*هكذا هو عبدالمجيد التركي..
جميل مفرح
حقاً.. لن يكون في المساحة والزمن والجهد ما يكفي، لو أنني اعتزمت التوقف عند تجربته شاعراً، عرفته منذ نعومة حرف ورهافة فكره، ومع يفاعة حلم وانطلاقة طموح.. خصوصاً وأنه مبدع لا أكاد أتذكر أن لبداياته صفراً واضحاً أو خط انطلاق معيناً، وإن حضرت تلك البدايات في سن مبكر، شأنه شأن مجموعة متميزة من مبدعي جيله الذين اتسمت تجاربهم بالنضج والامتلاء والامتلاك لمفردات وجوامع الإبداع والوعي بها وبأنفسهم وبتجاربهم باكراً، نظراً لما توفر لهم وبهم من أسباب في مقدمتها الانفتاح على الحراك الثقافي والإبداعي في مساحاته المتسعة وكواكبه البعيدة، والذي أتيحت لهم فرص سبره واختباره وتجربته نتيجة لوجود الإمكانات والوسائل المساعدة على ذلك، بالتزامن مع بدايات وشبه بدايات متحفزة وشغوفة ومنطلقة، تربت وترعرعت في ظل وعز مرحلة مهمة من مراحل الإنتاج الثقافي والعطاء الأدبي، ومنعطف مغير ومتغير في الشأن الإبداعي النصي على المستويين المحلي والعربي.
لم ينل حظاً وافراً من الالتصاق بالمقاعد المدرسية والارتطام بالسبورات ومن يقفون إلى جانبها في صفوف التلقي النظامي، إلا أن ذلك برأيي لا يُعد أمراً ذا شأن أو قيمة، إذا كان مع مثل هذا الشاعر والكاتب المبدع، الذي استعاض عن ذلك بكل ما هو أنضج وأبلغ وأكثر جدوى في عوائده وفوائده، معتمداً على التلقي الحر من غيمات الإبداع ومناجم اللغة ومعامل ومناهل المنتج الثقافي والإبداعي.. وذلك في مجمله ما كون له ما يستحكم عليه في وقته الحاضر من ثراء بالغ في معارف ومدارك التعامل مع الكتابة وأحوالها وأدواتها.. كما لا أنسى الإشارة أيضا إلى واحد من أهم روافد هذه الثروة الهائلة، ألا وهي تجربة الاندماج في ضجيج وزحام التفاعل الثقافي والأدبي من خلال الاقتراب الوظيفي من واحدة من أهم وسائل ومنابر الإنتاج الثقافي وهي الصحافة والصحافة الثقافية.
عموماً.. لا أبالغ بالمرة حين أقول إننا إزاء مبدع متنوع، جر ويجر الكتابة من ياقتها وأجلسها ويجلسها بين يديه طيعة وذلك بموهبته الفذة وبقدراته الكبيرة في التعامل مع أدواتها وممكناتها.. استطاع أن يضع بصمته في الجديد وأن يتميز بسرعة لافتة شاعراً مقتدراً وكاتباً أنيقاً، يبرع في تطويع اللغة التي انهزمت له يوماً ما راضية، والتقاط الأفكار التي باتت لا تمل من مداهمته، إضافة إلى مسايرة الجديد بممتلكه التراكمي والذهني، وبمحاولاته الدؤوبة والفاعلة في إحداث ذلك التجديد والإضافة إليه والمساهمة فيه أيضا.
إنه الشاعر والكاتب المبدع عبدالمجيد التركي، الذي أجد نفسي بارعاً ومتمكناً، وإن لم أكن، حين أتوقف عنده، وأكتب عن شيء ما يخص إنتاجه وتبجربته الإبداعية، وذلك بالطبع نظراً لتتبعي الملازم لهذه التجربة القريبة مني جداً منذ ما قبل إصداره الشعري الأول “اعترافات مائية” بكثير وبزمن طويل، ومروراً بكثير من العطاءات الفارقة والمتجددة، ووصولاً إليه وهو يقدم نفسه للقارئ في إصدار إبداعي جديد قائلاً على غلافة الأول: “هكذا أنا” .. مقدماً ذاته المبدعة في مرحلة وتجربة جديدتين لم ولا يفارقهما ما تميز به سابقاً من اجتهاد وعزم وطموح وهو يقدم نفسه سابقاً: هذا أنا في إصداره الأول.
