عباس السيد
” 1 ”
عام 1967 ، كان الفنان الراحل محمد مرشد ناجي ” المرشدي ” يمر بضائقة مالية ، فاضطر إلى السفر إلى دول الخليج ، وبدأ بزيارة السعودية.
وهناك ، عرض على الإذاعة السعودية شراء عدد من أغانيه المسجلة الجاهزة ، ونصوص لأغان أخرى يرغب في تسجيلها للإذاعة.
في اليوم التالي ، زار الإذاعة لمعرفة رأيهم. استقبله مدير الإذاعة بترحيب بالغ ، وقال له :
أغانيك المسجلة أجزناها ، وسنشتريها منك.
نصوص الأغاني التي ترغب بتسجيلها أجزناها أيضا.
واعتبرناك من فناني الدرجة الأولى ، أي أن المبلغ الذي ستتقاضاه مقابل الست عشر أغنية سيكون كبيرا.
وأضاف مدير الإذاعة السعودية :
باقي مفاجأة أكبر.
سأله المرشدي وكله غبطة وسرور ، وقد أوشك أن يودع سنوات الفقر والحرمان:
باقي كمان مفاجآت ، هاه ، إيش هي.
أجاب مدير الإذاعة السعودية وهو يقدم للمرشدي شيكاً فاضياً :
أغنية للمملكة.
واكتب الرقم اللي تبغاه في الشيك.
ولك الخيار ، تكتب الكلمات أنت ، أونعطيك احنا الكلمات.
المرشدي ، سوم واعتجم ، وما فاق إلا ومدير الإذاعة يسأله:
هاه ، إيش قلت ؟!
المرشدي ، بينه وبين نفسه ، لا حول ولا قوة إلا بالله. !
شعر المرشدي أنه في ورطة حقيقية ، وحاول خلق الأعذار والمبررات..
أنا مختلف عن الآخرين ، عندكم فكرة ناقصة عني.. إنتاجي الفني قليل جدا ، واحتاج لوقت طويل بين العمل والآخر..
أنا مش محترف..
إجازتي قصيرة وسأفقد عملي في شركة “شل ” في عدن..
أنا.. أنا…
كانت أعذار المرشدي كلها ، بالنسبة لمدير الإذاعة السعودية ، واهية ومحاولة للتهرب والرفض.
استدار المدير بالكرسي ، وقال للمرشدي:
شوف يا أستاذ محمد ، أنا ممكن أخرج لك عشرات الأغاني من درج مكتبي هذا ” يقصد أن إنتاج المرشدي مش نادر ولا قليل “..
وأضاف محاصراً المرشدي:
وإن كان على الوقت ، خذ الوقت اللي يناسبك ، ولا تحمل هم تكاليف الفندق والإقامة…
وبعدين أنت غنيت للسلال والجمهورية و..
أغلق مدير الإذاعة كل المنافذ والذرائع ، لكن المرشدي قفز فوق كل ذلك ، وسأل المدير :
وماذا عن الأغاني التي وافقتم على تسجيلها وشرائها ؟!
أجابه المدير : مُر على مدير الموسيقى.
وهناك ، عرف جواب سؤاله:
تسجيل وشراء أغانيك الـ 16 مرهون بأغنيتك للمملكة.
استعاد المرشدي أعماله ، وغادر الإذاعة مع اثنين من أصدقائه المغتربين اليمنيين ، كانا برفقته.
وفي الطريق ، كان الوجوم والاستغراب يخيم على رفيقيه من تصلب مواقفه ، ورفضه فرصة ثمينة لم تعرض على غيره من قبل.
لكن المرشدي ، بدد حيرة رفيقيه ، وهو يشرح أبعاد العرض السعودي وتكلفته.
يقول المرشدي:
لم ينس السعوديون أغنياتي لثورة سبتمبر والسلال رغم مرور خمس سنوات عليها.
إنهم يريدون مسح تلك الأغاني من وجدان اليمنيين..
يريدون إظهاري كمرتزق.. ومثل ما غنى للثورة في بلاده ، هاهو يغني للمملكة.
