المدرهة.. لعبة تراث تقاوم الزمن

جذَّرتها أكثر مجزرة تنومة.. وممارسات النظام السعودي بحق الحجاج اليمنيين

مهرجان “المدرهة”.. احتفاء بتراث شعبي يعبّر عن زخم ثقافي وتاريخي وفني لبلد الحضارة
عادات وتقاليد وطقوس احتفال ارتبطت بموسم الحج وعيد الأضحى منذ القِدَم
تحقيق/ سارة الصعفاني
لأهل الحكمة والإيمان والفقه تقاليد وطقوس خاصة مرتبطة بالحج يتوارثها الأجيال منذ مئات السنين، ويحافظ عليها الصغار قبل الكبار لما فيها من متعة وتفريغ للمشاعر والمخاوف وإعادة ذكريات جميلة ارتبطت بالحج قديماً وبعيد الأضحى المبارك كـ ( المدرهة ) لعبة توديع الحجاج وانتظار قدومهم، أرجوحة استثنائية لا تتوقف حركتها إلا بعودة ضيوف الرحمن من مكة.
المدرهة / الدورهانة / الدريهة / المرجيحة … ” مسميات لعبة الأرجوحة المرتبطة منذ مئات السنين بفريضة الحج وعيد الأضحى المبارك عند اليمنيين، لكنها ليست مجرد أرجوحة ملاهٍ عادية إنها مهرجان تراث شعبي يعبّر عن زخم ثقافي وتاريخي وفني كبير لوطن الحضارة والتاريخ.
وتنصب الْمَدَارِه في موسم الحج بعد سفر الحجاج ، وهي عادة قديمة لا أحد يعرف بالضبط متى بدأت، لكنها بدأت منذ أن حج اليمنيون إلى بيت الله الحرام ولعلهم حجوا إليه قبل الإسلام، ويذكر كتاب السلوك لمؤلفه بهاء الجندي ( أن المدرهة شيء اعتاد أهل اليمن عمله منذ ذلك الذي ذهب ليحج أول حجة – لعله يقصد الحج الإبراهيمي ) ويذكر الكتاب أن هذه العادة شائعة في صنعاء وخارجها وفي كثير من المدن اليمنية بدليل أن والي عدن الملقب بالجزري نصب مدرهة للسلطان الرسولي المظفر علي بن عمر عندما ذهب إلى الحج سنة 659 هـ وقلده في ذلك أغلب أعيان عدن في ذلك الوقت.
أهازيج صنعانية
وبحسب المؤرخ نشوان الحميري في موسوعته (شمس العلوم) فإن كلمة المدرهة تسمية عربية فصحى، وقد ارتبطت المدرهة في ذاكرة الناس بمدينة صنعاء القديمة، ويوضح ذلك الباحث في الموروث الشعبي حيدر الزيادي بالقول : المدرهة بدأت في صنعاء ثم انتشرت في المدن والقرى بدليل الحضور الطاغي لمفردات اللهجة الصنعانية في الأهازيج، وحضور المدرهة في الأحياء القديمة لمدينة صنعاء بشكل بارز، ولأنَّ أهازيج المدرهة قريبة من فن النشيد الصنعاني، مؤكداً أنَّ هذا الفن نشأ في الأوساط الشعبية، فجميع النصوص الإنشادية كُتِبت بالعامية، ومضامينها التعبيرية تعكس الطبيعة الشعبية بما هي عليه من عفوية وتلقائية ويغلب عليها الحزن والخوف.
مثلاً من بين الأهازيج المعروفة في صنعاء القديمة : “ لو تبسروا يا حاضرين كيف خرجت الحجاجي .. لو تبسروا يا الأصدقاء كيف خرجت الجمالي.. رجع من الشارع يقل في ذمتش جهالي .. في ذمتش زرع الكبد عاد الصغير غاوي.. لو تبسروا يا حاضرين حين قال مع السلامة .. لا والمسبّح قام صاح وشل بالجلالة (ردد اسم الله) .. صرَّ المكان من وحشته ودمَّعوا جهّاله .. لو تبسروا يا الحاضرين حين قامت الطيارة .. حسيت قلبي حين رجف ودمعتي سيالة ‘‘.
