التاريخ يصنع وعينا: 17 ذو القعدة يوم إيقاظ الوعي بمجزرة تنومة وسدوان
حمود الأهنومي
حمل الرجل السبعيني صالح مبخوت علي سعيد النصرة من أهالي بني مطر بندقيّته وانخرط في صفوف المجاهدين منذ سقوط أدوات السعودية وأمريكا في 2014م، فتنقل من جبهة إلى أخرى، قبل أن يستقر به المقام في آخر جبهة في تخوم عسير، لتوافيه الشهادة هناك، وقد جاهد، وصابر، ورابط، وختم الله له بالحسنى، غير أن السؤال الذي يُلِحُّ على أحدنا، هو: هل كان لدى هذا الشيخ الكبير دافعٌ إضافي للتحرك سوى ما هو سائد في أوساط الناس، من وجوبِ النفيرِ العام للدفاع عن الدين والأرض والعرض؟
دعوني أخبركم أن هذا الشهيد، كان مدفوعا إلى التحرك الجهادي بعدد من العوامل والأسباب، ومن بينها أن جدَّه الحاج علي سعيد النصرة، وعمه صالح علي النصرة، ورفيقهما الحاج علي مدينة من قرية المجدور بني مطر، كانوا شهداء في تنومة؛ لقد كان يعي ما معنى أنه يجاهد في سبيل الله قوما معتدين، لم يستجدَّ عدوانُهم من وقت قريب، بل فتح هذا العدو علاقة دموية ضد شعبنا، عمرُها يقارب القرن من الزمان.
ليس غريبا أن تجد أحفاد شهداء تنومة وسدوان في مقدّمة الصفوف والجبهات، بل هو وعي التاريخ، الذي يُلْزِم كلّ حرٍّ منهم أن يكون في هذا الموقف، وإذا عرفنا الشهيد العقيد الحلحلي، أحد أبطال قبيلة حاشد الأبية، وأنه هو مَنْ أغرق أول بارجة سعودية في البحر الأحمر، فإننا يجب أن نتذكّر أحدَ أجداده، وهو الشهيد البطل، الشيخ مقبل بن مبخوت الحَلْحَلي من بني صريم، حاشد، أحد أبطال معارك التحرير ضد الأتراك، والذي استأذن في تلك السنة سيفَ الإسلام أحمد للحج، فمازحه قائلا: كيف تريد أن تذهب للحج وتريد الجنة وأنت الرجل الغليظ الشديد؟”، فأجابه بلهجته المحلية: “عندخلها يا مولانا إن شاء الله بالصميل” ، فصرف له شيئا من ذخيرة الجرمل، وعاد لزيارة أهله، ثم سافر للحج.
وفي تنومة عندما بدأ الهجوم لجأ الشيخ الحلحلي إلى ربوة، وحفر مترسه فيها، وقاتل بتلك الذخيرة حتى انتهى ما معه منها، وكان بكل طلقة يصيب بها مقاتلا، ثم قاتل بسلاحه الأبيض، ثم بـ(صميله)، حتى استشهد، وعندما علم سيف الإسلام أحمد بنبأ استشهاده ذرف الدمع، وقال: “لا إله إلا الله .. لم يدخل أحد الجنة بالصميل، إلا الشيخ الحلحلي”.
بينما كنت أوثق الحاج أحسن الجشيمي، باعتباره أحد الناجين من مجزرة تنومة، وهو أحد أبناء وادي الفروات سنحان، إذا بي أمر في نفس اليوم، فأجد لوحة عملاقة في أحد شوارع العاصمة صنعاء، تحمل اسم العقيد في القوات البحرية الشهيد علي بن علي بن أحسن الجشيمي، وكأنه من أحفاده، وهذا هو ما يعنيه الوعي بالتاريخ، وما يترك من آثار إيجابية.
إن المعضلة أن كثيرا من أبناء مجتمعنا من أهل النص، وليسوا من أهل الاعتبار، فكثيرا ما طووا عن مئات المجازر ضد شعبهم كشحا، وكأنها لا تعنيهم، ويشبه حالُهم حالَ ذلك الرجل الذي كان ينكر وقوع مجازر ضد مدنيين، وإذا حدث أن جوّزها فسرعان ما يشفعها بأنها ضد مقاتلين حوثيين فقط، حتى إذا كان سَحَرُ يومٍ من أيام عام 2015م إذا به يُهْرَع إلى مسجدِ قريته، باكيا شاكيا لإمامه، أن “تحالف المجرمين” قصفوا داره، ودمروا متاجره، وقتلوا عددا كبيرا من أولاده وأحفاده، فقيل له: الآن صدَّقْتَ وكنتَ من المكذبين؟!، وهي قصة حقيقية سمعتها من شيخي العلامة أحمد درهم حورية المؤيد حفظه الله، وسمعت حينها عددا من القصص المشابهة لها.