“2 ”
عام 1977، عاد المرشدي إلى السعودية بجواز يمني شمالي ، بحثا عن فرصة عمل بعيدا عن مجال الفن والغناء الذي قرر اعتزاله.
وفي مدينة جدة ، تهافت عليه مسؤولو الجالية اليمنية والمغتربون ، يدعونه إلى المشاركة في حفل كبير يجري الإعداد له بمناسبة عودة الملك خالد بن عبدالعزيز من رحلة علاج في الخارج استغرقت أشهرا.
عرض عليه مسؤولو الجالية 50 ألف ريال سعودي ، تُدفع مقدما ، ثم رفعوا المبلغ إلى مائة ألف ، دون أن يشترطوا أغنية للملك أو المملكة.
لكن المرشدي كان يرفض العرض ويشترط موافقة سفير ” اليمن الديمقراطية ” في المملكة.
اتصلوا بالسفير ، وأنا معنديش مانع.
يتصل مسؤولو الجالية ، فيرد عليهم السفير:
هو حر ، القرار يعود للمرشدي. ويغلق التليفون.
يعودون للمرشدي :
مالك وما للسفير ، ويشرحون له أهمية مشاركته في الحفل ، وأثرها على مستقبل الجالية اليمنية في المملكة ، ثم يتركون له تحديد المبلغ الذي يريد.
يتمسك المرشدي بموقفه ، ويتهرب بذكاء قائلا:
اتصلوا بالسفير مرة ثانية ، ويواصل البحث عن فرصة عمل للخروج من ضائقته المالية. ويقام الحفل بحضور كبير للجالية اليمنية ، وغياب المرشدي.
” 3 ”
لاحت أمام المرشدي العديد من فرص العمل ، لكن شهرته الفنية كانت تفشل تلك الفرص. وقبل أن يستبد به اليأس ، وجدها أخيرا.. وظيفة جيدة للعمل كمترجم في شركة الخطوط الجوية السعودية.
وبعد استيفاء الشروط واجتياز امتحان القبول ، تبقى فقط ” إذن الإقامة ” وقد كان الحصول عليها آنذاك أمرا في غاية اليسر. لكنها بالنسبة للمرشدي ، تحولت إلى شبه مستحيلة.
فشل كل الوسطاء الذين حاولوا مساعدته ، وبينهم رجال أعمال بارزين من اليمنيين الحاصلين على الجنسية السعودية ، وسياسيون سابقون مقيمون في المملكة.
وخلال إقامته في جدة ، زاره الفنان السعودي محمد عبده ، واستضافه في بيته الفخم. وقد كان الفنان محمد عبده يتهيأ للسفر إلى صنعاء للمشاركة في الاحتفالات بذكرى ” 13 يونيو التصحيحية ” وهي ذكرى تسلم الرئيس ابراهيم الحمدي للسلطة.
كانت أغنية المرشدي” ضناني الشوق ” من بين الأغاني التي يعتزم الفنان محمد عبده أداؤها في صنعاء. وعرض على المرشدي البروفات الأخيرة للأغنية ، للاستفادة من رأيه وملاحظاته ، فالمرشدي بنظر محمد عبده ” أستاذ ” ، وهكذا كان يخاطبه.
نمت بين الفنانين علاقة ثقة ومودة شجعت المرشدي على البوح بمشكلة الإقامة لمحمد عبده.
وعده الأخير بحلها ، حال عودته من اليمن ، واصفا إياها بالسهلة. وكيف لا تكون سهلة وهو الذي لا يُرد له طلب من أي أمير.
وحين عاد من اليمن ، كانت المفاجأة ، ليس للمرشدي فقط ، بل لمحمد عبده نفسه..
كل من طرق بابهم الفنان السعودي المدلل رفضوا وساطته ، ليعود إلى المرشدي عارضا عليه ” أغنية للمملكة”.!
ابتسم المرشدي وقال:
إذن ” شرط 67″ لا يزال قائما..! وكرر نفس موقفه عام 67 أمام مدير الإذاعة السعودية.
