القناص

 

عادل الامين

-هيا يا استاذ نتنصع*!!
نظرت الي روبنسون كروزو* اليمني او القناص كما يسمونه اهل تلك الفيافي الموحشة في محافظة الجوف اليمنية…رجل في العقد الثامن من عمره له لحية جليلة كلحية ماركس والكثير من ملامحه النبيلة…يأتي الى زياراتي في المدرسة احيانا ويتحداني في اطلاق النار على علب كوكا كولا الفارغة- انظروا امريكا وصلت حتى الجوف-كان بارعا في التصويب وانزل بي الهزائم رغم اني ايضا اجيد اطلاق النار والتصويب ولم اتلق أي تدريب عسكري ولكن في طفولتي البعيدة كنت في لبنان قبل الحرب الاهلية وكنت امضي مع جوجو ابن صاحب العمارة وزميلي في مدرسة سانت ريتا في شارع السيدان في بيروت الى صالة الالعاب ونمارس لعبة اطلاق النار بالبنادق المختلفة- انها لبنان بلد المليشيات المسلحة التي طحنت هذا البلد في اطول حرب اهلية لاحقا-…
****
– لماذا سموه القناص ؟؟…
هذه قصة ترويها ام المدير لي “كان يؤازر الملكيين في الحرب الاهلية 1962 وجاء الجيش المصري مع الجمهوريين الى مناطقهم وكان هناك ضابط مصري متعجرف يمارس قسوة شديدة وجرائم حرب مشينة تسوء حتى الجمهوريين الذين يقاتلون معه. ويعامل اليمنيين كأنهم حشرات ..قتل الرجل ابن القناص عبدالسلام مع أسرى الملكيين ونكل به بوحشية…كمن له القناص عليا بين اغصان شجرة سرو وأرداه قتيلا من مسافة بعيدة جدا-طلقة واحدة بين العينين عندما اطل من فتحة المدرعةT55” اذهلت الجمهوريين قبل ان تفرح الملكيين ويفر الجيش المصري متقهقرا الى صنعاء”… ولطالما مضيت معه كل جمعة نذرف الدمع السخي على قبر ابنه…ونضع الزهور ونبرده بالماء…
هذه القصة هي التي جعلتني اعرف معنى النظرة الوحشية التي تنبعث من عينيه وحاجبيه الكثيفين عندما ينظر الى الاستاذ العراقي الذى يعمل معي في المدرسة
– هذا مصري يا استاذ؟؟
– لا هذا من العراق
– نعم…نعم ..بلد عبدالسلام عارف…حياه الله
القناص لا يعرف صدام حسين، توقف التاريخ عنده في زمن عبدالسلام عارف وقد زار العراق في تلك الايام الغابرة في دورة عسكرية …
****
احاديث القناص معي لا تتجاوز التحدي ببندقيته القديمة التي يداعبها بين يديه كأنها طفل غرير مكتوب عليه صنعت في برلين 1924
– ايش رايك في الامام علي بن ابي طالب ؟؟
– انعم واكرم…صحابي جليل ونعم من قال “الناس صنفان اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق”…
– ومعاوية؟!!
– …من جاء بالإسلام في بلادي هم من احفاد علي بن ابي طالب ..من بلادكم هذه.. غلام الله بن عايض الحضرمي* وتلاميذ الشيخ عبدالقادر الجيلاني من العراق هذا هو الاسلام الذى نعرفه في السودان…
– انعم اكرم وانعم بآل البيت…انت زيدي ؟
– انا سوداني ومسلم…. واعتقد انا هذا اكثر من كافٍ…
– لابأس انت تحب آل البيت.. انت قبيلي…!!
– نعم. قبيلي.. .نحن ايضا في السودان قبائل….ونعرف القبيلة…
للقناص ايضا معارك اخرى لا شأن لي بها عندما نمر في غسق الليل بين مضارب البدو في اطراف البلدة من ضيافة المدير في طريقنا الى البيت وتلوح في الافق المعتم مضارب البدو البعيدة ..نسمعه يخور كالثور ويضحك بصوته المجلجل وضحكات احدى نساء البدو وغنجها مما يحيقه القناص بها يمزق الهدوء والسكينة وانين الرياح وحفيف اشجار النخيل والبرتقال- ليس في الامر عجب لقد توفيت زوجته منذ امد بعيد- واحترق فؤاده على ابنه عبدالسلام الذى تركه وحيدا في هذا العالم…
تعلق بي القناص كثيرا وظلت مباريات التنصع* سجالاً بيننا وعندما تم الاستغناء عن المدرسين السودانيين غادرت الجوف وودعني بدمعة سخية قلما يجود بها امثال هؤلاء من الرجال. .واعطاني نقوداً ايضا تعينني على العيش في غابات الاسمنت التي لا يحبها ابدا –صنعاء-.. ولم اعد مرة اخرى واستمر المدير الوفي في زيارتي في صنعاء ردحا من الزمن ..وكان ينقل لي تحيات القناص واخباره والنقود ايضا وسلال البرتقال والبطيخ وما تجود به مزرعته. .ويخبرني انه لازال يتحداني وينظف بندقيته ويعدها لما هو ادهى وامر…
*****
مرت مياه كثيرة تحت الجسر-ومن فوق الجسر ايضا- في تلك الايام التي نداولها بين الناس وانقسم الساسة اليمنيين الى ظل ذي ثلاث شعب ,لا ظليل ولا يغني من اللهب… وجاءهم عدو مفرط في الخسة والجبن وشديد المحال وبعيد المنال بالطائرات ليصب حممه عليهم دون أن يستطيعوا له طلبا ..وكلما ترامى الى اذني من الاذاعة والاخبار عما يدور في محافظة الجوف…اتخيل القناص –يترصد الطائرات الاباتشي – بعيني الصقر..وقد الصق في ببندقيته القديمة ملصق الصرخة التي اطلقها الشهيد حسين بدر الدين الحوثي وكانت ترددها جبال مران فقط واليوم تردده جبال اليمن كلها من فج عطان الى ردفان الى ضحيان “الله اكبر… الموت لأمريكا…الموت لإسرائيل. اللعنة على اليهود… النصر للإسلام” يختبئ لهم في الشجرة العتيدة التي قنص منها الضباط المصري المتعجرف كما قالت لي ام المدير الطيبة… عندما جلست معها نتأمل آيات الافاق وآيات النفوس ذات غروب رمضاني بهيج في فناء دار المدير الرحب والدجاج يتقفز حولنا..وثغاء الماعز يختلط بنداء الاذان البعيد…في تلك الايام التي نداولها بين الناس..

كاتب من السودان*

 

قد يعجبك ايضا