*في إطار الاقتصاد الموازي المفروض من صندوق النقد الدولي
أوضح تقرير اقتصادي حديث صادر عن المجلة الاقتصادية الدولية وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية ان الاقتصاد المُوازي في البلدان العربية ينضوي ضمن التعريف العام بأنه نشاط اقتصادي غير مُعْلَن عنه لدى أجهزة الدّولة، وبالتالي فهو يقع خارج إطار القانون الذي يفرض تطبيق قوانين العَمل وتسجيل أي نشاط اقتصادي لدى إدارة الضرائب، مما يُشَوِّهُ عملية التّراكم الرأسمالي ويُحوِّلُ عملية الاستغلال التي يتميز بها النظام الرأسمالي إلى عملية “تهميش”،
وانه منذ حوالي أربعة عقود ( بداية سياسات “الانفتاح الليبرالي”) أدت السياسات الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي (ذراع الإمبريالية) إلى إضعاف قدرة بعض الدول العربية على فرض إطار قانوني لمراقبة الأجور والأسعار وتعديلها، وتغييب مراقبة المَعايير بشكل عام، واقتصار دور الدّولة على القمع وحماية رأس المال، الأمر الذي أدى إلى تَعَاظَمَ دور الاقتصاد غير الرّسمي في البلدان العربية وأصبح يُشكل ما بين 40 % إلى 50 % من إجمالي الناتج المحلي (بما في ذلك في البلدان النفطية)، مما أثّر في البُنْيَة الاقتصادية وفي علاقات العمل، ومما أضْعَفَ دور النّقابات ومنظمات حماية العمال والمُنْتِجِين والمُسْتهلكين،
ولفت التقرير إلى ان السبب الرئيسي لازدهار الاقتصاد الموازي يعود إلى انهيار الاقتصاد الرّسمي، ويُساهم ازدهاره في إعادة إنتاج الانهيار، وكلما زادت حصته من الناتج المحلي كُلّما ازداد التشابك بين الاقتصاد المُوازي (المَبْنِي على التجارة غير الشرعية للمخدّرات والسّلاح وتهريب كافة أنواع السّلع غير الخاضعة لأي رقابة صحية) والاقتصاد الرسمي في الحياة اليومية للسكان، ويُشكل الاقتصاد الموازي كارثة اقتصادية لأنه يستفيد من البنية التحتية ومن الخدمات التي لا يُساهم في تَمْوِيلِها، لأنه لا يُسَدِّدُ ضرائب إلى خزينة الدولة، كما يتضرر العاملون به لأنهم محرومون من الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية والتقاعد ومن تطبيق الحد الأدنى للرواتب، مما يُحقِّقُ أرباحًا خيالية للمُشْرِفِين على الاقتصاد الموازي،
وتُعتبر النساء أكبر ضحية لهذا القطاع حيث يرتفع معدّل العنف والتّحرّش، إضافة إلى الاستغلال الفاحش، كما أدى تعاظم دور الاقتصاد المُوازي إلى زيادة دور الشرطة والأجهزة الأمنية التي أوْكَلَتْ لها الدّولة إخضاع كافة المواطنين لمنطق المُساوَمة والتفاوض على مبلغ الرشوة، بدل خضوع الجميع لقواعد وقوانين واضحة، ليَشْمَلَ الاقتصاد الموازي كافة جوانب الحياة، سواء في الأرياف أو في المُدُن، في قطاعات الزراعة والعقارات والصناعة والخدمات وغيرها…
كما يُمْكن ملاحظة انتشار بعض أنواع السِّلَع المُهرّبة بكميات كبيرة، ووجود نفس السلعة في كافة أرجاء البلاد (مصر أو المغرب أو الأردن أو تونس…) مما يَدُلُّ على دخول هذه السّلع بحجم كبير، دون تسديد الرّسوم الجمركية، ويدل على وجود رأسمال قوي وأجهزة رسمية تَحْمِي عمليات تهريب وتسويق هذه السّلع…
