الحكمة هو العلم. وفي قوله تعالى: “ولقد آتينا لقمان الحكمة” اي الفهم والعلم. وقد ميز الله أولئك الذين آتاهم الفهم والحكمة والعلم بقوله تعالى: ” قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. ومن هذا المنطلق القرآني يجب الاهتمام بالمبدع والسعي لاستزادته في الابداع ودعمه والعمل على احتضانه وتشجيع اعماله واستثمار طاقاته في خدمة مجتمعه ووطنه بما يرضي الله ويمكن لدينه.
كما أن رسلولنا الأعظم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، جعل هذا النوع من الاستثمار إحدى اولويات العمل في خطته النهضوية بالأمة، والتي تجلت في الارتقاء بعقول ومدارك من آمنوا به أولاً، وذلك عندما رفض أخذ المال أو الفدية المُجزية لإطلاق ما لديه من أسرى المشركين، ليشترط بدلاً عن المال لإطلاقهم، أن يقوم كل أسير بتعليم رجلين من المسلمين القراءة والكتابة لقاء الإفراج عنه، ويزيد بعض الرواة تعليمهم استراتيجيات واساليب النزال والقتال أيضاً.
فمثلت هذه الخطوة نقطةً مفصلية ومحطةً من أهم محطات الانطلاق والارتقاء بالعقل البشري في سبيل النهوض والتقدم على اسس علمية، كون القراءة والكتابة في تلك الايام كانت تمثل رقي وتقدم المجتمع، فلم يستثمر (ص) إطلاق أسرى المشركين بطلب المال، بل ببناء العقول، ادراكاً منه – وهو الذي لا ينطق عن الهوى – أن ذلك هو الاستثمار الحقيقي الذي سيكون له أثره العظيم في النهوض بأمته على المدى القريب والبعيد.
ثم يرسم لنا، صلوات الله عليه وعلى آله، موجهاً آخر يتمثل في ضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين، وهو اسلوب حكيم وذكي وعملي ومتجرد للاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه حتى من عدوه اللدود.
أساسُ القول ومفاده في دراستنا هذه يتلخص في قول الشاعر: “لا يرتقي شعب إلى أوج العُلا ما لم يكن بانوه من أبنائه”.
تقول المعادلة المنطقية المستقاه من الآية الكريمة “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ” أن تبني رعاية العقول واستثمارها وخلق بيئة ابتكارية في أي مجتمع = نهوض تقدم اكتفاء وهذا = صنع توازناً حقيقياً إن لم يكن ردعاً وفرضاً لواقع من القوة للمجتمع وإجبار الآخرين على احترامك والتعامل معك بندية.
تعرض هذه الورقة أهم الطرق والأساليب الناجعة في اكتشاف المبدعين، مستعرضين بعضاً من التجارب الدولية بهذا الشأن.
أهمية الورقة:
حاجة الأمة لعمل أبحاث عملية معمقة في كل ما يتعلق باكتشاف المبدعين وطرق تشجيعهم ورعايتهم ومن ثم تسخيرهم لخدمة وبناء أوطانهم، مع ضرورة الاستفادة من تجارب الآخر وعدم الانطلاق من حيث بدأ السباقون في هذا المجال بل من حيث انتهوا.
طرق واساليب اكتشاف المبدعين:
بدايةً يجب ان نعرف ان المنهج القرآني وضع لنا موجهات واضحة لاكتشاف المبدعين وتبنيهم ورعايتهم، فإطلاق الطاقات الخلاقة الابتكارية لم يكن غريباً على الأمة العربية والاسلامية، بل كان من أهم سماتها التي فجّرها القرآن الكريم، وازدهرت في عصور نهضتها، عندما كانت تأخذ بأسباب الإبداع والموهبة، فكراً وعملاً وسلوكلاً وانتاجاً، في مختلف مناحي الحياة الفردي والاجتماعية والأدبية والعلمية والتشريعية والفقهية والعسكرية ( السيد، 2005م)، وقد اهتم القرآن الكريم بالإبداع والمواهب وصناعتها وإظهارها للناس، فتناولت آياته نماذج من المبدعين والموهوبين في العصور جميعها، من ذلك على سبيل المثال ما جاء في قصة يوسف عليه السلام بما عرف ملك مصر بموهبته الابداعية في تأويل الرؤيا والمنامات قربه منه، واستثمر ذلك الابداع في نهضة مصر وحكايتها من سنين القحط والجدب. قال تعالى: ” وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ”
ولما رأت إحدى المرأتين ما يتمتع به نبي الله موسى من طاقة وموهبة فطرية في القوة والشجاعة “قالت يا أبي استأجره إن خير من استأجرت القوي الامين”،
واكتشاف المبدع يحتاج إلى التحرك الفعال والمثمر على الصعيد الميداني في داخل المجتمع بكل طبقاته من قبل المؤسسات والجمعيات الأهلية التي أنشئت أو يتم إنشاؤها لهذا الغرض كليةً، أو تبني المؤسسات الخيرية القائمة لمشروعات ميدانية تسمح باكتشاف الموهوبين في محيطها الجغرافي.
