الجذور التاريخية للصراع اليمني السعودي ” 6″
عبدالجبار الحاج
بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى واستقلال شمال اليمن طالب الإمام يحيى حميد الدين بإعادة عدن ومحمياتها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من التراب اليمني، وأكد أن البريطانيين اغتصبوها بالقوة كما اغتصبها الأتراك من قبل، وأنه لا يعترف بالمعاهدات التي عقدها البريطانيون مع العثمانيين، ومن ضمنها معاهدة الحدود التي وصفها بأنها تمت بين طرفين مغتصبين،* لا حق لهما في التصرف في أرض اليمن.
إلا أن البريطانيين اعتبروا شمال اليمن المستقل وريث الدولة العثمانية وملتزماً بكل المعاهدات التي وقعتها الدولة العثمانية معهم، ووصفوا خلافهم مع الإمام بأنه خلاف حول تحديد الحدود، في حين رفض الإمام هذا التوصيف وأصر على استرجاع كامل تراب جنوب اليمن،
فرد البريطانيون عام 1918م بضرب موانئ الحديدة واللحية والصليف والمخا في الشمال*، وقاموا بتسليم ميناء الحديدة لعدو الإمام وحليفهم الإدريسي. فرد الإمام بتزويد القبائل في الجنوب بالمال والسلاح وطالبهم بالتعاون معه لطرد الاحتلال واستعادة أراضي الجنوب *
ولقيت دعوته هذه قبولاً فتمكن بمعاونة القبائل عام 1926م من السيطرة على مناطق واسعة في المحميات الغربية وبالذات في الضالع والعواذل، ولحج*. مما دفع بريطانيا إلى تشكيل وحدات عسكرية محلية تحت قيادة ضباط بريطانيين، وتوجيه ضربات جوية لقوات الإمام يحيى والمناطق القبلية المتحالفة معه، وقصف مدن ومناطق في شمال اليمن، في الفترة من 1928 وحتى 1934م .*
وتزامن مع هذا ارتكاب الإمام يحيى أخطاءً كبيرةً حيث طلب من الأهالي في المناطق المحررة تسليم ضريبة الزكاة، وكانت بريطانيا لا تطالبهم بشيء، ولا تفرض عليهم أي التزامات مالية، وطلب من المشائخ تسليم الرهائن * وأوكل إدارة المناطق المحررة إلى إقطاعيين ورجال دين ما لبثوا أن سيطروا على الأرض التي كان الأهالي يدافعون عنها، وقاموا باستغلال الأهالي، فتراجع تأييدهم له * ومن ثم تراجعت قواته التي أصبحت تفتقر إلى الدعم الشعبي.
في الوقت الذي كانت فيه السياسات الدولية تدفع بأدوات المطامع والتي مثلتها نيابة عن بريطانيا مطلع القرن العشرين .. ففي مراحل وظروف تاريخية قست وتكالبت على وطننا وشعبنا اليمني كانت التجزئة تنتج مشروعاتها الخاصة متضافرة في صناعة شروخ عميقة في جدار الوطن من مطامع الخارج وغزواته وحروبه وهنا أتكلم عن جذور الأطماع السعودية من جهة ومن جهة أخرى المطامح الهزيلة والضيقة للسلاطين والمشائخ الرجعيين في إمارات ومن ثم المحميات التي دعمها وشجعها الانجليز وصنعها بارزة في الجنوب تلك التي بذرت بذرتها الأولى نحو الانفصال عام 1728 للمرة الأولى في ظل غياب الدولة الواحدة ..
..من جهة أخرى على الرغم من أن نهج يحيى لم يخل أبدا من خطاب ومعارك وحروب الوحدة إلا أن أخطاء سياسية ونهج الجباية المالية وقسوة الجباة وأيديهم الطليقة بالرحمة بالرعية وسياسات خلطت بين استقطاب الموالين وبين إطلاق أيد هم حكام وطغاة محليون ومنحهم صلاحيات أنتجت إقطاعيات كبيرة على حساب المصلحة العامة وممتلكات صغار وفقراء الرعية ..
