بريطانيا وحلم العودة إلى عدن (1-2)
*من رفوف الذاكرة
أحمد يحيى الديلمي
من يتابع سيناريو الأحداث والصراعات المعلنة والخفية بين دولتي العدوان الأساسية في ما يسمى بالتحالف العربي ممثلة في نظام آل سعود ودويلة الإمارات العربية في العاصمة الاقتصادية والتجارية لليمن عدن ، لابد أن يعود بالذاكرة إلى تصريحات وزير الدولة البريطاني لتنمية ما وراء المحيطات بعد زيارته للإمارات ولقائه بالمسئولين فيها بداية عام 2016م ، فقد حذر من تحركات دويلة الإمارات وسعيها إلى التفرد بالقرار وفرض قوة الحضور والفاعلية في عدن ، كأن الإمارات استوعبت الدرس فغيرت وجهتها إلى مكان آخر ، إذ حاولت إثبات وجودها في جزيرة سقطرى وفرضت عليها احتلال فعلي على خلفية اتفاقية الانتفاع والاستثمار من قبل الفار هادي ، وهي باطلة لأن من لا يملك أعطى لمن لا يستحق ، المهم أن هذه الدويلة أحكمت السيطرة على الجزيرة إلى حد أنها باتت تعتبرها أرض تابعة لها وتمارس حالة ابتزاز للتأثير على مشاعر الانتماء لدى المواطنين وتحاول طمس الهوية الوطنية للأرض .
استناداً إلى الوقائع التي أسلفت لاشك أن الأمر بحاجة إلى إيقاظ الذاكرة لاستحضار وقائع أخرى تفضح الدور البريطاني المشبوه والمساعي الكبيرة لترجمة الحلم الساكن في عقول الساسة وملفات المخابرات البريطانية بالعودة إلى عدن أو على الأقل إيجاد نظام تابع وملحق بدولة التاج البريطاني .
* حقيقة هامة
قبل الحديث عن مطامع بريطانيا وحلمها الأبدي بالعودة إلى عدن لابد من التطرق إلى معلومة هامة تقول أن بريطانيا التي قبلت التحول إلى مجرد وصيف لدولة الطغيان والجبروت والتحكم ممثلة في أمريكا إلا أن هذه الأخيرة لا تزال تستفيد من خبرة بريطانيا في المنطقة ، ولا تبت في أي أمر دون استشارتها بالذات في منطقة الجزيرة والخليج التي خضعت عقود للاستعمار المباشر من قبل حكومة التاج باستثناء شمال اليمن ، قد يقول البعض والسعودية أيضاً ظلت مستقلة ، فأقول السعودية كانت أكثر انقياداً وتبعية لحكومة التاج ، لأن بريطانيا أوجدت نظام آل سعود من العدم وساعدت عبد العزيز لبسط نفوذه في مناطق نجد والحجاز بضمان عمالته وتبعيته المطلقة لها ، ينفذ الإرادة البريطانية دون الحاجة إلى الاستعمار المباشر ، لأن وجود قوات بريطانية بالقرب من الكعبة المشرفة كان كفيل باستفزاز مشاعر المسلمين وتوحيد صفوفهم ، لذلك فإن بريطانيا أتقنت صناعة عبد العزيز واعتبرته رجلها الأول في المنطقة ، ثم حذت أمريكا حذوها وبادرت إلى تأمين الموارد المالية من خلال التوسع في استخراج النفط بعد أن ظل عبد العزيز عقد ونصف من الزمن يعتمد على الدعم المالي من بريطانيا ، الذي بلغ مائة وخمسين ألف جنيه ذهب بحسب بعض الوثائق البريطانية إضافة إلى الدعم العسكري في شكل بنادق ورشاشات ومدافع وكلها أسلحة حديثة ، كان زعماء الإمارات في المنطقة يفتقرون إليها ، إضافة إلى مشاركة سلاح الجو البريطاني بشكل مباشر ومساعدته لأبن سعود على حسم الكثير من المعارك ضد مشايخ الإمارات التي كانت موجودة في نجد والحجاز والمناطق المحيطة بها .
