محمد العزيزي
كانت الشابة أمرية منذ نعومة أظافرها تعشق العلم والتعليم، رغم قسوة الريف وحالة البلاد والظروف التي تحيط بالمجتمع الريفي في مكابدة الحياة ومعاناتها .. درست أمرية الابتدائية وكانت من الطالبات المجتهدات تتحصل دوماً على إحدى المراتب الخمس الأولى، وتتنافس أمرية مع زميلاتها بسمة، سميرة وهدى وأخريات على المراتب الأولى، تفوقن على زملائهن من الذكور في ذات الصف.. لم تكن أمرية بقدر هذا التفوق العلمي متفرغة بشكل كامل للتعليم، فهي لا تذهب إلى المدرسة إلا وقد جلبت الماء من بئر القرية في الصباح الباكر وساعدت والدتها في اعداد طعام الإفطار.. وقامت في كثير من الأعمال المنزلية المتعلقة بنظافة البيت وما تحتاجه المواشي والأغنام وغيرها.. و بعد أن تُكمل تجهيز كل ذلك تنطلق أمرية إلى المدرسة طلبا للعلم والعلا، ليس هذا وحسب بل كانت أول الحاضرين من الصبية والفتيات لحضور طابور الصباح وملتزمة بتقديم الإذاعة المدرسة يوماً في الأسبوع.. تمكنت أمرية من اتمام تعليمها الأساسي وأًصرت على مواصلة تعليمها الثانوي حتى تحقيق حلمها الكبير في خوض التعليم الجامعي، ورغم كل المصاعب والظروف المادية والمعيشية والواقع المجتمعي في الريف الذي لا يتيح للفتاة مواصلة التعليم خصوصاً الجامعي، وعندما كانت في الصف الثاني ثانوي جاء نبأ وفاة والدها كالصاعقة، ظلت حزينة على فراق والدها فهي آخر العنقود لوالديها وكان والدها يدللها بعض الشيء، بفراقها والدها عانت أمرية الكثير لكنها قاومت تلك الظروف لتحقق حلمها وتنال الشهادة الجامعية.
حازت الطالبة المثالية والمثابرة والمجتمهدة على الشهادة الثانوية قسم أدبي بمعدل 80 % لم تسعها الأرض فرحاً بحسب ما أفادت أختها الكبرى التي تصف حال أمرية يوم إعلان النتيجة باليوم البهيج، فقد علمت أيضا من زملائها الطلاب أن مدير المدرسة اتجه ذلك اليوم إلى المدينة”..” ليسحب كشوفات ونتائج الثانوية، أشاد بها وهنأها أهل القرية لتفوقها بالنتيجة وقوة عزمها في التحصيل العلمي.. كثير من النسوة كن يتحدثن عن آخر انجازات أمرية وأنها ستقف عند هذا الانجاز لتعود ربة بيت كما هو حالها وحال نساء الريف بين روث ومخلفات الحيوانات وأعمال المنزل والأرض و الزراعة، إن لم يأتها النصيب وتذهب إلى بيت زوجها وينته هذا الفرح.
ظلت أمرية على مدار عامل كامل وهي في حالة شغف تهيم في الوادي وعلى قمم الجبال ترعى الأغنام وتذود الابقار وتتخيل نفسها وهي طالبة جامعية تقتحم سور الحرم الجامعي تقعد على كرسي في قاعة المحاضرات وصولاً للحلم الأكبر ونيل الشهادة الجامعية والوظيفة وتوديع الريف وشقائه لتتخلص من عذابات رعي الغنم وجلب الماء والحطب، فهي كل يوم معنية بالماء والحطب وتساعد والدتها في أعمال المنزل.
كانت أمرية عندما تلتقي بصديقاتها من الفتيات تتحدث إليهن بطموحها وعزمها على مواصلة دراستها الجامعية، منهن من تتمنى لها التوفيق وأخريات من تستبعد ما تقوله وتحلم به أمرية، ويعبرن عن ذلك من باب الغرور ونشوة نجاحها في الثانوية العامة لا أكثر .. مرت الأيام وبدأت الجامعات تفتح أبوابها لبدء العام الجامعي الجديد لم تنتظر طويلاً حتى أخذت الاذن من أخيها الأكبر محمد وأن يذهب معها إلى الجامعة لتلتحق بها فكان لها ذلك وتمكنت من التسجيل في إحدى الكليات النظرية وسلمت ملفها واستلمت بطاقة الطالب الجامعي المستجد.