هذه العوامل من أخطاء السياسات من الداخل وأطماع الخارج وصراعات أنتجتها الدونية الوطنية تضافرت عوامل التجزئة والأطماع وصراعات طغت عليها الذاتية والدونية الوطنية في وخلال مراحل طويلة ..
ولموازنة النفوذ البريطاني قام بالاتصال بالإيطاليين عام 1926م وعقد معهم معاهدة اعترفت بموجبها إيطاليا باستقلال سلطة الإمام عن تركيا، ونظمت التبادل التجاري بين البلدين، وعقد معاهدة مماثلة مع الاتحاد السوفيتي*
فرد البريطانيون عام 1928م، بقصف مدن تعز، ويريم، وإب والمناطق المجاورة لها.
وتزامنت هذه السياسة مع تزايد الضغوط العسكرية السعودية من الشمال، فرضخ الإمام للأمر الواقع ووقع معاهدة مع بريطانيا عام 1934م اعترف بموجبها ببقاء المحافظات الجنوبية تحت حماية بريطانيا لمدة أربعين عاماً، مقابل أن تعترف بريطانيا بسلطته على شمال اليمن *
وبالإضافة إلى دور وسياسية بريطانيا الرامية في كل المستعمرات إضافة إلى أخطاء الإمام يحيى السياسية المالية الإدارية ومنها الزكوات وطريقة وقسوة الجباة لعب دورا في صناعة مشكل التجزئة فإن المصالح الضيقة للسلاطين والأمراء والمشائخ كانت تكرس هذا الواقع، فعندما تغيرت سياسة بريطانيا تجاه الجنوب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بهدف التخفيف من أعبائها المالية، وتأهيل الجنوب للمساهمة في مواجهة التحديات العسكرية المحدقة بالمنطقة، قاوم هذا التوجه السلاطين والأمراء خشية أن يؤدي دمجهم في كيان أكبر إلى الحد من صلاحياتهم في التعامل مع رعاياهم، وأن يمتد نفوذ هذا الكيان إلى شؤون مناطقهم الداخلية.
ففي عام 1925م، عندما طرح المقيم البريطاني في عدن ضرورة دمج المحميات تحت غطاء تسهيل إدارتها([10])، وكرر هذا الطرح عام 1930م، لقيت الفكرة معارضة من قبل الأمراء والسلاطين خشية إضعاف نفوذهم.
وظلت هذه المعارضة قوية إلى أن جاء احتلال إيطاليا للحبشة عام 1937م، وتزايد المخاوف من أن تنشغل بريطانيا بصراعاتها الأكثر أهمية داخل القارة الأوروبية حيث كانت القارة على أبواب الحرب العالمية الثانية، فتصبح جنوب اليمن المفككة إلى كيانات صغيرة محل أطماع من قبل إيطاليا، وبالتالي خفت المعارضة وأصدرت بريطانيا مرسوماً ملكياً، يقضي بتحويل السلطنات والمشيخات والإمارات إلى محميتين هما المحمية الغربية، والمحمية الشرقية، وتضم كل منهما خمسة كيانات. *
وفي أوائل الخمسينيات قدم مستشار المحمية الغربية مشروعاً يقضي بتشكيل حكومة ومجلس تشريعي لكل من المحميتين الشرقية والغربية، على أن يكونا معينين ويتبعا المندوب السامي العام في مدينة عدن، وعقد مؤتمر لهذا الغرض حضره ثمانية عشر حاكماً من حكام المحميات *، إلا أن هذا المشروع لقي مقاومة من قبل السلاطين والأمراء، فأعيد طرحه مرة أخرى عام 1954م* ولكنه ظل محل مقاومة من قبل السلاطين والأمراء ولنفس الأسباب.