كانت المعلومة السابقة مفيدة لبيان خلفية النظام السعودي والكشف عن جذوره ودوره المشبوه في التآمر على الأمة والعقيدة لتوضيح المرامي الخبيثة للمخابرات البريطانية ، فقد استغفلت المسلمين بالإبقاء على الاستقلال الظاهري للدولة الجديدة التي سميت فيما بعد بالسعودية لتكون رأس حربة للتآمر وتنفيذ المخططات المتعلقة بالمنطقة .
* الحلم المستحيل ومشاهد المحاولة
في 30 نوفمبر 1967م غادر آخر جندي بريطاني عدن بعد استعمار لعدن والمناطق الجنوبية الشرقية استمر أكثر من قرن وثمانية وعشرين عاما من الزمن ، مع ذلك ظل حلم العودة إلى هذه المدينة كامن في أذهان القادة البريطانيين ولم يفارق ذهنيات صانعي السياسة وفي كثير من الحالات لم تقف الرغبة عند الحلم فقط لكنها حاولت ترجمتها بوسائل عديدة ، بالذات مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي فقد أخذت المخابرات البريطانية على عاتقها خدمة المصالح الأمريكية إلى جانب ترجمة رغباتها الذاتية استناداً إلى طبيعة الثقة المتبادلة بين الجانبين وما فرضتها من تكامل وتنسيق في السياسة وسيناريوهات التآمر على الآخرين لحماية المصالح المشتركة للدولتين.
استناداً إلى هذه الحقائق يمكن النظر إلى الصراعات الخفية و المعلنة بين الأدوات المترجمة لإرادة الهيمنة والنفوذ الدولي في المنطقة ممثلة في السعودية والإمارات بأنها مجرد استجابة لهذه الرغبات ، فالملمح يشير إلى إتحاد الخطط الأمريكية مع الرغبات البريطانية كون أمريكا تفضل الاستفادة من أدواتها المحلية والإقليمية قبل الإقدام على أي عمل مغاير ، وهو نفس الأسلوب الذي لجأت إليه بريطانيا بعد خروجها من عدن ، فقد عمدت إلى اللعب بالأوراق وخلطها بشكل كبير ، فكانت هي التي ساعدت الجبهة القومية على استلام السلطة في عدن خلافاً لما كان يتوقعه الناس ، ففي مرحلة الكفاح المسلحة ضد المستعمر تبنت حركة القوميين العرب الدعوة إلى لم شمل الأحزاب اليسارية وبعدها الماركسية والقومية تحت مسمى الجبهة القومية لتواجه جبهة التحرير التي كانت قد تشكلت في وقت سابق وضمت جماعات دينية وقومية معتدلة وكانت تربطها علاقات متميزة بدول الجوار خاصة في مصر والخليج .
في هذا الصدد تقول الرويات والوثائق أن الجبهة القومية كان لها قصب السبق في الكفاح المسلح ومقاومة المحتل الأجنبي ، بينما تراجع حضور جبهة التحرير بفعل مواقف بعض الفصائل المنطوية تحت لوائها وتبنيها لخطوات مناطقية بحتة ، مثل رابطة أبناء الجنوب العربي وجمعية عدن للعدنيين والمجلس التشريعي ، الذي كان يقاومه الإمام أحمد ببسالة ومن أجله كان يذاع برنامج في إذاعة صنعاء بعنوان ” لا يابا شراحيل لا للمجلس التشريعي ” لأن هذا المجلس كان يجسد إرادة الاحتلال البريطاني وهذا يجعلنا نفق أمام دلائل واضحة تؤكد أن جبهة التحرير كانت أكثر قرباً من بريطانيا ، مع ذلك اقتضت المصالح التنكر لها ، عكس ما حدث أثناء المحادثات الأولية التي شارك فيها ممثلون عن الجبهتين على حد سواء ، كانت كل الأجواء توحي أن بريطانيا عازمة على تسليم السلطة لجبهة التحرير فكيف حدث العكس وتبدلت الأحوال بين عشية وضواحيها ؟! هذا ما سنتطرق إليه في الحلقة القادمة إن شاء الله ..