الثورة/ خالد النواري
انتهج الاستعمار السلاطيني المستبد سياسة الظلم والقهر والتعسف في محاولة منه لتحطيم الإرادة اليمنية الصلبة وتبديد الآمال التي تنشد الحرية والحياة بكرامة وعزة وتكوين مجتمع تسوده العدالة والمساواة ويحكمه النظام والقانون وليس سياسة الغاب وأمراض الأئمة والسلاطين الذين اعتقدوا أنهم يمتلكون مفاتيح الحل والعقد .. وباتت مصائر الشعوب معلقة بنزواتهم ورغباتهم المقيتة في رسم المستقبل الذي يريدونه للشعوب التي أرادوا لها الخنوع والإذلال حتى تستقيم لهم أمور الحكم .. وتكون إرادة الحاكم هي النافذة دون الأخذ بعين الاعتبار ما يعانيه الشعب في ظل سياسة التجهيل المتعمد والإقصاء القسري لهويته والمصادرة لحقه في الرأي والتعبير.
ولم تنجح سياسة القمع وأنواع التعسف والاضطهاد التي اتبعها المستعمر البريطاني في كبح جماح الشعب اليمني الذي عرفه التاريخ القديم والمعاصر ينشد رسالة المحبة والسلام ويجسد الشورى في حياته الاجتماعية والسياسية.
ولكون الشباب الضمير الحي للأمة وقلبها النابض والجيل الذي يحمل على عاتقه مشاعل التنوير ورسم ملامح الغد المشرق .. فقد كان شباب اليمن على قدر كبير من مسئولية وضع حد لمعاناة شعبه .. وكان الشباب صمام أمان تمكن من تحطيم أسطورة المستبدين والخروج من عباءة الحاكمين ومخالفتهم في الرأي المجافي للعقل والمنطق .. والبحث عن حلول تضمن الحياة الكريمة للشعب الذي تكبد تبعات الاستعمار البغيض وعمل جاهداً على طي مرحلة كانت حافلة بالمآسي والويلات.
لقد شكل الشباب الدرع الحصين والشرارة الملتهبة التي أشعلت فتيل الثورة وأحدثوا البركان الثائر ضد الإمامة في الشمال والاستعمار في جنوب الوطن ليساهموا في إحداث تغيير جذري في واقع الشعب اليمني الذي حطم القيود والأغلال وعانق شمس الحرية وطوى صفحة الماضي المؤلم الذي خلف شلالات من الدماء الطاهرة الزكية التي شكلت شاهد إثبات على حقبة مظلمة من الحكم الكهنوتي المستبد والاستعمار البغيض.
فقد كان الشباب طلائع التحرير والشعلة التي أنارت شعاع الحرية حينما قاموا برفع شعار التحرير والمطالبة بقيام الثورة والجمهورية ، وكان الشباب في طليعة العمل الوطني في نضال الشعب اليمني حيث تشكلت المقاومة الشعبية من الشباب والطلاب الذين انخرطوا في المقاومة الشعبية خلال المظاهرات والاعتصام انتصارا للشعب اليمني المقهور من إمامة جاهلة واستعمار همجي .. وعمل الشباب على الاندماج مع القوات المسلحة والالتحاق معهم في السهول والجبال للذود عن الوطن وضمان الحرية والجمهورية.
لقد شكلت الثورة المباركة موعداً للانطلاق الشبابي نحو آفاق رحبة من التطور والتألق والإبداع.. وتحولت ساحات الإعدام التي رواها الشهداء بدمائهم الزكية الطاهرة إلى واحات للمنافسة والتلاقي الخلاق بين المبدعين من شباب الوطن ، كما أصبحت السجون منتديات للحوار الثقافي والفكري ومكتبات عامة يرتادها الباحثون عن العلم والمعرفة.
ولم يغامر الثوار الشباب في مواجهة الطغاة والمستعمرين إلا بعد مرحلة من الإعداد والتخطيط المحكم بدءاً بمراحل التوعية الشعبية والاندماج مع زملائهم العسكريين في مختلف الفصائل التي أنشئت ومروراً بإنشاء التنظيمات السرية التي خططت لقيام انتفاضة شعبية وصولاً إلى ثورة 26 سبتمبر ومن ثم ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدتين.
