الشركات متعددة الجنسيات.. تمول الإرهاب
إيهاب شوقي
الاستقلال السياسي يتطلب استقلالاً اقتصاديا، والمقاومة تتطلب اقتصادا مقاوما، وكل الأحداث تثبت صحة هذه المعادلة وتؤكد يوما بعد يوم أن الاستعمار ينطلق من الاقتصاد ويمر وينتهي به.
ومن بين أكثر أوجه الاستعمار الاقتصادي فجاجة، تأتي الشركات العابرة للقارات والتي ترفع شعارات التنمية والمساعدة وهي تغتصب وتنهب موارد الشعوب.
مع نهاية القرن العشرين، احتلت 53 شركة متعددة الجنسية مكانتها من بين قائمة 100 أكبر الاقتصادات على مستوى العالم.
ووفقا للتقارير المعتبرة، فقد باتت هذه الشركات الضخمة تنافس الدول وفي بعض الأحيان نجد أن ناتج بعض هذه الشركات العملاقة يفوق الناتج القومي لكثير من دول العالم.
ولعل القضية المثارة حاليا حول شركة “لافارج” الفرنسية وتمويلها للارهاب، تكشف دور الشركات العالمية متعددة الجنسيات والعابرة للقارات، في خدمة الاستعمار، أو ممارسة الاستعمار كشركات ترتقي لمراتب الدول أو حتى تفوقها!
وكي ننفذ لصميم الموضوع المراد مناقشته، فإن القضاء الفرنسي يقوم بالتحقيق مع شركة “لافارج”، وهي شركة فرنسية متخصصة في ثلاثة منتجات رئيسية: الأسمنت، ومجاميع البناء، والخرسانة. واتُهمت “لافارج” بتمويل منظمات إرهابية في سوريا خاصة تنظيم “داعش”.
كما اتهمت المحكمة الشركة القابضة بانتهاك الحظر وتعريض حياة الآخرين للخطر، حسبما أوردته “رويترز” نقلا عن مصادر قضائية. وقد تم فتح التحقيق في عام 2017 من قبل مكتب المدعي العام في باريس، ووفقا للتقارير فإن الاتهامات وجهت لثمانية من المسؤولين التنفيذيين السابقين والحاليين في “لافارج”، بما في ذلك الرئيس التنفيذي السابق برونو لافون.
ويشتبه في أن “لافارج” دفعت مبالغ مالية لجماعات مسلحة ما بين العامين 2011 و2015، عن طريق وسطاء، تبلغ قيمتها أكثر من 12 مليون يورو. ومن بين تلك الجماعات تنظيم “داعش” الذي حصل على حصة من المبالغ مقابل السماح لمصنعها في سوريا بمواصلة أنشطته الصناعية.
وقال المسؤولون إنهم دفعوا الأموال كرشاوى للاحتفاظ باستمرار عملهم في أماكن سيطرة “داعش”.
إنما اللافت في الأمر، أن مسؤولين سابقين آخرين برروا استمرار نشاط الشركة بحجج أخرى وهي الاحتفاظ بموقع استراتيجي حتى تكون الشركة في الصف الأول عندما تدعو الحاجة لإعادة إعمار البلاد بعد انتهاء المعارك. وشدد المساعد السابق للمدير التنفيذي العام، كريستيان هيرو، على أن السلطات الفرنسية وافقت على البقاء.
والسؤال هنا:
هل دخول الشركة قبل احتلال “داعش” بشهور كان مصادفة؟ الشواهد والاحداث تقول انه يصعب اعتبار ذلك مصادفة، وخاصة اذا ما استدعينا بعضا من امثلة التاريخ الحديث مثل هذه الامثلة البسيطة:
* في عام 2001 كشف تقرير للأمم المتحدة الاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية في الكونغو الديمقراطية، حيث رصد أنه ومنذ بداية الحرب في هذا البلد عام 1998م استخدمت الشركات العالمية التي تنقل الأخشاب من شرق الكونغو ميناء ممباسا لتصدير هذا المورد، وأن الأخشاب التي قطعت في شمال بحيرة كيفو قد عبرت إلى أوغندا في طريقها إلى ممباسا، ونقلت بواسطة شركة نقل TMK.
* وبالنسبة لتنزانيا، أثبتت الوثائق أنها فى الفترة من ديسمبر 2000 إلى مارس 2001 تحركت سفينتان على الأقل من ميناء دار السلام محملتين بالأخشاب القادمة من الكونغو الديمقراطية، حيث نقلت عبر القطارات من كيجوما إلى ميناء دار السلام، وكانت السفينتان مملوكتين لشركتين يونانية وبلجيكية.
* رصدت منظمة الشاهد العالمي Global Witness في بريطانيا أن 4 امتيازات في مناطق الغابات في الكونغو، مثلت 15% من مساحة البلاد، جاء أغلبها لشركة كنغولية لاستغلال الأخشاب وهي Socebo وفيها أنصبة لشركاء عالميين، ومولت هذه الشركة تكاليف التدخل العسكرى لزيمبابوي، إلى جانب حليفها الرئيس الراحل لوران كابيلا الذي اغتيل في يناير 2001 في مواجهة رواندا وأوغندا ودعمها لميليشيات مناوئة لكابيلا الأب أثناء الحرب، كما اتهمت منظمة “هيومان رايتس ووتش”، وكذلك تقرير للأمم المتحدة في أبريل 2002 أوغندا بسرقة الخشب والذهب من منطقة شمال شرق الكونغو، خاصة منطقة إيتوري لصالح شركات عالمية في الولايات المتحدة وألمانيا.