هنا دخلت أمرية مرحلة الجد وتوغلها الحياة الجامعية والمدنية يعني بأنها صارت تعيش وقت دراستها الجامعية في المدينة، “بنت مدنية” وبقية وقتها من اليوم في القرية حال عودتها من الدراسة، تحتاج أمرية إلى الجرأة والإقدام وعدم الخوف والتردد والخجل كما هو عادة بنات الريف التي دائماً ما يتصف بها نساء الريف “الأكثر حياء” كانت أكبر معضلة للطالبة الجامعية الريفية هي من يأتي بها من القرية إلى الجامعة بدون محرم “مرافق”؟!!
قرية أمرية ليست ببعيدة عن المدينة، فقريتها تعتبر من قرى ريف المدينة بل محاذية أو متاخمة للمدينة ، أيضا هناك طلاب من أبناء قريتها يدرسون في نفس الجامعة وبمستويات مختلفة تأتي إليهم سيارة العم “عبدالرحمن” صالون موديل 81 يأخذهم صباحاً ويعود بهم بعد الظهر، حاولت أمرية في سبيل تحقيق حلمها أن تقنع إحدى زميلاتها بالقرية بالالتحاق بالجامعة، فكان لها ذلك ولكنها في كلية أخرى .. لا مشكلة لأن غرض أمرية تشجيع مريم للدراسة معها ومرافقتها في السيارة والجامعة وحسب.
بدأ العام الدراسي 2016 – 2017م لتلج الطالبة مع عدد من الطالبات والطلاب قاعة الجامعة لتأخذ أول المحاضرات والدروس، أكمل الأستاذ الدرس وانصرف، وبدأت الطالبات يتجمعن ذهبت أمرية إليهن لتتعرف على زميلاتها الجدد..مرت الأيام، ومضى الشهر الأول من الفصل الدراسي الأول والأمور تسير على ما يرام، تعرفت أمرية خلال أيام الدراسة على زميلات في الفصل لكنها لم تنسجم معهن رغم محاولاتها “زنط بنت المدينة” هذه الحالة لم تكن لدى أمرية بل عند بعض زميلاتها كن يسخرن منها وتكثر تعليقاتهن عليها كلما تكلمت معهن.. كل هذه التحديات لم تثن أو توقف أمرية ومشروعها من إكمال مشوارها ظلت تنافس وتسلم واجباتها بانتظام وكادت أن تحقق تفوقها على الطلاب والطالبات من خلال إشادة أساتذة ودكاترة الجامعة بالكلية.
هنا كانت الكارثة وبدأت المؤامرات تنسج خيوط الحقد والانتقام تحت شعار “إن كيدهن عظيم” لم يكن كيد النساء هذه المرة على الرجال بل على بعضهن البعض دبرت المؤامرة ونسجت حكاية القصة وأحكمت حلقاتها الزميلات، حيث تجمعت كتلة واحدة ضد بنت الريف طالبة العلم وصاحبة الطموح، تكررت المحاولة أكثر من مرة للإيقاع بها وكانت تفلت منها..
العزيمة والحماس لم تخفتا لدى أمرية مضت وبدأت تتكيف مع الوضع وجو الدراسة متحدية كل الصعوبات والمؤامرات، وزحفت أمرية نحو الصفوف الأولى لتأخذ مكانها في مقاعد الصف الأول من القاعة بل وأمام طاولة الاستاذ المحاضر، انتقلت طالبات المدينة إلى جوارها وأحاطت بها الطالبات من كل مكان .. إنها المؤامرة النسائية..
