*هكذا هو عبدالمجيد التركي..
جميل مفرح
ومن أبرز ما اصطادته قراءتي لهذا الكتاب، ومنذ النظرة الأولى أي منذ التصفح السريع له عندما وصل إلى يدي، ذلك التهرب الذكي للشاعر من مسؤولية التعبير المباشر عن الأنا الذي يجب أن ينسرب تحت عنوان كهذا ” هكذا أنا” وذلك عبر الاتكاء على أسلوب المشابهة والمماثلة الذي وجد فيه مهرباً مناسباً من التعبير عن ذاته بطريقة مباشرة، ليس خوفاً من أية محاسبة خارجية أو داخلية ، ولكن من كون ذلك قلقاً من عدم التمكن من وصف نفسه الوصف المستحق ليس في عين القارئ.
وحسب، وإنما أهم من ذلك في عينه وتقديره هو في البداية والأصل.. وذلك برأيي هو قلق فلسفي وجودي.. قلق كون وتكوين وبحث عن الذات في ركام الذات نفسها.. وهو بالطبع قلق أكثر ما يكون ويتجسد لدى النخب والمتميزين وفي مقدمتهم الإنسانيون من مبدعين وشعراء وكتاب وفلاسفة وفنانين، والذين يظلون منذ بدء الوعي المعرفي والذهني وحتى الرحيل وهم يعيشون ذلك الصراع، صراع التكوين ويغشاهم ذلك القلق، قلق الوجود الفكري المعنوي النخبوي، المبتكر، المغير والمتغير، وليس الوجود الحسي الجسدي باعتباره وجوداً مادياً مفرغ المحتوى من الوجود في معناه الجوهري..
ذلك القلق الوجودي الحذر من تقديم النفس أو الذات في الصورة التي ينبغي لها أو يجب أن تكون عليها، يظل المبدع والمنتج الذكي والفطن حريصاً على فتح آفاق واسعة للمتلقي وتخيلاته، وجعلها ممتدة إلى ما لا نهاية، بعيداً جداً عن الوقوع في مغبة أن يسجن نفسه بين حاصرتين ضيقتين مقفلتين كـ”حوصلة عصفور” لأنه حين يفعل ذلك إنما يحكم على نفسه ووجوده بافتراضات منتهية، وكأنه لم يعد قادراً على التغير والإضافة، أي مبارحة الذات في الحالة والمستوى الذي وصلت إليهما في مرحلة معنية عادة ما تكون الأخيرة، أو النقطة التي توصل إليها المبدع لحظة إنتاج جديده وعرض كينونته الإبداعية الكتابية.. فحياة المبدع الحقيقي وكينونته ورؤاه تظل مفتوحة الآفاق ومهيأة للمتلقي لأن يذهب بها إلى ما يطيب لتلقيه من الرؤية والتقييم والتوصيف.. ذلك المبدع الكائن فعلاً هو من يستطيع فتح الآفاق باتساعاتها لمتلقيه، وحتى بعد أن يكون قد توقف عن العطاء والإنتاج وحتى أيضا بعد أن يكون قد رحل بزمن غير معين إن لم يكن بشكل أبدي.
وهكذا هو عبدالمجيد في هذه النصوص، أو لأكون أكثر دقة ومصداقية هكذا أراه وأنا أتصفح بالقراءة الشاعرة والمتلمسة لتفاصيل هذا العمل لشخصية شاعرها وهو ينتجها..
وعودا إلى موضوع القلق الوجودي وتركيزاً على سمة المشابهة والمماثلة التي لفتت انتباهي بشدة في نصوص الكتاب، فقد بدا الكاتب في منتهى الذكاء وهو يتسلل عبر المشابهة والتمثيل والمقاربة القابلة لأكثر من احتمال، متجنبا بحذر التأكيدات المطلقة، وذلك برأيي تهرب بارع من أن يقدم نفسه في صورة حتمية نهائية أو يقدم تجربته مقفلة بحواصر وحدود معينة.. مستخدما عنوانها الكلي “هكذا أنا” كمفتاح دال عليها.. وبقد ما أراد أن يقدم ذاته تحت هذا العنوان، هو في الحقيقة ظل في كل ثنايا وأجزاء الكتاب تقريباً حريصاً على ألا يدفع بنفسه وبمنتجه كفكرة معنية أو نتاج نهائي الصفة والقيمة والتقدير، فنجده ارتكز بشكل كبير على استخدام أساليب المشابهة وما يدل عليها كالأدوات أو الألفاظ مثل “كأن، كما، كأي، كما لو أن، مثل، يشبه، كمن” بالإضافة إلى الكاف الملازمة لجهة التشبيه والتمثيل ومن ذلك: “كعبث، كسذاجه، كصديقي، كطفل، كملف، كاعتياد، كقطة، كبرد” وهذه الصورة أو الصيغة في التشبية والتمثيل هي الغالبة في المشابهات والمماثلات التي يزخر بها الكتاب، إذ تحتل ما يقارب 70% من 220 حالة مشابهة مباشرة حضرت في 115 صفحة من الصفحات التي توزعت عليها نصوص الكتاب والبالغة 167 صفحة، وهي في اعتقادي نسبة كبيرة، ما يؤكد صراحة ما أقف عليه وأتناوله في هذه القراءة من حذر وجودي انتاب وينتاب كاتبها من جهة وما يعكس من جهة أخرى قدرات الكاتب المميزة على التحكم في اندفاعه واندفاقه الشعري، وهو ما يبدو بوضوح من خلال علاماته وملامحه الظاهرة لكل قارئ حصيف ومتابع للمنتج الإبداعي والشعري المعاصر في مذاهبه وتمظهراته الجديدة.