وشهدت مدينة عدن خلال فترة الكفاح ضد المستعمر خاصة تأسيس العديد من الأندية الرياضية مثل شباب التواهي والفيحاء والشباب والرياضي والشبيبة وغيرها من التكوينات الشبابية التي شكلت متنافساً لقطاع الشباب والرياضيين بالإضافة إلى مساحة للالتقاء ومناقشة وضع الوطن الذي يردح تحت الاستعمار البغيض لتبدأ الحركة الرياضية في القيام بدورها الوطني من خلال توعية المجتمع ونشر أفكار الاستقلال والحرية ورفض الاحتلال بكل صوره والالتحاق بالمنظمات والنقابات المطالبة برحيل المستعمر الأجنبي من الوطن ، كما أن الشباب والرياضيين قدموا صورا ناصعة في التضحية والفداء من أجل الحرية والكرامة والاستقلال حيث استشهد العديد من رموز ومؤسسي الحركة الشبابية والرياضية في جنوب الوطن وهم في الصفوف الأمامية للحركات والتكوينات المناوئة للمحتل الأجنبي.
ولم تقتصر حركات المقاومة على منطقة جغرافية واحدة فقد شملت مختلف محافظات الوطن شمالاً وجنوباً لتؤكد تلك المساعي التحررية واحدية الثورة في شطري الوطن فقد كانت المعاناة واحدة والأهداف مشتركة ، حيث عاش الشطر الشمالي من الوطن تحت نظام العزلة والتخلف الأمامي الكهنوتي الذي عمق صراعات المنطقة وحروبها القبلية والطائفية وفرض سياج من الجهل والعزلة على المواطنين، وفي الشطر الجنوبي من الوطن احتل الاستعمار البريطاني مدينة عدن، وفرض هيمنته على بقية المناطق الجنوبية والشرقية، التي ظلت تعيش حالة التمزق والانقسام إلى أكثر من 23 دويلة وسلطنه ومشيخة مجزأة ومتحاربة فيما بينها وصلت أجنحتها المتحاربة خلال عام 1934م إلى حوالي ألفي جناح متحارب ، ونتيجة لهذه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع اليمني بشطرية باستثناء مدينة عدن التي شهدت نوعاً من الانتعاش خدمة لمصالح الاستعمار البريطاني فيها ، حيث كانت اليمن إحدى أكثر دول العالم عزلة وجموداً وتخلفاً حتى عشية قيام الثورة اليمنية المباركة.
وقد ذهب المئات من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية الى صنعاء طواعية ولكن بوعي حركهم الدم اليمني الواحد والتحامهم بالرجال الاحرار وتوحيد النضال في ذلك الحين للدفاع عن ثورة 26سبتمبر ومن ثم العودة بالدعم من قيادة ثورة 26 سبتمبر المادي والمعنوي واحتضان معسكرات صالة والعرضي في محافظة تعز لاعمال التدريب للمناضلين الذين اتجهوا فيما بعد الى ردفان والضالع والحواشب العميقة لتجسد واحدية الثورة اليمنية ، وكان توحيد نضال اليمنيين كافياً لتأكيد واحدية ثورتي 26 سبتمبر و14 اكتوبر المجيدتين .. وكان أول شهيد لثورة 14 اكتوبر المناضل الثائر راجح بن غالب لبوزة قد لاقى ربه شهيداً بعد ان عاد من مشاركته مع مجاميع كبيرة من رفاقه بعد ان خاضوا ملاحم للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر.. وبالتالي فقد اختلطت دماء المناضلين والثوار من أبناء الوطن اليمني كافة.
وشكل الدفاع المستميت للأحرار اليمنيين عن ثورتين في آن واحد أكبر التحديات التي واجهها صناع الثورات وهنا يتجلى سبب طلب بعض القوى المناهضة للثورة اليمنية من بريطانيا تأجيل رحيلها من جنوب الوطن، وذلك حتى يتم القضاء على ثورة سبتمبر واجهاضها وبعد ذلك تستطيع بريطانيا أن تحقق ما تريده في جنوب الوطن .. وبالتالي فإن قيمة انتصار ثورة 14 أكتوبر لم يكن فقط على القوى المناهضة لها وانما في ما حملته من رؤى وقيم ومعان وإرادة لكل أبناء اليمن ولعل أبرز انتصاراتها يتمثل في قدرتها على توحيد 22 مشيخة وسلطنة في إطار سياسي واحد، ثم انتقلت انتصارات هذه الثورة من الوحدة الصغرى إلى الوحدة الكبرى هدف ثورتي سبتمبر وأكتوبر ليتحقق حلم جيل طويل من المناضلين في 22 مايو 1990م.
ولم تكن ثورة أكتوبر المجيدة فعلاً عابراً أو أهدافاً حققت ذاتها، وإنما هي تجدد يومي في كل المجالات، واستلهام لكل المعاني النبيلة التي قدمتها حركة الاحرار اليمنيين في شمال وجنوب الوطن، تلك الثورة التي مثلت روح الانتصار للإرادة اليمنية وجسدت معاني الاصطفاف الوطني وإعلاء الولاء للأمة اليمنية.
Prev Post