والأمثلة غير ذلك كثيرة ومعلنة وموثقة، تثبت تدخل الشركات في الصراعات وتغذيتها وتمويل أطرافها بالسلاح مقابل الموارد، ثم الدخول في التسويات لإعادة الاعمار، أو عقد اتفاقات طويلة الأمد لاستغلال الموارد.
وبالتالي فإن المسكوت عنه في قضية “لافارج” يتعلق بتورط مباشر ليس فقط في التمويل أو الرشوة أو الطمع في اعادة الاعمار، وانما قد يتعدى ذلك لنطاق المشاركة والتخطيط والتعاون اللوجستي، ولكننا لن نستبق التحقيقات.
و”لافارج” التي أصبحت فرنسية سويسرية في 7 أبريل 2014، حيث أعلنت شركة هولسيم السويسرية عن صفقة لشرائها من خلال الأسهم، وذلك لتأسيس أكبر منتج للأسمنت في العالم بمبيعات مجمعة 32 مليار يورو، وقيمة سوقية تبلغ 50 مليار دولار أمريكي، تحت مسمى شركة لافارج هولسيم، لها انشطة في دول العالم المختلفة، ولكن دعونا نخص نشاطها في مصر المهددة ارهابيا، فربما يكون هذا انذارا لها لتتعظ مما حدث في سوريا إن أرادت ذلك!
تأسست “لافارج” في مصر عام 2008 وذلك عندما قامت شركة “لافارج” الفرنسية بشراء مصنع الأسمنت الخاص بشركة أوراسكوم للإنشاء والصناعة والكائن في العين السخنة، وقد قدرت قيمة الصفقة بحوالي 12.81 مليار دولار أمريكي، وتم تغيير اسم الشركة من المصرية للإسمنت إلى لافارج للإسمنت مصر.
وتقول التقاريرالاقتصادية، إن شركة “لافارج” للإسمنت مصر “المصرية للإسمنت سابقا” ، تعد من اللاعبين البارزين بحجم إنتاجها البالغ 10 ملايين طن من الكلنكر سنويا، والذي تستحوذ به على 20% من الإنتاج المحلي، وتملكها مجموعة “لافارج” العالمية الفرنسية بعد خروج مجموعة ارواسكوم منها فى نهاية 2007.
ولبيان ضخامة نفوذ “لافارج” في مصر، يجب أن نعرف أنها سبقت الشركات العريقة تاريخيا في مصر، وأن المؤسسة العسكرية المصرية تستحوذ عبر شركة العريش للإسمنت على قرابة 7% فقط من إنتاج الإسمنت بإنتاج الشركة البالغ نحو 3.5 مليون طن سنويا، ليغطي كافة احتياجات مشروعات القوات المسلحة من الاسمنت.
ومن المفيد أن نعلم أن ملكية شركات الإسمنت في مصر شهدت تطورا ملحوظا، حيث بدأت تابعة للقطاع الخاص فى 1911، ثم خضعت للتأميم عام 1961 بتطبيق القوانين الاشتراكية ثم انشئت شركات أخرى تابعة للقطاع العام فيما عدا شركة السويس التي انشئت تابعة لقانون الاستثمار واعتبرت شركة قطاع خاص رغم تملك معظم أسهمها لشركات إسمنت وبنوك وشركات تأمين تابعة للقطاع العام.
وعندما تبنت الحكومة في نهاية التسعينات وبداية عام 2000 وما بعده سياسة الخصخصة تملك عدد من الشركات العالمية عدداً من الشركات المحلية (سيمكس – لافارج – تيتان – سيمبور – إيتال سيمنت، وغيرها).
على مصر أن تعلم انها سلمت معظم انتاجها من الاسمنت لشركة ممولة للارهاب، وشركة تستنزف خيرات وموارد مصر وهكذا تعمل شركات أخرى في دول أخرى وخاصة افريقيا.
المحزن أن الشركة تعامل السوق والمستهلك المصري بشكل غير عادل، فمنذ شهور، تقدمت جمعية “مواطنون ضد الغلاء” بشكوى رسمية إلى مجلس الوزراء، قالت فيها إن شركة “لافارج للإسمنت” قامت بتصدير المنتج النهائي من مصر بسعر متدنّ وأقل من سعر بيعه في السوق المحلية. وأصدرت الجمعية بياناً قالت فيه إن “شركة لافارج الفرنسية تصدر الأسمنت بـ31 دولاراً إلى كينيا، أي ما يعادل 600 جنيه تقريباً، بينما تبيعه للمستهلك المصري بـ1300 جنيه”.
الاستعمار يستنزف الخيرات ويمول الارهاب ويبيع السلاح عبر شركاته، والمقاومة والاستقلال والتحرر، ينبغي ان تكون اولى خطواتها الاقتصاد المقاوم.