ولا تنصب أعمدة المدرهة الخشبية إلا بأهازيج وابتهالات دينية ورقص شعبي ومزامير وضرب طبول ( البَرَع ) وترديد : “ يا مدرهة يا مدرهة .. مال صوتش واهي .. قالت أنا واهية وما حد كساني .. كسوتي رطلين حديد والخشب رُمّاني”، ويتم تركيبها في فناء بيت الحاج أو أحد جيرانه أو البساتين، وتقام المدرهة بنصب عمودين خشبيين يصنعان من الأشجار القوية كأشجار الطلح أو أشجار الأثل، ويتم ربطهما بحبال قوية ومتينة تسمى حبال السَّلب، ثم توضع فوق العمودين خشبة ثالثة، يتدلى منها حبل توضع في وسطه خشبة صلبة، وتوثق أعمدتها جيداً خاصة أن سقوط المدرهة أو انقطاع الحبل يعد نذير شؤم يثير المخاوف ، وقد صارت المدرهة في ما بعد تصنع من الحديد.
بعد صعود المدرهة يبدأ ترديد أبيات منها: ‘‘ وقد طلعت المدرهة وفي حفظ رحماني .. وفي حفظ واحد كريم هو قط ما ينساني .. وقد طلعت المدرهة ذي صوتها شجاني .. ذي صوتها شجى الجبال ورعدل الودياني ‘‘.
مجزرة تنومة
وتتناوب النساء والأطفال والرجال بمختلف فئاتهم العمرية التأرجح عليها في النهار وساعات من الليل وهم ينشدون أهازيج (أغاني) اشتياق وحنين وأمنيات بمغفرة الله لمن ذهبوا لأداء فريضة الحج والدعاء لهم بالعودة سالمين حيث السفر قديماً محفوف بالمخاطر خاصة بعد مجزرة تنومة التي حدثت عام 1922م حيث قتلت جماعات وهابية من الجيش السعودي ثلاثة ألف من الحجاج اليمنيين العُزّل في منطقة عسير اليمنية المحتلة من قِبل السعودية غدراً بالرصاص أثناء عودتهم من مكة بعد أداء فريضة الحج وسطوا على دوابهم وممتلكاتهم، وما تزال السعودية ترتكب آلاف المجازر والجرائم في ظل عدوانها منذ 26 مارس 2015م وتمنع اليمنيين من حج بيت الله الحرام.
أما أمهات ضحايا تنومة فقد انتظرن بقية حياتهن في المدَارِه يرددن الأهازيج بصوت حزين وعيون دامعة ودعاء لا يتوقف رغم تسلل اليأس إلى قلوبهن بعد سنين انتظار كنَّ فيها يفرحن عند كل طرقة باب :
‘‘ ويا حمامة عرفة حومي وحومي .. واطلعي رأس الجبل واحذّرش تنومي .. واعرفي لي حجنا هو دقيق خضراني .. واعرفي لي عصيته هي شوحط رماني.. واعرفي لي حلقته هي عقيق يماني .. واعرفي لي لحفته هي حرير ذهباني ‘‘.
اعتقاد متوارث
ويعتقد الباحثون في التراث الثقافي الشعبي أن السر النفسي لنصب المدرهة في هذه المناسبة جاء من كون كل أرجوحة تندفع لا بد أن تعود وفقاً لقوانين الطبيعة مشبهين حركتها برحيل الناس للحج بقوة دافع ديني لكن لا بد من عودتهم اشتياقاً للأهل والوطن، وحركة المدرهة محاكاة لقلب وعقل من عليها حيث يتضاعف الترقب والخوف والشوق مع حركات المدرهة ومضامين الأهازيج والتسابيح، وهناك اعتقاد سائد بأنَّ أقارب الحاج حين يتأرجحون على المدرهة إنما يدفعون عنه أخطار السفر حيث ارتبطت المدرهة بأيام السفر على الجمال والبغال، كان السفر شاقاً ومحفوفاً بالمخاطر، ما جعل المدرهة وسيلتهم الوحيدة لبث الأشواق والمخاوف والأماني بعودتهم بالسلامة في وقت مفاجئ.
‘‘ويا طريق مكة وازرعي رماني .. وازرعي ليمون وليم لحجنا يطفي.. يا حجنا وين قدك وين عادك ‘‘، ‘‘ هنيت للحجاج جميع حين عيدهم في مكة .. حين عيدهم وسط الحرم وشاربين من زمزم .. لا تقلقوا ولا فانا بخير متعافي.. قد قالوا اهلك يا ظنين ماهنيهم هاني.. ما هنيّتهم عرفة عد كل شيء لك باقي ‘‘.
