العدوان وتوحش الصورة الرعوية
محمد ناجي أحمد
( إن الثورة الحقيقية في العصر الجديد الذي نحن فيه على أعتابه هي ثورة النَّفَس الطويل . ودون ثورية النَّفَس الطويل لن يحدث تغيير حقيقي ،بل مجرد طفرات مؤقتة وتغييرات لا تلبث أن تزول )هشام شرابي –النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي .
الثقافة التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي هي تعبير عن سقوط الوعي الرفيع ،وبروز الاستلاب والتلقي السلبي .مزرعة حيوان إطارها الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي ، ومخرجاتها انخراط الشباب في فضاء من الظلمات والاستحمار بعضها فوق بعض .
أصبحت لغة الصورة ومجازاتها تعتمد على إلغاء الشروط الموضوعية لنمو الفكر . فالحدث منفصل عن كل ما هو حوله ، الحدث جملة وعبارة بصرية مكتملة بذاتها ومستغنية عن نسقها.
الحدث يتحول إلى صورة مؤطرة ومنتقاة بعناية ومقصد محدد ، وبسرعة لحظية عابرة ومنسية بتدفق سيل من الصور التي تعمل على انزياح مستمر للصور من الذاكرة نحو النسيان …
العالم ليس سوى حركة ضوء وفوتونات ومضية يتحكم بها طغيان القوة ،مستخدما للتنوع التقني ،في خدمة الجملة والعبارة البصرية ،فالحدث يصبح نجما قابلا للنسيان ،كشهاب ينطلق لينطفئ.
لا شيء يبقى في الذاكرة سوى الأثر المتحرك والعواطف المستهلِكَة والخانعة والجاهزة لاستقبال العديد مما تبثه الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي .
يفر الناس من بشاعة الجرائم في الواقع الحقيقي إلى صورة التي تقدم الجريمة في صيغة لونية ولفظية نظيفة ؛ أي أنها قتل نظيف وخال من الأخطاء ! بتدخل تقني وفرض وبرمجة لأذهان المشاهدين عبر حيل الاستبعاد والتركيز على منظور وإغفال أشياء غير صديقة ، ومن هنا تبرمج خيارات المشاهدين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية .
الإعلام لا يقول للناس فكروا ،ولكنه يقول لهم: نحن نفكر بدلا عنكم ، ونتحمل عنكم وعثاء المعرفة ، وهكذا تتم برمجة المجتمعات .
هكذا تصنع الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي ،إنها تجبرك على أن تكون متلقيا سلبيا وأن تكون عواطفك ومشاعرك من مخرجات أهدافها ومقاصدها.
هي فضائيات ومواقع تواصل تحدد ما ينبغي أن يحجب ، وما ينبغي أن يحاصر ويقلص ،وما ينبغي أن يسَوَّق. تصنع الخيارات وحاجة المشاهدين وما ينبغي معرفته وما ينبغي حجبه .
توظَّف الصورة كعلامة في التطبيع مع الكيان الصهيوني ،لما للصورة من تأثير يتجاوز الكلمات ،ولهذا قالت العرب « ليس من رأى كمن سمع « و «الشاهد العياني خير من الشاهد السماعي « في تقديم للصورة على السماع. من هنا نجد أن زيارة يمني يقيم في ألمانيا –إلى الأرض المحتلة فلسطين ؛ليتصور مع مجندات إسرائيليات ،مكثرا من التقاط الصور ،بل الهدف من الزيارة هو هذه الصور وترويجها في مواقع التواصل الاجتماعي ،ونجد وفدا بحرينيا ذهب إلى هناك بتوجيه رسمي لذات الغاية ،وبالمقابل نجد صهيونيا يذهب إلى قلب المقدسات الإسلامية في مكة ليلتقط صورا لنفسه وهو بجوار الكعبة ،إنها الصورة التي تذكرنا بأن ما سمي بحوار الأديان ،والذي عقد في أكثر من بلد منها السودان كان الهدف منه هو التطبيع مع الصهيونية ،وحدودها المفتوحة !
لا ينسخ تحالف العدوان الأمريكي /الصهيوني بقناعه الخليجي – جرائمه في اليمن من خلال الصور وكثافتها التي تزيح ما سبق من الذاكرة وتؤسس لما سيليها من الجرائم فحسب ،بل إنه يعتمد على تقنية محو الجريمة السابقة بجريمة لاحقة أشد نزيفا وتطايرا للأشلاء والمباني والأسواق ! تتحول من خلالها جريمة قصف محطة المخا وتطاير أشلاء الموظفين في بداية العدوان إلى جريمة أخرى في حافلة عمال ثم إلى قصف للعمال أثناء دوام عملهم في المصانع ،ثم إلى الأسواق المكتظة ثم الصالات المزدحمة بالأعراس والعزاء ،ثم المستشفيات والموانئ والطرقات إلخ . وفي كل مجزرة يريد محوها من الذاكرة يلجأ إلى مجزرة أخرى ومذبحة أشد فتكا ،معتمداً ذلك كتقنية لمحو الجريمة بجريمة أخرى ، في تناسل للجرائم وإزاحات للذاكرة وإماتة للشعور والتضامن الإنساني الذي ترهقه كثافة المذابح الجماعية فيلجأ إلا الاستسلام لهيمنة الصورة العدوانية ،التي تقول له :» إنها الحرب ولا توجد حرب دون أخطاء « لكنها لا تخبره بحقيقة هذه الحرب التي أصبح شاهق (أخطائها) لا يترك حيزا لما يمكن أن نسميه منطقا في الحروب والنزاعات ! فالطائرات والبوارج ترسل حمم موتها باسترخاء من ينفذ مناوراته العسكرية طيلة أربع سنوات ،لكن أهدافه كتل بشرية من المدنيين والبنية التحتية الضرورية لسيرورة الحياة الاجتماعية !
الصورة المنفلتة وغير المنضبطة بتلوينات ومقاصد العدوان تخيفه ،لهذا يحرص على احتكار الصورة ،وترغيب وترهيب المنظمات الحقوقية ، ويمنع الصحفيين الموضوعيين والمحايدين من التواجد في الأماكن التي تشن عليها عدوانها ، العدوان يخاف من الصورة التي تفضح توحشه .
هنا يتشابه العدوان والاحتلال الصهيوني الاستيطاني في فلسطين مع العدوان والاحتلال الأمريكي في العراق طيلة الأعوام ما بين 1990و2003م ، مع العدوان والاحتلال الأمريكي /الصهيوني الذي تتصدره السعودية والإمارات على اليمن .
القاتل يخاف من أن تخلده الصورة في أبشع مشاعره وفي لحظة تلذذه بدماء الضحايا!