عندما تريد مؤسسة أهلية فرعية العمل في مجال اكتشاف الموهوبين ورعايتهم فإن هناك بعض المواصفات الأولية التي ينبغي أن تكون متوفرة فيها ومنها:
وجود فريق عمل متميز ولديه حدس في اكتشاف الموهوبين
الاستقلال والقدرة المرنة على التحرك داخل المجتمع.
وجود الإمكانيات الفنية المعينة على الإعداد الأولي للموهوبين والتي تتفاوت تبعاً لقدرات المؤسسة المالية، ومن هذه المعينات الأساسية:( المعمل الكيميائي- المكتبات العلمية المتخصصة – وحدة تكنولوجيا المعلومات-وحدة تلسكوبات.
وجود وحدة تنسيق فعالة بين المؤسسة والمجتمع المحيط من المؤسسات الحكومية والأهلية وحتى المجتمعية، تتولى التواصل واستقبال المرشحين على النحو التالي:
ترشيحات المدارس
ترشيحات المعاهد التقنية والفنية
ترشيحات الكليات والجامعات
ترشيحات وزارات الصناعة
وحتى ترشيحات الأسر
وفي ضوء ذلك فلا بد للمؤسسة أن تنفذ العديد من المشروعات العملية الساعية إلى تحقيق عمليتي الاكتشاف والرعاية والتي منها:
مسابقات الموهوبين والمبدعين
وذلك بالإعلان عن مسابقات تنافسية تسمح باكتشاف الموهوبين في المجتمع اليمني.
معارض الموهوبين
وفيها يعرض الموهوبون لإبداعاتهم واختراعاتهم في مناخ رصدي يمكن المؤسسة من اكتشاف الموهوب وتبني إبداعاته”.
دعم مؤسسات رعاية المخترعين والموهوبين
ستسعى المؤسسة لتقدم الدعم المالي والفني والتدريبي – حسب الامكانات المتاحة – للمؤسسات الأهلية العاملة في قطاع اكتشاف الموهوبين والمخترعين، وذلك لتوسيع الرقعة المجتمعية في اكتشاف الموهوبين في كافة أنحاء الجمهورية.
البرامج الإثرائية
وهي برامج يمكن تصنيفها في بند تطوير أداء المبدع والتي قد تكون نوعين، الأول تفرغ تام والآخر غير تفرغية أو مؤقتة. إدارة رعاية المبدعين والمخترعين تتركز على تشجيع استثمار الاختراعات والابتكارات العملية ودمجها في خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سبيل الارتقاء بمستوى التقدم العلمي والتكنولوجي وتحقيق الرفاهية للمجتمع من خلال عرض أهم الاختراعات العلمية والتقنية وتبادل الخبرات بين المبدعين والمخترعين وإيجاد ثقافة اجتماعية تستفيد من الاختراعات في تطوير الصناعات الوطنية.
تبني أنشطة عملية وخاصة بالمؤسسة لرعاية المبدعين والمخترعين
وهذا سيمثل الدور العملي الذي ستنفذه المؤسسة بهدف تقديم شيء ابتكاري يخدم حاجة البلد من الصناعات الوطنية ويوفر العملات الاجنبية لاستيراد المنتجات ويسهم في تقدم وازدهار الوطن ودفعه صوب الاستقلالية والاعتماد على الذات. ولتحقيق هذه الرؤية يجب تشجيع ورعاية ودعم المخترعين والمبدعين لتحويل ابتكاراتهم واختراعاتهم إلى منتجات وصناعات تتميز بالجودة والكفاءة معتمدين بشكل كبير على الموارد المتوفرة محلياً للوصول إلى قدر كبير من الاكتفاء الذاتي ولدعم اقتصاد اليمن.
الأنشطة العملية الخاصة بالمؤسسة العلمية لرعاية المبدعين:
إقامة وحضور وتبني المعارض والمؤتمرات والورش والندوات العلمية.
رعاية المبدعين والمخترعين وتبني الاعمال، والنزولات الميدانية المستمرة لتقييم الاعمال الإبداعية والابتكارية.
تقييم المشاريع الإبداعية والابتكارية المسجلة لدى الإدارة.
نشر ثقافة الابداع والاختراع في المدارس والمعاهد المهنية والجامعات.
رسم رؤية مستقبلية للمؤسسة لتبني تشجيع برامج تعليم مهارات التفكير في مؤسسات التعليم والاشراف عليها حسب المعايير الدولية، كبرامج العمليات المعرفية وفوق المعرفية والمعالجة اللعوية والرمزية لحل المسائل الحاسوبية ومهارات التعلم بالاكتشاف وغيرها.
الوقوف الفاحص والمعمق على التجارب الدولية دون استثناء في مجال الابداع والابتكار والاستفادة منها ومحاولة فتح نوافذ للتعاون والشراكة عبر أي طرق أو وسائل متاحة.
* ورقة عمل قدمت إلى الندوة العلمية “الإبداع والمبدعين بين الواقع والطموح” نظمها مركز دار الخبرة للدراسات والتطوير، ديسمبر 2018م.
*المؤسسة العلمية لرعاية المبدعين

قد يعجبك ايضا