دخل الأستاذ المحاضر ورمى بحقيبته وهاتفة الجوال على الطاولة التي أمامه وامام أمرية والطالبات في الصف الأول للقاعة، وظل الدكتور يشرح الدرس وتنقل بين منصة الإلقاء وبين الطلاب.. كان آخر ما قاله الدكتور في نهاية المحاضرة: هل لديكم اعزائي الطلاب أي سؤال أو استفسار ؟! اكتظت منصة القاعة بالطلاب وتجمعوا حول الدكتور منهم من يسأل ومنهم من يستمع..
خرجت أمرية من القاعة مسرعة نحو مكان انتظار العم “عبده” صاحب السيارة لتعود إلى المنزل كما هو الحال كل يوم بعد منتصف النهار.. وفي اليوم التالي حضرت الطالبة صباحاً إلى الكلية كعادتها وقبل اتجاهها نحو قاعة المحاضرة قرأت اسمها في ورقة على حيطان الكلية تطلبها بالحضور إلى عمادة الكلية.. اصطدمت أمرية بالأمر!! تسأل نفسها ماذا جرى؟ ولماذا الاستدعاء؟ لم تتأخر وذهبت مسرعة إلى العمادة .. كان الدكتور قد حضر باكراً وأمامها وجهاً لوجه.. سألته مباشرة: ما المشكلة؟ رد عليها بعبارات قاسية آخرها: وهل لك وجه تأتي إلى هنا؟!!! .. أجابت بسؤال ما الجرم الذي ارتكبته يا دكتور؟ كان نائب العميد حاضراً مع بدء النقاش وكان أكثر اختصاراً في حديثه معها.. أأنتي من سرق تلفون الدكتور؟؟ ردت وهي ترتعد من الخوف .. أقسمت بالله وبكل الحلفان وبكل شيء أنها بريئة من التهمة.. صارحها في ذات الوقت أستاذها بأن زميلاتها قد شهدن عليك بأنك من سرق التلفون فور انتهاء المحاضرة وغادرتي مسرعة من القائمة، وقال: أنتي من كان بالقرب من الطاولة حيث الحقيبة والجوال!! أمرية في حالة لا تحسد عليها.. بررت، حاولت، حلفت أيماناً مغلظة.. ولكن دون فائدة.. طلب منها نائب عميد الكلية وأستاذها بأن تأتي بولي امرها أو تعيد التلفون أو تحرم من دخول اختبار المادة.. كانت كل هذه الخيارات صعبة أمام أمرية وأحلاها مرارة الصبر.. إنها الصاعقة بل الكارثة، الدكتور يتحدث عن تلفون قيمته أكثر من 90 ألف ريال وهي بالكاد تحصل من أخيها وعمها أخي والدها على مبلغ المواصلات اليومية للوصول إلى الجامعة.. بعد ساعة صحت من هول الكارثة خرجت إلى القاعة وهي تذرف الدموع وتشكي مصابها إلى الله التقت بزميلاتها ،،،، من منكن شهدت ضدي، جميعهن يضحكن ومنكرات أنهن شهدن ضدها، ذلك كان الرد.. فوراً غادرت الكلية وهي تفكر بالجامعة وشهادتها ومستقبلها الذي أصبح على كف عفريت وتتمنى لو تنشق بها الأرض وتبتلعها .