نعم.. هكذا هو عبدالمجيد.. شاعر مبهر يرفع اصبعه أمام عينيه ويصوبها باتجاه السماء، يشقها كجراح محترف ويفتش في ثنايا آفاقها عن نفسه وعما يمكن أن يكون زاداً لسفره المتعطش دائماً للابتكار، وعن طرقات أكيدة وإن كانت وعرة يعبرها صوب هدفه وباتجاه قارئه ومتلقيه..
هكذا هو أيضا وهو يعيد إصبعه باتجاه صدره ويعيد ويكرر عبارته حتى أمام نفسه: “هكذا أنا”.. وليكن ذلك ما يكون… افتراقاً وتنصلاً من كل ما هو حوله عدا نصه ونتاجه أو خيلاء وزهواً بما يقدمه، إيماناً منه وثقة في كونه منتجاً غنياً ومبهراً ويستحق وجوبا التوقف عنده واكتشاف ما ينطوي عليه حشد الكلام والحروف من أسرار إبداعية بات البحث عنها هواية لذيذة لدى كل من تعنيه الكتابة في شيء والحالان كلاهما ممكنان إن لم يكونا لازمين.
ووقوفاً عند إصداره الجديد هذا “هكذا أنا” الصادر مؤخراً عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة، بدا ويبدو عبدالمجيد وكأنه أسس بشكل مباشر وغير مباشر فيما يخص التلقي على العنوان، وانطلق منه وهو يكتب نصوصه النثرية الشعرية التي تمثل تجربة ذهنية وحسية وخطابية جديدة، وكأنه يريد لمحتواه من النصوص والقطع الشاعرة بكاملها معادلاً موضوعياً أو تفسيرياً لهذا العنوان، معبرة عنه وعن تجربته الجديدة هذه، مكتفيا بالطبع بهذا العنوان ليكون شاملاً لكل محتوى الكتاب بدلالة أنه لم يتوقف عند عنونات فرعية لجزئيات ومحتويات الكتاب من نصوص.
وهذا في حد ذاته ما جعل الشاعر يبدو مثقلاً بقلق فلسفي غير هين، وكأنه إنما كان يكتب كل سطر ويسطر كل حالة وصورة وتركيب وهو يتذكر أو يضع في باله “أنه هكذا.. !!” وذلك القلق الفلسفي المجحف جداً رغم لذته وجدواه هو ما جعله يبدو حذراً حذراً شديداً، وهو يجسد ذاته ويطبع الواقع من حوله في ثنايا وطوايا هذه النصوص المشبعة بالإحالات والإشارات والدلالات التي تهز كيانه الرؤيوي وتجعله بالتالي يتساقط ثمراً شعرياً جنياً ناضجاً، ولكن بقدر محسوب ومحكوم بإرادة حذرة وتعقل أكثر حذراً، وهو يقدم نفسه كائناً رائياً وحكيماً مفلسفا لكل ما بداخله من أفكار ورؤى ثم لكل ما من حوله من متعلقات ذاته الشعرية:
“أشعر أنني بداخل حوصلة عصفور
لم تعد هناك جهات..
سأبيع قسطاً وافراً من الليل
وابتلع التعاويذ..
سأضع عيني في علبة “أنيقة”
كي لا أشغل نفسي بتحريك جفني
ستكون هناك فتحتان كبيرتان في وجهي
مثل أفلام الرعب،
لا يهم…
سأحشوهما بالقطن
أو سأرتدي نظارة شمسية تليق بشبح”
ابتداء من هذا المقطع الذي اختاره الشاعر ليكون تحيته الترحابية يميزه بوضعه في الغلاف الأخير للكتاب.. يبدو ما أشرنا إليه من القلق والحذر، ليس من لفظة “مثل” الدالة على المشابهة كما لفت انتباهي وسأتناوله في هذه الوقفة الاستطلاعية وحسب وإنما أيضا من المعاني والتركيبات اللفظية في عبارات هذا المقطع والدالة في مجملها على تناثر وتشظ وارتباك يجعل المتلقي يتخيل وكأن الشاعر كتبه وهو يقف مرتعشاً متعباً روحه منهكة، وابتداء من شعوره أيضا بضيق العالم من حوله وعدم مبالاته بالليل المعادل الموضوعي للراحة والنوم والاسترخاء ومروراً بابتلاعه للتعاويذ ولجوئه إليها كتقية نتيجة لخوفه، مضحياً بذاته أو غير مبال بها، عدا بعينيه فقط وهما أداتاه اللتان لا يمكن الاستغناء عنهما كشاعر بالطبع..هنا نلحظ أنه لم يتنازل عن هاتين الأداتين اللتين قد يسلبه افتقادهما تلك الشعرية الرؤيوية الناحتة التي يحفر كل الوجود من حوله من أجلها.