حاول محمد عبده تخفيف الشرط:
سأهون عليك ، أنت تلحن الأغنية ، وأنا أغنيها، ما رأيك؟!
تمسك المرشدي بموقفه وقال:
يا حبيبي الطيب ، الموقف واحد ، ومهما كانت الحاجة ، لا أقبل أن يفرض علي أحد ما يريد ، وأعلمك أن الجوع والأذى وغيرهما مما لقيته في بلدي ، لم يغيروا في موقفي من ” تمجيد السلطة ” في بلدي ، فكيف أقبل بذلك خارج بلدي ؟!.
” 4 ”
عاد المرشدي فقيرا إلى وطنه الفقير ، لكنه ظل شامخا ، لم يجافي وطنه نكاية بحكامه ، ولم يعتزل فنه ، وأعاد شد أوتار عوده بين نقم وشمسان.
ومع حلول الذكرى 21 لثورة 26 سبتمبر ، كتب حلمه الكبير وغناه في رائعته ” أبو علي قال ” :
باها عروس بايُهز الكون يا خُبرة
من صعدة للحد لا صيرة إلى جيدون
با تفتهن بعدها نفسي من الشجره
والأهل والناس و” الشاني ” يقع مطحون.
وفي اليوم التالي ، احتج سفير ” الشاني ” على الأغنية ، لتواصل دولته حقدها على المرشدي ووطن المر شدي.
في السابع من فبراير 2013 ، رحل المرشدي ” أبو علي” عن دنيانا بعد أن تحقق حلمه بوحدة اليمن ، رحل ” أبو علي” فقيرا تاركا لنا إرثا فنيا عظيما لا يقدر بثمن. لكن ذلك الإرث ، كان هو الآخر ” جواهر عند فحام “.
بعد ثلاث سنوات من رحيله ، فجر ” الشاني ” مخزون حقده في سمانا وأرضنا وبحرنا ، وهانحن ندخل العالم الرابع ، ولازالت حمم حقده تنهمر علينا.
يصعب علينا إحصاء حجم الدمار وأعداد الضحايا ، كما يصعب علينا أيضا إحصاء أعداد المرتزقة من أهلنا الذين جندهم ” الشاني ” في معركته لمحاربتنا بثمن بخس.!
فما الذي حدث ، وكيف استطاع الشاني شراء هؤلاء المرتزقة ؟!.
هناك أسباب كثيرة ، ولا مجال هنا لبحثها ، وكي نبقى في رحاب المرشدي ، سنكتفي بعرض تساؤلاته التي قدم فيها مقارنة مثيرة ومحيرة بين مواقف السعودية ، ومواقفنا نحن في اليمن منه ومن أغانيه ، كنموذج يمكن القياس عليه لتقييم أنفسنا ، ومعرفة بعض من أسباب إخفاقاتنا ، وهي تساؤلات تحمل بداخلها مفاتيح الإجابات.
في كتابه ” صفحات من الذاكرة ” حفر المرشدي هذه التساؤلات :
” كم عجبت لموقف دولة بحجم السعودية من مغن ، لم تستطع السنوات أن تنسها اسمه. ولست أدري مبعث إصرارها المستديم على أن يمجدها هذا المغني المحدود الشهرة والانتشار في الجزيرة والخليج..”
ويمضي المرشدي في تسآؤلاته:
” شيء محير..من لديه التفسير لموقف الإدارة السعودية ، فليتفضل مشكورا ليريحني ، لأني عجزت عن تفسيره. !”.
ويضيف بسخرية مريرة:
” كما أن بعض الكتاب اليمنيين لا يكتبون اسمي من ضمن المطربين الذين غنوا للثورة اليمنية على اعتبار أن ما غنيته مسخا لا قيمة له ، عدا المملكة الشقيقة التي تعتبر أغنياتي خطيرة للغاية.. شيء محير. !! “.
كم أنت كبير أيها المرشد ، كبير بوعيك ، بوطنيتك ، بانتمائك ووحدويتك ، بفنك المبدأي الملتزم.
Prev Post