ولم تصبح فكرة الاتحاد أكثر قبولا إلا بعد عام 1956م، حيث برزت عوامل جديدة جعلت فكرة الاتحاد أكثر قبولاً من ذي قبل، منها انتهاء العزلة التي كانت تعاني منها البلاد بفعل حركة الهجرة العائدة إلى الجنوب،
وبفعل :
قيام ثورة يوليو في مصر عام 1952م،
فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م،
قيام ثورة يوليو تموز في العراق عام 1958م،
اكتساح المد القومي للمنطقة العربية،
استمرار مطالبة شمال اليمن باستعادة أراضي الجنوب .
ولكن تناول هذه المرحلة بصورة مكثفة بأحداثها وتحولاتها الكبرى في المنطقة والعالم بأسره خلال الخمسينيات والستينيات سأتناوله في حيز خاص ضمن هذا العنوان في مرحلة تالية من الجذور التاريخية للصراع اليمني السعودي تلك مرحلة هامة من تاريخ حروب سعود الطويلة في اليمن والتي جسدت وتجسد بوضوح مطامعها التوسسعية ومشاريعها التفكيكية لليمن ومن ثم السيطرة على قرارها السياسي في ظروف ما يسمى بالسلام معها ..
في الحنوب مرة أخرى وبصيغ التفكيك والتقسيم بصيغة مختلفة هذه المرة ..رأت بريطانيا أن قيام كيان اتحادي سيضع حداً لهذه المطالب، بالإضافة إلى إدراك بريطانيا أن وقت الاستعمار التقليدي قد أزف وأن من مصلحتها قيام دولة ترتبط معها بمعاهدة صداقة وتضمن بقاء قاعدتها العسكرية في عدن، ورأى السلاطين أن بقاءهم في حالة تفتت قد يؤدي إلى ابتلاع وتذويب كياناتهم ضمن مشاريع أكبر. وبالتالي أُقر المشروع الاتحادي بصفة نهائية في 11 فبراير عام 1959م،وجُعلت رئاسة الاتحاد دورية بين السلاطين* وشُكلت حكومة اتحادية*وعُقدت معاهدة حماية وتعاون مع بريطانيا في العام نفسه* .
ودخلت الاتحاد ست إمارات من أصل إحدى عشرة هي بيحان، والضالع، والفضلي، والعوذلي، ويافع السفلى، والعوالق العليا …
أما العوالق السفلى، والعقربي، ودثينة، لم تنضم إلى الاتحاد الا في فبراير عام 1960م. وانضمت في العام التالي إمارة الواحدي في أبريل عام1961م[??قحطان الشعبي )، وفي يناير 1963م انضمت مستعمرة عدن .*
إن النزعة الانفصالية في اليمن اتخذت شكلين اثنين فنزعة عدن للعدنيين قابلتها خيارات الجنوب العربي وكانت الرابطة احد تعبيراته وحوامله ..
على أن النزعات الانفصالية هي نتاج عوامل طارئة ودخيلة تمثلت في الاستعمار، وأخطاء سياسات مالية إدارية اتبتعها الإمامة،من ناحية ومن ناحية أخرى نتاج أنانية وانعزالية ونظرة ضيقة محكومة بمصالح ذاتية للسلاطين وأمراء المناطق المتمسكين بسلطاتهم المطلقة على مناطقهم.