على هذا القياس يظهر الشاعر، وإن بتمظهرات أو أزياء أو حدود مختلفة، يظهر معتمراً قلقه وحذره الشديدين من تقديم نفسه بالشكل الذي افترضه وفرضه بعنونة هذا الكتاب تحت هذا العنوان وهذا المعنى!!
ولعل أهم ملامح ومظاهر الحذر الذي كان يفدوا أحيانا مكبحاً ومقيداً وداعياً للتروي، يظهر بجلاء في الصيغ الحذرة حقاً التي غلبت على النصوص أو صبغت نفسها تلقائياً على المظهر العام للكتاب، وأبرز تلك الصيغ أو أهمها على الإطلاق صيغة المشابهة والمماثلة التي تسيدت هذه التجربة وكادت أو تكاد تغطي كامل أجواء وآفاق واتجاهات هذه النصوص .. وأقول هنا المشابهة والمماثلة حتى لا أسند ذلك كليا للتشبيه المتعارف عليه كفن بلاغي له خواصه وحالاته وأركانه واشتراطاته.. أريد أن أكون بعيداً عن كل ذلك الضجيج الدرسي والأكاديمي الممل لئلا أقدم نفسي وما أقراه وأكتبه على مذبح مجاني واكتفي بالحديث عن المشابهة والمماثلة كحالة شعرية وشعورية حرة ومطلقة ومنفلتة من كل تلك الحدود والمحددات، التي قد تحولني كما فعلت وتفعل مع كثيرين غيري إلى بناء معماري يحزم أدواته وفي مقدمتها مطرقة تكسير ضخمة، يحزمها في صرة ويذهب باتجاه نص يفرغ فيه قدراته في الإتلاف والانتقام من المظاهر الزائدة وإن كانت ثيمات ومقابض جمال هذا المنتج أو ذاك !! أريد وأنا أقرأ نصاً أن أكون بعيداً جداً جداً عن القراءات والرؤى والملاحظات المدرسية، لأكسر القيود والضوابط والمتعارف عليه، وذلك لأطفئ ظمأي إلى القراءة الحرة بإرادة حرة من جانب ولاستطيع مجاراة ما أقرأه وأتلقاه من منتج جديد، بات يضيع بما يسمونه منهجيات ومحددات وضوابط، فليس الشعر والإبداع معنيين بمثل هذه الترهات التي إنهاكه وتفكيكه ليس بحاجة إليه، وإلا لما وجد أصلاً..!! ذلك الإنهاك والتفكيك برأي يذهب بالمنتج الإبداعي ويروغ به بعيداً جداً عن الحالة الحقيقية لمعناه والحالة الصدقية للشاعر والكاتب يهطل حيناً ويتفجر حينا وينزف أحايين كثيرة أخرى!!
* هكذا هو .. عبدالمجيد في هذه النصوص أو هذه الحالة الإبداعية الجديدة يبدو على قدر كبير من الحذر وهو يتعامل مع جزئيات وكليات دفقاته الشعرية والشعورية، بل ومع مظهرها الدلالي والفلسفي عموماً محاولاً معادلة كفتها مع كفة العنوان، ليس الذي يقف على بابها وحسب كمفتاح حديدي قديم، ورانما الذي يتحلل جزئيات متها المختلفة وصولاً إلى تفاصيل الصغيرة والأصغر..
ومن أبرز ما اصطادته قراءتي لهذا الكتاب، ومنذ النظرة الأولى أي منذ التصفح السريع له عندما وصل إلى يدي، ذلك التهرب الذكي للشاعر من مسؤولية التعبير المباشر عن الأنا الذي يجب أن ينسرب تحت عنوان كهذا ” هكذا أنا” وذلك عبر الاتكاء على أسلوب المشابهة والمماثلة الذي وجد فيه مهرباً مناسباً من التعبير عن ذاته بطريقة مباشرة، ليس خوفاً من أية محاسبة خارجية أو داخلية ، ولكن من كون ذلك قلقاً من عدم التمكن من وصف نفسه الوصف المستحق ليس في عين القارئ.