قصائد في محراب الضوء

 

د.عبد العزيز المقالح*

يبقى الوطن هو بوصلة القلب وأفق الروح .. وهو النبض العذب على إيقاعه تنشد الروح أناشيدها وتترنم به وبمجده وخلوده وإنسانه.
يبقى الوطن وهمومه وأحلامه وأفراحه ومواجعه هو ضوء الكلام وعطر القصيدة وعبق حروفها..والحلم بسعادة الإنسان وسلامه وتحقيق أمانيه..
يبقى الوطن هو ربيع الكلام واللغة واشراقتها الأجمل والأبهى والأروع والمعنى المسافر إلى الخلود .
وحين يكتب الشعراء الكبار عن الوطن وعن غده ومستقبله وعن الامه ومواجعه , تأتي القصائد صادقة ومتوهجة بروعة الحب والانتماء والشغف بعشق الوطن والحلم الدائم برؤيته في قمم المجد والشموخ والمحفوف بالمجد والسلام والازدهار والرخاء.
وخلال الايام الماضية نشر شاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح مجموعة من قصائده المبدعة وذلك في صفحته الرسمية في الفيس بوك.. وهي قصائد مفعمة بالحب والعشق للوطن العظيم ومعبرة عن الكثير من المواجع والهموم التي تحف بالإنسان.
انها آهات محب صادقة ولوعة عاشق ونبضات مبدع كبير كتبها بضوء القلب والضمير.
وفيما يلي بعض هذه القصائد المبدعة والمعبرة لشاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح:

من هلوسات الحرب
لا شيء يُطربني
لا شيء يُبكيني
الماءُ من حولي
ورهنُ يدي
لكنه ما عاد يرويني
أنا ميّتٌ، من ذا يواريني
وعن الزمانِ المُر
يخفيني؟
أدعو سماواتي فتخذلني
وترُدني لكياني الطيني.
* * *
وظننتُ أن الشعر ينقذني
من عالمي
ويشدّني للعالم الأرقى
لكنه ما انفكّ يرهقني
ويشدني لجحيمه الأشقى
خلع الغشاوةَ عن حروفِ فمي
لترى به ما لم تكن تدري
ولا تلقى.
* * *
يا أخوتي في الحرف
أسألكم:
هل نحنُ موتى
غير مقبورينَ
أم أحيا ؟
الحرب تطوينا وتنشرنا
قهراً،
وتسلبُ وعيَنا الوعيا
وتريدنا حطباً لفتنتها
والناسُ في تفسيرها
تــْعيا.
* * *
أنا ميّـتٌ
والكونُ قبري
أهدرتُ أيامي
على جسرِ الأسى
وذرفتُ شعري،
ما فادني فهمُ الأمورِ
ولا انتفعتُ بطولِ صبري
وخرجتُ من دنياي
مخفوراً بأحزاني وقهري.

