في 26 مارس 2015، تعرضت اليمن لأكبر عدوان جوي في تأريخها ، وفي مارس نفسه، ولكن قبل 87 سنة، كان اليمنيون لأول مرة، يشاهدون بذهول أسراباً من سلاح الجو البريطاني وهي تقصفهم من السماء.
26 مارس 1928، كانت “قعطبة” و “دمت” و “الضالع” و “البيضاء”، أهدافا للغارات الجوية لطيران العدوان البريطاني.
كان العدو يقلع من “عدن” المحتلة: طائرات تقذف القنابل والقذائف ، بلا رحمة، وطائرات ترمي بمنشورات تحرض “الشوافع” على قتال “الزيود”!
وكان اليمني هو اليمني ، يبحث عن وسيلة لإعطاب الطائرة.
لا تزال “اليمن” تواجه نفس التحديات؛ اللغة نفسها، والمنشورات نفسها، و”عدن” ترزح تحت احتلال جديد. وكانت اليمن قبل قصف الطائرات البريطانية، قد أفشلت في شمال الوطن، المشروع البريطاني، باستعادة “تهامة”، والساحل الغربي، من يد “الإدريسي”، المدعوم من بريطانيا، حيث استخدم اللغة المذهبية نفسها، لتحريك المجتمع، وفشلت بريطانيا في النهاية.
وبصرف النظر عن الملاحظات الوطنية حول طبيعة السلطة القائمة، حينها في صنعاء، إلا أن الأرض والهوية، واجهت اخطر تهديد وجودي، في عقد العشرينيات، بعد رحيل الأتراك عن البلاد. حيث كان مشروع بريطانيا يسير على قدم وساق، لإعادة رسم وتشكيل اليمن، وتحويله، ليس إلى يمنات ، ولكن إلى عشرات السلطنات والمشيخات، وبالتالي عشرات الخرائط والهويات الصغيرة، ضمن وفي إطار المشروع الأكبر: مشروع سايكس بيكو.
بعد هزيمة الإدريسي، فتحت بريطانيا بؤراً جديدة في اكثر من مكان، فشيخ الزرانيق احمد فتيني، المدعوم بريطانيا بالسلاح والمال، مشفوع بطموح أن يتحول الى سلطان في بلاده، وقبله فعل مثله، شيخ قبيلة حاشد ناصر بن مبخوت الأحمر، الذي أعلن تأييده للإدريسي وذهب على رأس وفد كبير من مشايخ حاشد، إلى صبيا، ثم مراسلته للمندوب البريطاني، في عدن يوضح أسباب التحاقه بالإدريسي. وبالمثل كان يطمح “قائم مقام ريمة” الشيخ محمد أمين، أن يكون سلطاناً على بلاده، حيث كشفت رسالته إلى البريطانيين في عدن، كيف أن السلاح والمال والوعود البريطانية حركت شهية المشايخ ومراكز النفوذ، وتعددت الرغبات في التحول إلى سلطنات ومشيخات وإمارات كما هو سائد في جنوب اليمن وفي عموم الجزيرة العربية. هل كانت تلك الوعود امتدادا لوعود استعمارية أخرى سبقت، مثل: وعد بلفور بوطن، ووعد للشريف حسين بملك على “العرب”؟!
إن المشروع البريطاني، في الجزيرة العربية قديم، وهو في اليمن اقدم، حيث حولت بريطانيا القبائل والعشائر إلى أوطان، كـ”تميم” في قطر، وعنزة في “نجد”، وتسع سلطنات في اليمن (الجنوب) تطورت مع الوقت الى قرابة 23 مشيخة وسلطنة وإمارة. وفي الشمال كانت البيضاء سلطنة، والجوف كانت على وشك “التسلطن” بزعامة كبير الشولان، وفي صعدة، كان هناك بداية للفكرة، وفي الحجرية، وفي الضالع.
نجح المشروع البريطاني في غالبية جهات البلاد العربية، وفشل بنسبة كبيرة في اليمن طيلة عقد العشرينيات. ثم فشل لاحقا في الجنوب بشكل كامل، عندما ألغت الجبهة القومية “الاتحاد الفدرالي” وألغت الحدود، و طردت المشيخات والسلطنات، حيث هربوا إلى العربية السعودية وسائر الخليج، ثم وحدت “الجبهة القومية” بإرادة وتصميم الشعب، كل الكيانات والمشيخات والسلطنات، بشعار الاتحاد الشعبي: “يمن ديمقراطي حر وموحد” واستعادة الهوية الوطنية اليمنية الواحدة.
ومنذ الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، والحركة الوطنية تناضل من أجل تحقيق الوحدة، غير أن قوى وأدوات الاستعمار التي تملك المال والثروة ظلت تحبط كل تلك الجهود، وبقي التشطير قائما، ضمن صيرورة المشروع ونفسه الطويل، ليلتئم اليمن شماله وجنوبه في 22 مايو 1990. واليوم تواجه الهوية الوطنية الواحدة والكيان الوطني الواحد أخطر تحد، اذ تخضع أجزاء واسعة ليس لإرادة يمنية، ولكن إرادة خارجية، حيث تدار تلك الأجزاء من خارج الوطن.
مواجهة الوضع السائد يتطلب بدرجة أساسية، لغة وطنية جامعة وخطاباً وطنياً أوسع من لغة المناطق والمذاهب والقبائل والجهات. وإذا كانت الوحدة اليمنية هي خلاصة المشروع الوطني المتراكم على مراحل ، فإن الدستور والأفكار الثقافية الجديدة والمفاهيم والقيم الحديثة، التي جاءت بها الوحدة، أصبحت اليوم إحدى تعريفات الهوية الوطنية الواحدة والجديدة. وتلك إحدى أدوات القوة التي تخشاها مشيخات الخليج المتخلفة سياسيا وثقافيا وديمقراطيا.
لقد صارت الديمقراطية والتعددية والحريات والحقوق المدنية ومشاركة المرأة، من الثوابت الوطنية، لدى معظم شعوب العالم المتقدم اليوم، واليمن ليست بعيدة عن هذا السياق المتحول، وإن في بداياته. يستهدف العدوان اليوم بالدرجة الأولى القيم الجديدة التي ترسخت في المجتمع اليمني ويخشى انتقالها إليه كعدوى، ويجب على اليمنيين الحفاظ على هذه المكتسبات ضمن حرصهم الشديد على الحفاظ على التراب الوطني ووحدة الكيان.
ومعلوم ان بريطانيا لم تنهزم في الستينيات الا بعد أن سادت الحريات وتدافعت موجة الحركة النقابية والاتحادات والأحزاب.