وبحسب التقرير فقدارتبط ازدهار الاقتصاد الموازي بعدة ظواهر أخرى سَبَّبتْها ما تُسمى بـ”الليبرالية المتوحشة”، ومنها سياسات الخصخصة وإهمال مناطق عديدة من البلاد، وإهمال القطاع الفلاحي، مما أدى إلى نزوح السكان من المناطق الريفية إلى المدن وانتشار المناطق العشوائية في ضواحي المُدُن الكُبْرى، ويُسَبِّبُ هذا النشاط الاقتصادي (غير القانوني) نقصًا في إيرادات خزينة الدولة من الضّرائب، مما يُشكِّلُ عبئًا إضافيا على الأجراء الذين يتحملون أكثر من 80 % من إجمالي قيمة الضرائب على الدّخل، ليس في الدول العربية فحسب وإنما في معظم دول العالم، ويُؤَدِّي غياب مراقبة الدولة (إضافة إلى الاستغلال الفاحش للعمال) إلى تلويث البيئة، وعدم احترام قواعد التهيئة والتنمية العُمرانية، والاستيلاء على أراضي الدولة في معظم البلدان العربية (وغيرها)، بمساعدة أجهزة الدّولة الفاسدة (من شرطة وقضاء وسلطات محلِّية…) والأعيان والوُجهاء الذين يستفيدون مباشرة من منظومة الفساد ومن شبكات التهريب والقنوات الموازية في مجالات التجارة والمضاربات العقارية وغيرها…
و يَسْتغل الاقتصاد المُوازي الثغرات التي خلقتها السياسات الليبرالية والخصخصة وانسحاب الدولة من عدة قطاعات ليستحوذ الرأسماليون على قطاعات عديدة يستثمرون فيها، دون تسديد الضرائب ودون تأمين العُمال، ومن هذه الثغرات انهيار القطاع العام في مجالات النقل والسكن والتعليم والمرافق الأخرى، ويستغلون ضعف رواتب موظفي الحكومة لتشغيلهم (بعد الدوام الرسمي) في سياقة سيارات النقل ومؤسسات التعليم الخاص والمصحّات الخاصّة، وغيرها…
ووفقا للتقرير تُشَكِّلُ النِّساء شريحة هامّة من العمال غير المُصرّح بهم (وأحيانًا غير المُعْتَرف بدورهم الإقتصادي والإجتماعي)، فبالإضافة إلى العمل في المنزل وتربية الأطفال (أي الشعب بكافة طبقاته)، تعمل النساء في قطاع الزراعة وتربية الحيوانات، والتجارة سواء في الأسواق أو في المحلاّت التّجارية، حيث تغيب الحقوق الأساسية، ومنها عقود العمل والأجر الأدنى والتأمين الاجتماعي والصحي، بالإضافة إلى الإهانات التي تتعرض لها المَرْأة والأطفال بشكل خاص، مثل العُنف الجسدي واللفظي والتّحرش والإبتزاز سواء في مكان العمل أو في الفضاء العام…
ويقول التقرير ان سلطة الأجهزة القَمْعِية للدولة تَعزّزت مع تخلّي الدولة عن مهام مراقبة الاقتصاد وتعديله (أو تنظيمه) ومع هيمنة الاقتصاد الموازي على كافة القطاعات، بالتوازي مع زيادة دور البرجوازية الطفيلية (السّماسِرة والمُضاربون العقاريون والمستثمرون في التهريب والتجارة الموازية) وتعاظم دور وزارت الداخلية في مصر وتونس والمغرب والأردن وغيرها من البلدان العربية (وغير العربية) ودور الأجهزة الأمنية في تنظيم العلاقات الاجتماعية وإدارة الحياة اليومية للمواطنين (ما يُشَكِّلُ نقيضًا للديمقراطية)، وخصوصًا منذ تدشين الولايات المتحدة حقبة “الحرب على الإرهاب”، وتدريب شرطة العرب (بما في ذلك شرطة سلطة أوسلو) على قمع الفُقَراء بذريعة “مكافحة الإرهاب”، وتعمد أجهزة الشرطة إلى استخدام الباعة الجائلين والعُمال غير الرسميين والمُهَمّشين في اختراق ومراقبة المجتمع، ويستخدم ضُباط الشرطة نفوذهم لجمع الثروات من الرشوة والابتزاز، ومن الاستيلاء على سِلَعِ البائعين الجائلين، وعلى الأراضي والعقارات غير المسجلة، واقترن انتشار الاقتصاد غير الرسمي مع تفشِّي الفساد وتعاظم دور أجهزة الشرطة.