على صعيد السياسة الخارجية كان الإمام قد مد جسور العلاقة مع السوفييت منذ العشرينيات وفي الوثائق ما يبرهن على تلك المراسلات وتطورت تلك العلاقة الى التوقيع على اتفاق صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي عام 1928م- كل المراجع تشير إلى هذا التاريخ ويبدو ان خطأ مطبعيا قد وقع في كتاب سيد مصطفى سالم بعنوان تاريخ اليمن الحديث يرد الهامش انها عام 1927او ان هناك مرحلتين لإبرام الاتفاقية إحداهما في اجتماع الوفدين عام 27 والثاني اجتماع التوقيع بين الطرفين السوفييتي واليمني ونحن نثق بالمؤرخ سيد مصطفى فهو ممن سبقوا في العصر الحديث إلى انجاز أهم عملين عظيمي الفائدة والسبق وهما كتاب مراحل العلاقات السعودية اليمنية وكتاب تاريخ اليمن الحديث – وفي مقابل ذلك ذهبت دولة الحجاز إلى عقد اتفاقية مماثلة مع السوفيت خلال هذه الفترة وعلى الرغم من سلطة الشريف في تلك الفترة كانت قد أخضعت الحجاز وجعلتها واقعة كليا في كنف التبعية لبريطانيا . وهي نفس الفترة التي بدأت بريطانيا سرا تعقد صفقة مع آل سعود تمهيدا لضم الحجاز إلى سلطان نجد عبد العزيز ورغم أن الأخير كان لا يزال اضعف بكثير من قوة الشريف في الحجاز الا ان بريطانيا رأت في عبدالعزبز الرجل الأفضل لها من حيث استعداده المطلق لتقديم ما تريده بريطانيا دون نقاش إلى أن تم فعلا تخلي بريطانيا عن إشراف الحجاز لصالح عبدالعزيز .
كانت نتيجة دعم بريطانيا لعبد العزيز أن بدأت أطماع سعود تتعاظم جنوبا في شمال اليمن في كل من عسير ونجران فكانت تراقب بارتياح صراع الإدريسي والإمام يحيى ذلك انه صراع راقبته من بعيد أولا ثم غذته ثانياً ثم انقضت ثالثا وقد باتت الأطراف من الضعف لتدشن حرب الثلاثينيات التي سبق ان تناولنا جوانب كثيرة منها فيما سبق ولا زلنا بصدد هذه الفترة من القرن العشرين .
نتج عن اتفاقية الصداقة والتعاون التي وقعها يحيى مع السوفييت عام 28 وجددت عام 55 ان شرع السوفييت عام 1931 بالعمل في انجاز أول محطات تلغراف وهي وسيلة الاتصال المتقدمة انذاك تربط بين كل من صنعاء تعز الحديدة واظن الرابعة حجة .وبدأوا العمل في تعميق وتوسيع وتأهيل ميناء الحديدة التي أخذت منذ هذا الانجاز تتحول إلى ميناء رئيسي وهام وبدأ عدد من التجار منهم السنيدار وزهرة في الاستيراد عبر هذه الميناء . ودشن الروس العمل في طريق الحديدة صنعاء فضلا عن العمل في تقديم مشاريع كبرى في مجالات صناعية وزراعية يمكننا تفصيلها لاحقا .
المصادر :
– د. إبراهيم خلف العبيدي،
– علي الصراف، اليمن الجنوبي من الاستعمار إلى الوحدة، ط1، رياض الرئيس للكتب والنشر، لندن،
-د. عبد العزيز قائد المسعودي، معالم تاريخ اليمن المعاصر،1905- 1948م، ط1، مكتبة السنحاني، صنعاء، 1992م، .
– نص المعاهدتين اليمنية الإيطالية، الموقعة في 21 أكتوبر عام 1926م، والمعاهدة اليمنية الروسية الموقعة في الأول من نوفمبر 1927م في “د. سيد مصطفى سالم، تكوين اليمن الحديث، 1904- 1948م، ط4، دار الأمين للنشر والتوزيع، القاهرة، 1993م
– نص معاهدة الصداقة والتعاون المتبادل بين اليمن وبريطانيا في “د. سيد مصطفى سالم،
.-فالكوفا، السياسة الاستعمارية في جنوب اليمن، ترجمة عمر الجاوي، دار الهمداني، عدن، 1984م،
– قحطان محمد الشعبي، جنوب اليمن، عدن والإمارات،
– علي ناصر محمد، عدن التاريخ والحضارة، ط2، وزارة الثقافة، صنعاء، 2010م
– نص المعاهدة الموقعة بين دولة الاتحاد وبين حكومة بريطانيا في ” قحطان محمد الشعبي، عدن والإمارات، “.