في بداية العام الهجري الجاري صدرت الطبعة الأولى من كتابي (مجزرة الحجاج الكبرى)، قلتُ في مقدّمته: إنه لم “تطُلِ الغرابة لديَّ من هذا العدوان، بحكم المعرفة التاريخية بجرائم هذا الكيان، وبطبيعة المهمة والدور الموكَلَيْنِ إليه من مشغِّله البريطاني أولا، ثم الأمريكي لاحقا، حتى أنني في الباصات وبعض التجمعات كنت أطرح أن هذه الجرائم التي يرتكبونها ليست جديدة عليهم؛ إذ يجب أن نتذكّر جميعا مــجــزرة تـنـومـة ضد الــحــجــاج، وأن هذه المجازر التي نراها بشكل يومي في صنعاء وغيرها قد بدأت من ذلك اليوم المشؤوم، غير أن المصيبة كانت في أنّ معظم الــيــمــنيين الذين أصادفُهم لم يكونوا يعرفون شيئا عنها”.
في لقاءٍ يتيمٍ قال لي الأستاذ محمد علي الحوثي، رئيس اللجنة الثورية العليا: “يا أستاذ كتبتَ عن مجزرة تنومة، وهي مجزرة واحدة، والآن لدينا آلاف المجازر، نريد من يكتب عنها”، قلت له: هذا صحيح، غير أن الوعي بتلك المجزرة الأولى سيجعل من السهل على كلِّ يمنيّ حر أن يواجه آلاف المجازر اليوم؛ ذلك أن الوعي بها سيُسقِط ذرائع العدوان بشكل تلقائي؛ حيث نفذت ولم يكن هناك ذرائع الـ(حوثة)، ولا (إيران)، ولا (الروافض)، وإن لم يعدَموا علة أنهم مشركون، وكان قادتهم غداة ارتكابها يأمرونهم بلهجتهم النجدية، قائلين: “أجتلوا المشرج”، أي: اقتلوا المشرك، كما روى ذلك الرئيس الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني، في مقدمة كتاب أبيه، هداية المستبصرين شرح عدة الحصن الحصين.
خلال نشر الكتاب على شكل حلقاتٍ في صحيفتي (الثورة) و (صدى المسيرة)، كان السيد القائد سلام الله عليه أولَ من أرسل لاقتناء نسخةٍ ورقية منه؛ الأمر الذي أشعرني بوجوب الشكر لله على التوفيق والسداد، كما أشعرني ذلك بأهمية الكتاب وضرورة نشره، ثم ما لبثت طلبات نسخه الورقية أن تتالت بشكل واسع على المستوى الرسمي والشعبي، وفي مقدِّمة أولئك دولة رئيس الوزراء، الأستاذ الدكتور عبدالعزيز ابن حبتور، وكثير من السادة العلماء والأكاديميين والباحثين والكتاب والإعلاميين.
حينها أرسل إليَّ أكاديميٌّ مرموق من جامعة عدن (أحتفظ باسمه) يطلب نسخا من الكتاب، ثم ما لبث أن بعث بشكره وتقديره للكتاب، وفي طيِّ ذلك أودع عبارةً حكيمة، قال فيها: “إن استيفاء بيانات شهداء المجزرة واجبٌ وطني علينا جميعا”، وبالفعل يبقى هذا هو الهمَّ الذي لا يجوز أن ينساه أيٌّ منا.
في الـ 17 ذي القعدة القادم يوم الذكرى السنوية للمجزرة، والذي يصادف الاثنين 30 يوليو القادم، سيوزّع الكتابُ في طبعته الثانية، بزيادة في تراجم الشهداء، والناجين، مع تعديل وتصحيح وتنقيح، وربما سيتمُّ بثُّ فيلمٍ وثائقي عن المجزرة، ولا شك أنه سيكون أكثر قدرة وأوسع تأثيرا في تحويل قضية المجزرة البشعة إلى رأيٍ عام محلي وعربي وإسلامي بإذن الله تعالى، وبهذا فإن دائرة الوعي ستتّسع، وبالتالي ستعطي خلفية عميقة لهذا العدوان السعودي الأمريكي على بلدنا، وعلى بلدانٍ عربية وإسلامية أخرى؛ إذ أقلُّ ما فيها أنها ستُسْقِطُ الذرائعَ التي يُطْلقونها اليوم تبريرا لنشاطاتهم العدائية ضد العرب والمسلمين جميعا.
بادرت بكتابة هذا المقال قبل حلول الذكرى لكي أبادر بالتذكير بما يجب علينا – مفكرين وعلماء وأكاديميين وسياسيين وباحثين وكتابا وإعلاميين وفنيين – تجاه هذه المجزرة، من التعريف بها، ونشر مساحة الوعي بها، والتعاون في توثيق ضحاياها، حتى إذا أظلتنا الذكرى المئوية الأولى 17 ذي القعدة 1441هـ، كنا قد أعطيناها حقها من التوعية، والتوثيق، والاعتبار، والثقافة التي تصنع السلوك القويم، وتنتج المواقف الصائبة.
هذا خبر ما عندنا، فما هو خبر ما ستفعلونه يا كل يمني حر بحلول ذكرى هذه المجزرة الأليمة؟!