الاستعمار الاستراتيجي للمدخل الجنوبي للبحر الأحمر
د/ أنيس الأصبحي
إن دراسة البعد التاريخي أو ما يعرف بالجغرافيا السياسية (التاريخية )ضرورة للتعرف على المظهر السياسي القائم في منطقة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر باعتباره ظاهرة نامية ومتطورة حاضرها استمرار لماضيها وإشارة لمستقبلها
وبغير دراسة العمق التاريخي تصبح الأحداث وكأنها عابرة ولذلك فالأحداث إذا تكررت على مر الزمان دل ذلك على أهميتها وعلى صلاحيتها كمادة يعتمد عليها في التحليل، من خلال وحدة المكان باعتباره المسرح الذي تدور عليه عمليات التاريخ وأحداثه وتسجيل لتعامل الإنسان مع المكان، ولذلك يمكن القول بأن لكل مكان قضباناً تجري عليها أحداث معينة لا تتغير إلا بتغير خصائص هذه القضبان
ولاشك أن منطقة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر تعد نموذجا واضحا للعلاقة بين الأحداث التاريخية وخصائص المكان، فتكالب قوى الاستعمار الاستراتيجي على منطقة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ومضيقه باب المندب والجزر المتحكمة به وموانئه الاستراتيجية والقريبة منه، كل ذلك جعلها محل أطماع للدول الاستعمارية في كل مراحلها للسيطرة على شرايين المواصلات العالمية اقتصاديا وعسكريا فكان استعمارا استراتيجيا يتطلع إلى الموقع أكثر من تطلعه إلى الموضع واذا كان الاستعمار في منطقة المدخل الجنوبي استعماريا ساحليا بالدرجة الأولى فإن معنى ذلك أنه لا يعنيهم الأجزاء الداخلية(الموضع) فاحتواء واحتلال الأجزاء الساحلية(الموقع) يكفي للسيطرة غير المباشرة على الأجزاء الداخلية عن طريق ما يعرف بالسيطرة الهامشية حيث تصبح معابر الأجزاء الداخلية إلى البحر تحت سيطرة القوى الأجنبية المسيطرة
ذلكم هو الصراع الكبير على مناطق النفوذ في الرقعة الفسيحة للمدخل الجنوبي للبحر الأحمر والقرن الإفريقى وخليج السويس وخليج العقبة وقناة السويس حتى شاطئ المتوسط. ولعله صراع على امتلاك نقاط القوة على المسالك والمعابر والمضائق وقنوات الوصل، في عصر قادم للعولمة الشاملة من قِبل الأقطاب في عالم «تعددية الأقطاب»: ما بين أمريكا وأوروبا الغربية (محور بون ــ باريس) وروسيا (الأوراسية) والصين (الحزام والطريق).
في عالم العولمة المستهدف ذاك، يصبح الشعار الرمزى الذائع حول (القرية الكوكبية) واقعا فعليا، فيصير صراع القوة الأزلي بين الجماعات البشرية صراعا ــ في هذه المرحلة ــ على خطوط الوصل ونقاط القطْع، للتحكم في المرور والعبور ومن ثم توزيع العمل الدولي.
فلعله إذن إيذانٌ بتجسيد ــ في شكل مختلف ــ لشعار آدم سميث الأثير القادم صوته من أواخر القرن الثامن عشر (1776): دعه يعمل، دعه يمر أو بتعبير آخر غير مختلف: حرية العمل والعبور ــ أو النقل والانتقال. فمن ذا الذى سوف يقبض بيديه على ناصية النقل والعمل؟ هنا يقع مكمن الصراع وجذره «الجغرا ــ تاريخى» إن صح التعبير.
تحكم مقتضيات الصراع بأن عصر الغاز وما يتبقى من البترول خلال نصف القرن القادم ويزيد، تحكمه القوى الكبرى القابضة على ناصية القوة الاقتصادية ــ التكنولوجية، ما بين إمبرياليات قديمة غاربة، أوروبا «العجوز»، وإمبريالية صاعدة توشك على انحدار قريب ــ أمريكا، وقوى طامحة، غير إمبريالية بالمعنى العلمى فيما نرى: أبرزها الصين الاقتصادية وروسيا العسكرية، وحواف هامشية محتجزة لدول مثل الهند والبرازيل.
وإذْ يعمل مركز الزلزال الجيوبولتيكي المشتعل من البوابة الجنوبية للبحر الأحمر إلى خليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي والقرن الإفريقي باتجاه محور الدائرة الأطلسى، أمريكيا بالذات، ليعكس تفاهما مأمولا لخلق منطقة نفوذ فرعية معينة عند مداخل ومضائق الخليج، وعلى طول البحر الأحمر، تكون هذه المنطقة ذات المركز الزلزالي النوعي، نُظَيْما فرعيا ضمن المنظومة الأوسع ذات المركز الغربي الشمالي من العالم، ولو إلى حين.
وإن الجائزة الكبرى في هذا الصراع الاستراتيجى المعقد والممتد هي (اليمن) من أرخبيل سقطرى ومضيق باب المندب، إلى المكلا وعدن والمخا والحديدة.. لأنها (عقدة المواصلات) في الإقليم العربي والإفريقي كله أو هي قطب للتفاعلات المستقبلية في العالم التواصلي الجديد.