****
نافذةٌ على الرُّوح
نادِ المَنايا، وقُل لِلرِّيحِ: يا رِيحُ
النَّاسُ في الحَربِ قَتْلَى أَو مَجَارِيحُ
يُسَارِعُونَ إِليها دُونَما سَبَبٍ
كَأنّهم حَطَبٌ لِلنَّارِ مَطروحُ
أَجسادُهُم فَوقَ صَدرِ الأَرضِ عاريةٌ
فَإِنْ تَجِدْ كَفَناً فَالأَثْلُ والشِّيحُ
إِلى متى يَتَخَلَّى الشَّعبُ عَن دَمِهِ
وليسَ يُسعِفُهُ (عِيسَى) ولا (نُوحُ)؟
لا العتْبُ يُوقِظُهُ.. لا السَّوطُ يُلهِبُهُ
ولا يُحَرِّكُهُ هَجْوٌ وتَجرِيحُ
تَجَمَّدَت كَلِماتُ اللهِ في فَمِهِ
وغَامَ في صَدرِهِ ذِكرٌ وتَسبيحُ
مَسَاجِدُ اللهِ في الأَسحارِ صامِتةٌ
تَجَمَّدَت في المَحَارِيبِ التَّراويحُ
القَلبُ مُنفَطِرٌ حُزناً ومُنكسِرٌ
والعَينُ دامِعةٌ, والرُّوحُ مَجرُوحُ
الضَّالِعُونَ الضَّحَايا بِئسَ ما اقتَرَفُوا
هُمُ الزَّنازِنُ فيها والمَفَاتِيحُ
ماذا تَبَقَّى لَهُم مِنهُم؟! ولَيسَ لَهم
في عالَمِ اليَومِ لا نَبضٌ ولا رُوحُ
تَكَاثَرَت في زَمَانِ الرُّعبِ آلِهَةُ الــ
ـفَوضَى جُزَافاً.. فقُل لِلرِّيحِ: يا رِيحُ
من آخر الدهشة إلى أول الذكرى
قَبلَ الشعر،
وقَبلَ الكلمات،
وقَبلَ الإنسان،
كان الخالقُ قد كتبَ الأرضَ
وسوّرها بالبحر
وزيَّنها بالغابات
وبالأنهار
وأبدعَ في تلوين الأشجار
وفي ضبطِ مساحات
الضوء .
وكان -تعالى-
قد شقَّ سُهولاً وحُقولاً
وأقامَ تِلالاً وجبالاً
وأطلّ من المَلأ الأعلى
لِيَرى ما صَنَعَتهُ على صدر الأرض
يداه .
* * *
فَتَحَ الشاعرُ ذاتَ صباحٍ
عينيه على هذا المشهد
والخلق المنظوم،
ابتَلَعَتهُ الدهشةُ
ساورهُ شوقٌ للشعر،
حاول أن يكتبَ ساقيةً بالقرب
من النهر
فلم تسعفه الكلمات
وحاولَ أن يكتبَ غصناً
بالقرب من الغابةِ
سَخِرتْ منه الأشجار
فألقى الأوراق إلى البحر
وأعلن عن خيبتهِ
القصوى.
* * *
أبداً
لا يتوازى ما يَكتبهُ الشعراءُ
على الأوراق
بما يكتبهُ الخالقُ في صفحةِ
هذا الكونِ الـمُمتدّ
طريّاً
وبهيّاً.
عند أقاصيهِ
يتجلّى الأشهى
والفاتن
والمخفورُ بِهالاتِ ظلالٍ
شاخصةٍ
وظلالٍ خافيةٍ
لا يدركها الغارق في ملكوت الدهشة
إلاَّ بلسان الروحْ .
* * *
ما الدنيا؟
ما الشعرُ؟
وما الموسيقى؟
ما هذا الصوتُ القاتمُ والطالع
كفراشاتٍ من خلف صباحاتِ الأرض،
ومن تحت نجوم الله؟!
حيناً يمشي فوق أصابعهِ
مبتهجاً
وأحايين يَجيء
إلى هذي الدنيا كبكاءٍ
مجروحٍ؟
لا يبقى شجرٌ أو حجرٌ
لا يَبكي لوعتَه؟
هل هو صوتُ الشاعر
عاد من العُزلةِ
مغسولاً بالتوبةِ
محمولاً في تابوت
الكلمات؟!
* * *
حين يَرى الشاعرُ
مخلوقاتِ اللهِ على هيئتِها المكتملةِ
الـمُثلى
يَسمع منها ما لا يُسمع
ويَرى ما ليس يُرى
حينئذٍ يَصحو
ويمدّ يديهِ إلى أوراقٍ
يابسةٍ
كي تخضّر إذا لامَسَها الشعر
وأدركها شيءٌ
من أصداءِ طفولته
مختلطاً بنداء الأمِّ
وأصواتٍ تأتي
من أغوار الزمن الأبعدْ.
* * *
سبحان الله؟
لقد أعطاني الشعرَ
على طبقٍ مكتظٍ
بحليب الساعاتِ الأولى
من عمر الجسدِ الهشّ
وبَصّرني كيف أرى في وجهِ
سماءِ الدنيا
لغةً وقصائدَ،
علَّمني أن لا أقرأَ بالعين
ولكن بالقلب،
وأن أتحسَّس آلامَ الأرض
وأحزانَ البحر
بوجدانٍ صافٍ
خالٍ من إغواء الجسد
الفتان .

قد يعجبك ايضا