من هنا ندرك جيداً أن التركي، ومثله كل مبدع حقيقي، يأبى أن يتعرض هو وإنتاجه للأحكام السريعة المؤكدة والتوصيفات الجاهزة والمقولبة كقدر نهائي ملزم لأن ذلك في تقديري وتقدير الكثير من الكتاب والنقاد وقبلهم المبدعين يشبه إلى حد كبير الحكم بالإعدام على التجربة الإبداعية.
لقد ظل الكاتب هنا يراوح بين المماثلة والمقاربة في رؤيته للواقع من حوله من جهة وفي تقديم نفسه لقارئه من جهة أخرى وذلك عبر قدر كبير من الحذر الذكي معتمداً على هذه الصيغ، التي وجدت وأنا اقتصاها في محتوى الكتاب، أنها في معظمها تعود للتعبير عن الذات وعرضها كحالة شعرية شعورية وفلسفية وإنسانية ووجودية، ترتبط بكل ما هو حولها من مفردات الوجود وعناصره، بما في ذلك الآخر الذي يحتل من جانبه مساحة كبيرة من مساحات الخطاب الذي توجه إليه حاضراً وغائباً: “كأنك، كأنه، كأنهم، كأنها،…” في الكثير من تفاصيل الحالة أو الحالات الشعرية التي تتدفق من ثنايا هذا الكتاب، أو فلنقل هذا النص المتفرع إلى حالات ونصوص فرعية، لا يمكن بأي حال التفريق بينها أو إثبات استقلالية أي منها.. خصوصاً وأن الكتاب كما أشرنا ورد تحت عنونة واحدة حملها غلافه “هكذا أنا” فبدا محتوى الكتاب وكأنه نص واحد، ليس اعتماداً على هذه العنونة فحسب وإنما على يقين كبير أوجدته القراءة المتأملة بأن هذا المحتوى في مجمله هو حالة شعرية واحدة، حتى وإن وردت موزعة على نصوص أو أجزاء او عنونات فرعية.
وتأكيداً على فكرة الذات والبحث عنها من ناحية، والتهرب الذي يتقنه الكاتب ليتحاشى تقييد نفسه في رؤية معينة خلال كتابه / نصه هذا معتمداً على المشابهة والمماثلة والمقاربة وددنا أن نعرض للقارئ هذا الجزء أو النص الوارد في الصفحتين 45، 46:
“كجندي يحدث نفسه بالخروج من حقل ألغام
ويتوسل بآلهة لم يتصل بهم من قبل
كإمام يصلي بالفراغ، رغم خشوعه الذي يكاد يقتله..
كسمكة تلفظ آخر أنفاسها
وتتوسل الصياد أن يخرج السنارة من فمها
كي تقول أمنيتها الأخيرة..
كعجوز يعرف أن أسنانه لا تصلح أن تكون كسارة جوز،
كأسد فقد مخالبه فاضطر إلى ارتداء جوارب،
كحمار نسي أن يتصنع الموسيقى وهو يتحدث،
كحلم مليء بالجثث وخيالات جرحى الألغام
الذي يحملون أشلاءهم..
أشعر أنني ثقيل كسائق أبكم..
ثقيل كسيجار كوبي في يد مدخن مبتدئ
ثقيل كواجب مدرسي
كماء مليء بالطحالب
كحوت عملاق لا يتسع له حوض زجاجي
كشبح يتحدث عن ضرورة الريجيم
كمن يحتفظ بجمجمة طمعاً في أسنانها الذهبية
كمن يهدي زلاجة لرجل معاق
كعبث السؤال عن الأمنية الأخيرة لرجل محكوم عليه بالإعدام
كسذاجة هذا الرجل حين تكون أمنيته الأخيرة تدخين
سيجارتين على نفس واحد
كأنا حين أكتب هذه الكلمات الآن”
وكأن الشاعر التركي هنا يريد أن يقول صراحة وإجمالاً: كأنا حين أقول لكم هكذا أنا!!
وهنا أتوقف لأقول متأكداً إن عبدالمجيد التركي في كتابه هذا وصل بنا وبكل هذه “الكأنات” والمماثلات والمشابهات والمقاربات، إلى أبعد مما قد يخطر في بال قارئ عابر، أوناقد قد يتوقف مقطباً حاجبيه عند هذه الصيغ “الكأنية” المحتشدة ،،، في هذه الحالة الشعرية، مدعياً أنها لا تروقه، أو يفرد عليها عضلاته وأدواته ومطارقه النقدية.. غير مدرك أنها أبعد مما يخطر في باله بكثير جداً.. فهي تقدم تجربة جديدة لهذا الشاعر وللقصيدة، تجربة انتظمها قلق فلسفي وجودي كما هو الحال عند كل مبدع حقيقي لا يرضي لنفسه الأحكام المطلقة والتوصيفات المقفلة والنهايات بأقواس وحواصر وأبعاد تحد من وجوده، مما هو عليه ومما يمكن أن يكون عليه في اللحظة التالية لكتابة كل مقطع وجزء ونص من منتجه الإبداعي الذي سيشهد الكثير من ملامح التجديد والابتكار اعتماداً على ما جاء في هذا الكتاب الذي يفتح بين التركي والمتلقي المزيد من الآفاق والرؤى والاحتمالات المفتوحة للانعتاق من كل منتج وزمنه ونسيانه والانشغال بما يمكن أن يأتي بعده.. وهكذا دائماً هم المبدعون مشغولون باجتراح دروبهم وابتكار الجديد والمتجدد.