أمرية الطموحة والتي تربت على الأمانة والصدق والأدب والخلق الحسن تدخل الجامعة لمدة لا تتجاوز شهرين لتخرج منها لصة.. في هذه الأثناء قررت ترك الجامعة لكن ماذا سيقول أهل القرية وأخوها وعمها ووالدتها وأختها الكبيرة؟ ما هو الجواب ؟! لم يكن أمامها سوى اللجوء إلى أخيها لينصفها .. انتظرت العم عبده السائق لتعود حسب العادة لم تكتم غضبها وقهرها لبضع الوقت من وصولها حتى أسرت بما حصل لها لوالدتها التي هي الأخرى تحسرت على ذهابها إلى الجامعة، فبدلاً من ان تحصل امرية على الشهادة الجامعية خرجت منها بشهادة أنها سارقة، جاء أخوها إلى البيت ووالدته عابسة الوجه وأخته الصغيرة المدللة تبكي.. سألها ما الأمر؟ شرحت له التفاصيل.. فلم تكن ردة فعله أقل من امه.. . وكان يقول: أأذهب أمام الطلاب والأكاديميين أدافع عن أختي السارقة.. لماذا فعلتي ذلك؟ أنكرت وحلفت بكل شيء عسى أن يصدقها.. تحلف لكي يصدقها الأهل فهي الآن لا تريد شهادة الجامعة، ولكن تريد أن تستعيد ثقتهم بها وتؤكد براءتها .. ولكن دون فائدة، فالجميع لمس بأن أمرية قد أفسدتها الجامعة ومخالطتها لبعض الفتيات غير السويات من بنات المدينة.. يا للعار يا للعار.. هكذا كان يصرخ أخوها ويبكي خوفاً من الفضيحة رغم ثقته بخلقها.. نواح وعويل الأخ والأم والأخت أفقد لأمرية أعصابها وصوابها خرجت مسرعة إلى عمها أخي والدها ورمت بنفسها إلى حضنه وهي تجهش بالبكاء، وبدأت توضح وتشرح له ما حصل وجرى لها.. لم تكمل حتى قال لها.. هذا ما لم نكن نحسب حسابه !!!! قالت حتى انت يا عمي لم تصدقني وحكمت علي وأنا أحلف لك بأني بريئة.. وأن الطالبات زميلاتي هن من افتعلن هذه القصة ودبرن لي المكيدة…ببساطة قال العم لها: لا نريد شهادتك عودي إلى البيت وأقعدي مع القاعدات.. يا خسارة التربية .. عادة أمرية مكسورة الجناح، مغلوبة على أمرها، دخلت البيت، والجميع مصدوم من القصة وينظرون إليها بعين الحسرة والندم..اعتكفت أمرية واختفت عن الأنظار لتتحاشا المواجهات ليومين متتاليين بعدها قررت أن تدفن العار وتخلص أسرتها والمجتمع الذكوري الذي لا يساند المرأة وينظر إليها بأنها عار وعورة حتى وإن كانت على يقين مجتمع يحكم قبل أن يتحرى الصدق ويعلم الحقيقة.
في تمام الساعة 12 والنصف ظهراً خرجت أمرية وقد كفنت نفسها وارتدت ثيابها العادية على كفنها الأبيض واحتشمت وأقامت صلاة الظهر وركعتي الوداع وأثناء خروجها حاولت أن تقبل يد والدتها ثم خرجت وانطلقت وهي تبلغ وتطلب شهادة كل من صادفتهم في الطريق من أهل القرية أن أخاها وعمها هما السبب في موتها ودمار حياتها.. كانت متجهة نحو السد الممتلىء بالمياه بالقرب من القرية، بدأت القرية بنسائها ورجالها تضج ونادت النسوة لوالدتها باللحاق خلف ابنتها، كانت أمرية مسرعة والرجال والنساء يركضون خلفها لمنعها من أي خطر قد تقدم عليه لكنها كانت أسرع منهم إلى قدرها الذي اختارته للخلاص من مكائد النساء وقهر أهل الدنيا ودفن طموحاتها وعدوانية البشر ضد البشر.
وصل الجميع والطالبة الجامعية أمرية تطفو على مياه السد جثة هامدة يغطي جسدها الطمي “الطين” والمياه.. تاركة كل تلك الأحداث وكذا اللص الذي دمر حياتها في الحياة الدنيا لتشيع بعد ذلك إلى مثواها الأخير، ليظهر بعد أسبوع من وفاتها وانتحارها في السد التفاصيل الحقيقية حول جريمة سرقة الجوال حين ذهب أحد أقارب أمرية إلى عمادة الكلية والدكتور صاحب الجوال ليعلمهم بما صار لأمرية، شاع الخبر بالكلية لتتأثر ويصحو ضمير إحدى الطالبات بقصة زميلتها أمرية وتفضح القصة كاملة لعمادة الكلية وتؤكد براءة أمرية وأن من ارتكب الجرم هن زميلات أمرية لتبدأ مرحلة تحقيقات الأمن والجامعة .. وهنا تنتهي الحكاية.
قد يعجبك ايضا