طقوس وتقاليد
وتروي الحاجة حسينة – من صنعاء القديمة – ذكرياتها عن المدرهة وطقوس السفر للحج : كان السفر لمكة مخيفاً ينقبض فيه القلب ويستغرق 120 يوماً ، فراق لم يعتد عليه الناس قديماً ، ومخاوف كثيرة من حدوث مكروه قد لا يعود الحاج ؛ ما دفع الناس لكتابة الوصايا وطلب العفو وتوديع الأهل، وكان للمدرهة طقوس عند كل الناس من أغاني شعبية وخاصة أغاني المدرهة ورقص وجلسات دينية ودعوات للغائبين وذبح مواشٍ، وتزيّن المدرهة بأجراس وغصون شجر ونباتات عطرية وقطع من ملابس المسافر لأداء مناسك الحج إن كان رجلاً وضعت جنبيته وعمامته أو الشال وإن كانت امرأة علقت سترتها – ما كانت ترتديه المرأة قديماً قبل الأقمشة السوداء – أو ملابس تراثية وأدوات زينتها من مصوغات فضية وورد وريحان وشذاب، وتنصب المدرهة في فناء بيت المسافر للحج أو أحد الجيران أو في بساتين وساحات الحي وكل مدرهة تسمى باسم صاحبها ويتأرجح عليها أهله وسكان الحي رجالاً ونساء، أطفالاً وشيوخاً، بشكل فردي أو ثنائي، مرددين بعض الأهازيج الشعبية، ويخصص النهار للنساء والأطفال وساعات من الليل لرجال الحي.
ومما تذكره الحاجة حسينة من الأهازيج عند نصب المدرهة ووضع جرس عليها لتحفيز الغائب على العودة : ‘‘يا سائق الباص يا أمير أمانتك أمانة .. أمانتك في حجنا لا يحمل الاهانة .. أمانتك في حجنا وأصحابه.. أمانتك في وصلتك تذكّره بأولاده .. قد وحشتنا فرقته مش والفين لغيابه ‘‘.
‘‘ يا حجنا قوم اقطب الشدادي .. وقل لمكة خاطرش شاسير لي بلادي.. شاسير لي بين اخوتي وبين زرع اكبادي .. يا حجنا يا شلي وزيّد الهدايا .. أدي هدايا للبنات العقد عقد مرجاني.. وادي هدايا للعيال لا حوليات وشيلاني‘‘.
ومما ينشده ‘‘ المُمَدْرِّه ‘‘ عند عودة الحاج هذه الأهزوجة : يا مبشر بالحج بشارتك بشارة.. هِنيَت لك يا حاجنا فزت بالغفراني .. زرت قبر المصطفى وتلمست الأركاني .. يا من سمع يصلي على النبي العدناني‘‘.
عند وصول الحاج ينثر الفل والياسمين وتزغرد النساء وسط حضور كثيف للأعيرة والألعاب النارية والأهازيج وقرع الطبول والمزامير حتى يصل لباب بيته ويبدأ باستقبال المهنئين له بأداء فريضة الحج وبعودته سالماً من مكة، ويتكفل المقتدرون مادياً من المعارف بشراء المواشي لمساعدة أهل الحاج في إعداد ولائم تكفي مدة 30 يوماً، ويوزّع الحاج الهدايا المتعارف عليها من ماء زمزم ومسابح وخواتم وسجادات الصلاة والمصاحف والتمور.. لم تعد تقاليد وطقوس المدرهة باقية لكن نصبها وترديد الأهازيج ما يزال شائعاً خاصة في صنعاء القديمة وإن اقتصر على أيام من ذي الحجة .
مهرجان المدرهة
وتزامناً مع موسم الحج وعيد الأضحى المبارك، تقيم مؤسسة عرش بلقيس للتنمية والسياحة والتراث بالتعاون مع بيت التراث الصنعاني مهرجان المدرهة بمدينة صنعاء القديمة حتى 12 سبتمبر في حي القاسمي الذي قصفه العدوان مخلفاً الموت والدمار في مدينة تاريخية مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي.
وعن المهرجان قالت رئيسة المؤسسة دعاء الواسعي: أقمنا مهرجان المدرهة إحياءً لموروثنا الشعبي الحضاري في وقت يمنع فيه اليمنيون من أداء فريضة حج بيت الله، وتذكيراً بمجازر العدوان السعودي منذ مجزرة تنومة، ويتضمن المهرجان فعاليات تراثية منها: اسكتش تمثيلي لعدد من الحجاج على الأحصنة يتقدمهم المسبّح لتوديعهم لأداء مناسك الحج، يحكي طقوس الحج وتسابيح مدينة صنعاء وسكانها، ومعرض لوحات فنية وثقت اعتداء السعودية وتحالف الحقد والتوحش على المعالم التاريخية والأثرية ، ومعرضاً لأزياء الحجاج وكسوة المدرهة والملابس الشعبية والأشغال اليدوية التقليدية.

قد يعجبك ايضا